كلمة المهندسة والشاعرة ميراي شحاده (رئيسة منتدى شاعر الكورة الخضراء عبدالله شحاده الثقافي) على ضفاف نهر العاصي (مطعم عبد المنعم عابدين) في الندوة حول كتاب د. نزار دندش ” البيئة والإنسان، من براءة البدائية إلى وحشية المدنية المخادعة”في 12 أيار 2024، بدعوة من الدار العربية للعلوم ود. نزار دندش.
كما العاصي الميّاس يشهقُ اليوم حبًّا في مجاريه، يعانقُ الثرى ويغازل السنا عذوبةً في حواريه…وصبابةً يخترقُ القلب، يختالُ في الروض باسمَ الدررِ، مُهَدَّلَ الأَرْدَانِ سَابِغَ الأَزْرِ… غداةَ نوّار، في طباق الثرى يسري متبسّمًا عن صفوةِ نداهُ ورُزمِ جمانٍ على تبرٍ تزدان بها المآقي من فورة حلاه!
كما العاصي يحمل في هودج مساره ومراقي مسيرته أعراسَه البيولوجيّة ومحافله البيئيّة إلى عوالمَ مختلفة ومتنوّعة؛ من مرج بيسان يحاكي الأرز سمّوًا ويعانقُ الزيتون خضرةً والصَّنوبرَ رفعةً والجبالَ الشواهق والسهول والوديان؛ ويتقنُ بوارقَ النضال وأبجديّة محوِ الصدأ عن الدرب ووحشة الظلال…كما العاصي في خدره يغفو عمرٌ وتستفيقُ أجيال! من صبوةِ أساريره يتطايرُ سندسٌ وسورٌ من الأسحار…والأشعار فتعرى صحاري الجهل وتصدحُ عبقريّات وتعلو نواقيس المعرفة ومآذن الجمال.
كما العاصي، هو هذا النزاريّ المرهَفُ الجبّار، يُتعبُ الريح في صَوار مراكبِه…ويجوب الكون، بين شروقه الأنطولوجي وطلوعه الإبستمولوجيّ ينقّب عن دلالاتٍ معرفيّة وجوهريّة ولو معلّقةً كانت على رأس نجمة تختال في درب التبّان أوخارجِها… لا تعصى عليه مفاتنُها ولا يُفلتُ قمحُها من طواحين محبرتِه… يكفيه أن يمدّ يُمناه إلى الفوق ويرشّ بعض الثقوب الكونيّة بماء زهره كان قد عتّقه من أقاحي روضه وعطّره من ياسمين بستانه ولوّنه بريشة من جلناره…
فيتهادى بين المعرفة والمعرفة ويضوعُ في وارفٍ منها دون أصباغ أو تكلّف أو قوالب تثقيفيّة معلّبة بل نقاءٌ ناضحٌ من روحه ورحابة فكره المتوثّب دائمًا إلى أعماق أناه كما إلى لجج هذا الكون وخلاياه لتفتيق الأغوارِ والأشواطِ!
نتحلّق اليوم حول كتاب علميّ لـ د.نزار دندش “البيئة والإنسان، من براءة البدائية إلى وحشية المدنية المخادعة”.
وفخامة العنوان تكفي لتشعروا أيّها الأحبّة بغربة الإنسان عن بيئته ووجع العطورالنائية عن براعم ورودها في هذا الوجود. ولماذا ألفرد نوبل، مخترعُ الديناميت، قد خصّص معظم ثروته لجوائز في مجالات الطب، والفيزياء، والكيمياء، والآداب، والسلام، على أن تسهم جميعها في نفع البشرية.
نخترع الديناميت لتفجير الصخور وشقّ معالم الطرقات وابتكار أنفاق في الجبال وتسهيل معالم الحياة ثم نغتال به أخوتَنا في الإنسانية وأصدقاءنا في البيئة الأسماك والطيور والفراشاتِ البريئة ونئدُ معالم الحبّ والمحبّة في أسفل درك المنافي! فالتسهيل أصبحَ تفاهةً وإسهالًا معرفيّا لن يلتمسه سوى ديوجين الناسك والساكن فيكم. وها الكرة تتثاقل على مناكب الأطالسة المفكّرين، حاملين قبّة السماء كي لا تسقط على رؤوسنا جميعًا، أغبياء كنّا أوحكماء، كي لا يشتعلَ هذا الكوكب الأخضر بنا ممن خرقوا نظامه الكونيّ في عبثية مفرطة وابتكروا عنه الزلازل والبراكين واغتصبوا عصوره الجليديّة وراحوا يحسبون عمر الصخور والكائنات الحيّة لا حبًّا بها بل طمعًا في تحويلها وترويضها وتدجينها… فكلّ صورة وُضعت في إطار صُمِّم لها وكلّ معرفة أُودعت في جواريرَ خاصة تُفتح عند اللزوم… ساعة يريد الجبابرة الأقزام سجن النسور كما البلابل في أقفاص ذهبية يفعلون، وحين يسعون إلى ترويض الحيتان كما قناديل البحر في أزرقهم الشاسع الجميل يبدعون.
يا أحبّة! يقول كاتبنا: “إنّها عبوديّة جديدة تلوّح في الأفق”. واأسفاه، إنّها كذلك.
وأقول لكم، أبعدْ من ثالوث العلم والدين والفلسفة، وأبعد من أزمة الكيمياء والفيزياء وما عُلّب إلينا وجُهِّز من طعام وغذاء وأُدرِجَ في الكتب وعلى الشاشات ولمعَ فوق المنابرِ…وأبعد من أزمة بيئيّة وتحنيط لسيل إنساني في مدارات المعرفة…وأبعد من كلّ ذلك…إنها أزمة حبّ وعشق للجمال وإيمان بالقيَم. نثملُ بالفِكَر المتوسمقة العالية ونتذاكى ثم نغتصب الضوء فيها جهلًا منّا كيف نتماهى مع هذا الحبّ وذاك العطاء المجّاني من الطبيعة، مريدين اعتقاله في مصابيحنا الخاصة… فما نفع شارع مظلمٍ ووطنٍ مظلمٍ وحجرتي وحدها تنعمُ بالضياء!
لمَ كلّ هذا يا ترى؟… لجشع بركانيّ لن يبلغ سدّ فوّهة مطامعنا الماديّة، ولمعالٍ مزيّفة نرجسيّة لا تفقه أن السموّ يكمن في الانحناء إلى عناق راحاتنا لكمشة تراب وفي عناق هذا الآخر في مرايا الوجود. أولست يا ابن الأرض، من الطين جُبلتَ وإلى التراب تعود!؟
يُطالعنا صديقنا النزاريّ في بحثه عن الإنسان في بيئته والبيئة في الإنسان عبر دندنة اثني عشر فصلًا فاتحًا فيها أبواب الحقيقة الأرضيّة والكونيّة على مصارعيها. فكلّ فصلٍ يقدمّ لتابعه مبنى ومعنى يتكامل بهما، فيتقلّب القارئ على مواجعَ من طغيان منفعيّة أعيتْ نوارنيّةَ المعرفة ورسوليّتَها.
في هذه الموسوعة العلميّة، نرى كيف غفلنا عن المعرفة المطلقة بالمنفعة المطلقة وجرّدنا حقيقتنا من أنسنتها، نحن من ندعو ذواتَنا بـ “الإنسان” ونخوض حروبًا في فهم الوجود غافلين أنّنا جزءٌ من هذا الوجود، جزء من ألغازه وغموضه، جزء لا يتجزّأ منذ الأزل وحتى الأبد.
فللذكاء أبعادٌ روحيّة فلا تجمّدوها يا أصحاب المعالي العلميّة. تتعمّقون في عصر الجينوم والهندسة الوراثيّة وتبدعون بالاستنساخ البيوتكنولوجي فتفنى أجسادٌ وتُغتال براءاتٌ وتُبترُ خلجاتُ قلوب.
هذا الجامعُنا اليوم والمظلّلنا بين زخرعلمه ونقاء أدبه وخمر قوافيه، راحَ يشرّع للشمس، مواعيد مع الثرى والثريّا ويطلق مراجيحه من الأرض للسماء…وراح يملي على الغيم ماء زهره كي تُمطرَ حبًّا كالندى مكلّلاً ثغور الزهور فيثملك من كلّ أشيائه ويحمّلُك بعضًا منها. وكي نرسمَ معه فوق الصحاري قوس غمام، ونحيلَ القحل إلى نهر كالعاصي، عاصٍ عن الجفاف… تعالوا نعيد تكوير الكلمات في رحم هذا الوجود، نجلّ الله في خلائقه ومكارمه ونبحث عن إنساننا الأعلى ونكون أسيادًا في المعرفة نصنعُ شرائعنا كي نفكّ الأغلال لا لنصبح جَواري عميان في معتقلات العلم وطغيان المادة.
معك يا د. نزار، معتّقين أبدًا في دنان الوعي، زاهدين مدمنين على الحبّ والجمال.
أو لم يدعونا جان جاك روسو أيضا إلى العودة للطبيعة وتصحيح المسار معها، فالإنسان الطبيعي في الحالة الطبيعيّة هو الذي يعيش في وئام وانسجام مع الطبيعة . قبل وجود هذا المجتمع السياسي الفاسد وظهور الملكية الفردية. كان يعيش حياة سعيدة ويتمتع بحقوقه الطبيعية وكان حرّاً حرية طبيعيّة…
فإلى السعادة درّ أيّها الإنسان،
إلى الحرية، إلى التحليق ، إلى تطريز الفيافي بعبق الريّان
إلى رحلة الفراشات للنور وهاجس الينابيع للتدفّق من أعلى الصخور…
إلى نفض آخر حبّة غبار في خمائل العلوم
إلى صداح السواقي في خريرها الأزليّ
وإلى مزامير المحبّة نعزفها معًا على قيثارة الوجود…
شكرًا د. نزار لهذه الصحوة ولجلاء الشُحوب عن حضن الإنسان، عن بيئته فهي الشهد والشدو ولمعة الشهب في الأفلاك.