مقاطع من كتاب “البطريرك اسطفانوس الدويهي من قمم إهدن إلى قمم القداسة” بالانكليزيّة، الذي وضعتُه مع ابنتي رُبى في العام 2006، بطلب من الصديق الأستاذ أنطوان حربيّة، ونشرته جمعيّة بطل لبنان يوسف بك كرم الزغرتاويّة في أستراليا.
ملاحظة مهمّة: لم نضع الكتاب انطلاقاً من عاطفة عائليّة أو محلّيّة، بل اعتمدنا على النصوص والوثائق بدون أي تدخل من قبلنا.
النشر بالترجمة إلى العربية.
جذور العائلة الدويهية (كان البطريرك الدويهي يسمّيها الطائفة الدويهية):
تُعتبر عائلة الدويهي من أقدم العائلات في إهدن. وتتحدّر العديد من العائلات في لبنان وسوريا من شجرة عائلة الدويهي، مثل رعيدي (تنورين)، وعبيد (عمشيت)، وزريب (عكار)، وحوّا في حلب.
ومن المعروف أن عبيد هو أحد فروع عائلة الدويهي. انتقل بعض أفراد عائلة عبيد من إهدن إلى عمشيت (قرب جبيل) عام 965 م.
ويصرّ المؤرّخ سمعان خازن على أن عائلة لحّود من عمشيت تنحدر من يزبك بن عبيد الدويهي (سمعان خازن، تاريخ إهدن، المجلد الأول. ج3: ص332.).
أمّا عائلة كلاّب من جبيل فتنحدر من مرهج بن طربيه بن عبيد الدويهي.
وتعود عائلة كرم التي سكنت بشرّي ثم دير الأحمر، إلى طانيوس بن عبيد الدويهي.
وانتقلت عائلة كرم مرة أخرى إلى نيحا في شمال لبنان، ثم إلى عمشيت عام 1321.
وعائلة الجرّ في يحشوش ترتبط بالتأكيد بالدويهي.
ومن العائلات اللبنانية الأخرى التي لها جذور في الدويهي: خضير (الزاوية)، قشوع (بيروت)، هنود (دير القمر)، الخوري (إهمج ومشمش جبيل)، أبي قاسم أو أبي الكسم (بيروت)، الهاني (كسروان)، عميرة (مجدل المعوش)، الخ.
- ملاحظة مضافة: يمكن الاطلاع على مزيد من هذه المعلومات في كتاب الأستاذ بطرس وهبة الدويهي القيّم “الدويهيّون 1000 عام من التاريخ الماروني واللبناني”).
ويرى بعض الباحثين أنّ عائلة الدويهي ترتبط أيضاً بعائلات قوبا ومطر وأيّوب وحوّا في حلب.
جاءت عائلة الدويهي إلى لبنان قبل القرن العاشر وأقامت في إهدن.
وهناك تباين كبير بين المؤرخين حول جذور الدويهي. ويقول البعض إن هذه العائلة تنحدر من عائلة فرنسية تدعى “دوي”.
ويدّعي باحثون آخرون أن عائلة الدويهي أتت إلى لبنان من دوي Douai، وهي قرية صغيرة في شمال فرنسا. وكان زعيمهم يسمى “الماركيز دي دوي”.
وينفى المونسنيور بولس حنا ديب سعادة أن تكون لعائلة الدويهي جذور فرنسية. ويرى أن أجداد الدويهي هاجروا إلى لبنان من قرية في سوريا اسمها دويه. كان أفراد هذه العائلة أثرياء ومتعلمين جيدًا.
ولم نسمع قطّ عن قرية في سوريا اسمها دويه.
وأيّد الشيخ سركيس أسعد طنوس الدويهي، الخبير اللامع في أصول عائلة الدويهي، ادعاء المونسنيور سعادة. وأرسل الشيخ سركيس أسعد طنوس الدويهي رسالة إلى فيليب دي ترازي عام 1942 جاء فيها أنّ التقاليد المحفوظة الموروثة عن أسلاف إهدنيين سابقين تشير إلى أنّ أصول عائلة الدويهي تعود إلى شرق سوريا.
وكان فيليب دي ترازي، وهو من المستشرقين، يعتمد على رأي الشيخ سركيس. ويعتبر أن أصل عائلة الدويهي ليس لبنانيًا خالصًا، بل وصلوا إلى لبنان من صدَد، وهي بلدة سورية صغيرة تقع بين دجلة والفرات (المرجع السابق: ص329-332).
***
تاريخ العائلة الدويهية الروحي والسياسي:
كان للعائلة الدويهيّة دور كبير في حماية لبنان والشعب الماروني.
ففي عام 1572، كانت عائلة الدويهي تدير وقف مار سركيس في إهدن. وقامت عائلة جاموس في طرابلس بشراء أراضي الدير، فدفعت عائلة الدويهي مبلغاً كبيراً من المال لاستعادتها.
وأعطت عائلة الدويهي للكنيسة المارونية العديد من المطارنة. ويرى بعض المؤرخين أن نحو ثلاثين رئيساً للأساقفة كانوا دويهيين، منهم: سركيس الدويهي (1565-1577)، مخائيل عبيد (1602-1610)، الياس صرصر الدويهي (1639-1659)، بولس الدويهي (1659-1690) ابن عم البطريرك اسطفانوس الدويهي، جبرائيل الدويهي (1693-1739)، اسطفانوس الثاني (1728-1762)، اسطفانوس الثالث (1810 – 1844)…
ويقول بطرس وهبه الدويهي إن أربعة بطاركة موارنة كانوا من عائلة الدويهي، هم: إرميا عبيد العمشيتي (1199-1230)، يوحنّا مخلوف (الدويهي) (1609-1633)، جرجس عميرة (الدويهي) (1633-1644)، واسطفانوس الدويهي (1670-1704).
واعتمد بطرس وهبه الدويهي على رسالة أرسلها البطريرك إسطفانوس الدويهي إلى الأب بطرس مبارك عام 1701. وقال البطريرك الدويهي في هذه الرسالة: “إن ثمانية رؤساء أساقفة، وبطريركين اثنين، ينحدرون من عائلة الدويهي خلال الجيلين السابقين”.
(تفسير مضاف) يعني البطريرك الدويهي بالجيلين الماضيين البطريرك يوحنا مخلوف، والبطريرك جرجس عميرة. أمّا البطريرك إرميا عبيد العمشيتي، فكان من جيل أسبق (القرن الثالث عشر).
سافر عدد كبير من الدويهيّين إلى روما لتلقي التعليم في المدرسة المارونية. منهم: البطريرك اسطفانوس الدويهي (1641)، المطران ميخائيل عبيد (قبل 1700)، الأب باخوس الدويهي (1669)، جرجس عبيد القسّ حنا الدويهي (1671)، الأب رزق الدويهي (1685)، الأب يوحنا وهبه الدويهي (1696)، والأب يوسف مارون الدويهي (1733)…
ومن المستحيل إحصاء جميع الكهنة الذين ينحدرون من عائلة الدويهي. ومنهم الأب الشهير يعقوب الدويهي، وهو عمّ البطريرك جرجس عميرة.
أقام الأب يعقوب في كنيسة مار يعقوب الأحباش في إهدن. وكان معلماً لامعاً قدّم تعليماً جيداً لأكثر من 100 كاهن، من بينهم البطريرك يوحنا الصفراوي (من الصفرا – جبيل)، والبطريرك جرجس عميرة نفسه. وكتب البطريرك اسطفانوس الدويهي عن الأب يعقوب قائلاً: “منحه الله الصبر الروحيّ والنعمة. وتبرع بمبلغ 4000 قرش من الفضّة لدير قنوبين”.
علاوة على ذلك، أنتجت عائلة الدويهي عدّة حكّام. وإذا عدنا إلى القرن الثامن عشر، فإننا بالتأكيد نذكر حاكمين لإهدن: الشيخ جرجس بولس الدويهي (1757-1779)، ونجله الشيخ يوسف بولس الدويهي (1779-1788).
وتصدّى الشيخ جرجس بولس الدويهي لمسلحي عائلة حمادة قرب مطحنة الشيخ. وأخرج الحماديّين من إهدن والجبة وصادر أراضيهم.
وفي القرن العشرين، كان الأب سمعان الدويهي، راهبًا من عائلة الدويهي، قائدًا سياسيًا شجاعًا وعضوًا في مجلس النواب اللبناني. وكان معروفاً بحبّه وولاءه للبنان.
البطريرك اسطفانوس الدويهي: (1630-1704)
ولد اسطفانوس الدويهي في إهدن. والده ميخائيل، ابن الأب موسى، ابن الأب يعقوب، ابن الحاج إبراهيم الدويهي. والدته مريم الدويهي.
وكان لإسطفانوس أخ اسمه الحاج موسى وله ثلاثة أولاد: الأب ميخائيل، والأب يوسف، والحاج قرياقوس.
وكتب اسطفانوس رسالة إلى الأب بطرس مبارك، الذي كان تلميذاً في المدرسة المارونيّة في روما، قال فيها: “أنا أنتمي إلى عائلة الدويهي المشهورة بين طائفتنا المارونية في الإيمان والتعليم والسياسة… وُلدت في 2 آب 1630، وهو يوافق يوم تذكار القديس اسطفانوس أول الشهداء. وأعطاني والداي اسمه”.
ومن الواضح أن اسطفانوس الدويهي ولد في عهد الأمير فخر الدين المعنيّ. وكتب عن وضع المسيحيين في تلك الفترة قائلا: في عهد فخر الدين كان المسيحيّون محترمين، لأن أغلبية جيش الأمير كانوا من المسيحيين. وكان خدّامه أيضًا موارنة.
ووصف اسطفانوس بعض الجوانب التقليدية التي كان يمارسها المسيحيون، فقد كانوا يركبون الخيل ذات السروج. وزيّنوا أجسادهم بأحزمة حريرية، وحملوا بنادق مرصّعة بالجواهر. وبنيت كنائس كثيرة في بكفيا والعربانيةوبشعلة وكفرزينا…
من ناحية أخرى، لم يكن الوضع السياسيّ مستقراً دائماً بسبب الصراع المرير الذي اندلع بين أمراء معن في الشوف وعائلة سيفا في شمال لبنان. وفي عام 1638، غزا الأمير عسّاف سيفا دير قزحيا بالقرب من إهدن، واستولى على ممتلكات المطارنة والكهنة واضطهدهم.
كان اسطفانوس يبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط عندما توفّى والده. وكانت والدته مريم تتحمّل مسؤولية كبيرة في تربية الطفل بالإيمان والصبر… فأرسلته إلى مدرسة بدائيّة في إهدن ليتعلم اللغة السريانية. وكان موفقاً في دراسته وأظهر قدراً كبيراً من الذكاء والتميز.
رشّح البطريرك جرجس عميرة إسطفانوس لإرساله إلى المدرسة المارونية في روما، برفقة الأب سمعان التولاني، والشمّاس يوسف فتيان الحصروني، ويوسف وبطرس الرامي (من رام البترون) وبطرس ابن الأب إبراهيم الإهدني (ابن عم اسطفانوس).
وصلوا إلى روما في حزيران 1641. وكان اسطفانوس الدويهي يبلغ من العمر أحد عشر عامًا فقط.
***
المدرسة المارونيّة في روما
تأسّست المدرسة المارونيّة في روما رسمياً عام 1584 على يد البابا غريغوريوس الثالث عشر، بعد أن أدرك أنّ الكنيسة اللبنانيّة بحاجة ماسّة إلى كهنة متعلّمين وقادة روحيّين. لكنّ المدرسة المارونيّة قبِلت عدداً قليلاً من الطلاب قبل عام 1584، في حين تبرّع الكاردينال أنطونيو كرافا بكلّ ماله للمدرسة، وعزّز نجاح طلابها.
والعلاقة بين الطائفة المارونية وأوروبا لم تبدأ فقط مع المدرسة المارونية. فمنذ الغزو الصليبيّ للأراضي المقدسة (فلسطين)، كانت الروابط قوية جدًا بين الجانبين، خاصة بعد استيطان رهبان القديس فرنسيس في فلسطين. وأصبحت العلاقات أقوى في القرن الخامس عشر مع وصول المبشرين الغربيين إلى الشرق.
وأول تلميذ لبناني درس في روما سنة 1470، قبل تأسيس المدرسة المارونية، هو جبرائيل ابن القلاعي (من لحفد). وكان من رهبان القديس فرنسيس. وفي عام 1507 أصبح رئيس أساقفة قبرص.
وذهب طالبان لبنانيّان آخران للدراسة في روما عام 1579. هما جبرائيل سعد الأدنيتي (من أدنيت، قرية منقرضة بالقرب من إهدن)، وغسبار الحاج (من موارنة قبرص).
وفي عام 1581، ذهب خمسة طلاب إلى روما. كانوا: يعقوب سمعان (من حصرون)، أنطوان فرنسيس (من حصرون)، جون الريّس (من حصرون)، ماركوس المطوشي (من موارنة قبرص)، ونعمة الحصروني (من حصرون).
وكان برفقتهم الأب مارون اسطفان المطوشي من موارنة قبرص.
وفي 14 كانون الأوّل 1583، وصل ثمانية طلاب إلى روما. كانوا: موسى سعادة (من العاقورة)، جرجس عميرة (من إهدن)، جبرائيل نعمة (من إهدن)، مايكل صليبا (من بسلوقيت)، بطرس المطوشي (من قبرص)، يعقوب بن ميخائيل (من قبرص)، جرجس بن أنطون (من قبرص)، ويوحنا بن جرجس (من قبرص).
وبين تاريخ إنشاء المدرسة المارونية وإغلاقها عام 1808، بلغ عدد طلابها أكثر من 290 طالباً، خمسة وأربعون منهم من قضاء زغرتا. وكان نحو ثلاثين طالباً من إهدن.
ومن تلاميذ المدرسة المارونية الذين صاروا بطاركة: جرجس عميرة (1633-1644)، اسطفانوس الدويهي (1670-1704)، عبد الغال أخيجيان (سرياني) (1658-1677)، يعقوب عواد (1705-1733)، سمعان عواد (1743-1756)، يوسف اسطفان (1766-1793)، ميخائيل فاضل (1793-1795)، يوسف التيان (1796-1809).
والإهدنيون الذين درسوا في المدرسة المارونية – روما هم:
جرجس عميرة (1583)، إبراهيم الإهدني (1583)، يعقوب الإهدني (1583)، جبرائيل الصهيوني الكرمي (1583)، بنيامين الإهدني (1608)، جرجس الإهدني (1608)، سركيس الإهدني (1608)، يعقوب الإهدني (1608)، جرجس يوحنا الكسار الدويهي (1622)، يوسف يوحنا الكسار الدويهي (1622)، سركيس الجمري (1625)، جرجس بن أميمة (1638)، بطرس عميرة (1641)، اسطفانوس الدويهي (1641)، أنطونيوس باخوس الدويهي (1669)، نعمة بن يمين (1669)، جرجس بنيامين عبيد الدويهي (1671)، ميخائيل نعمه (1681)، رزق الدويهي (1685)، جرجس الغاوي (1685)، سركيس بطرس الجمري (1691)، جرجس الزلوعة (1696)، يوحنا وهبه الدويهي (1696)، بطرس الدويهي (1725)، يوسف بن يمين (1727)، جرجس بن يمين (1751)، إبراهيم بن يوحنا الدويهي (1782)، جون الدويهي (1782)، أنطونيوس الصهيوني (؟)، يوسف مارون الدويهي (بعد 1780).
وأصبح بعض هؤلاء الطلاّب مدرّسين في الكلّيات الأوروبية، مثل سركيس الجمري، أستاذ اللغة الشرقيّة في الكلّية الملكيّة بباريس.
وقد ألّف يوحنّا وهبه الدويهي، ابن شقيق البطريرك إسطفانوس الدويهي، العديد من الكتب والمخطوطات، مثل “عمود إسرائيل” و”أشهر الأحداث” على سبيل المثال لا الحصر.
ونذكر بكل فخر جبرائيل الصهيونيّ الكرمي (1575-1648) الذي أرسله البطريرك سركيس الرزّي إلى روما عام 1583. وكان عمره تسع سنوات في ذلك الوقت. أصبح عالماً كبيراً في الفلسفة والدراسات الليتورجيّة، وعُيّن محاضراً في جامعة الحكمة في روما، ثم في جامعة البندقية في إيطاليا. وأمضى أربعة وثلاثين عامًا في باريس، وكان صديقًا مقرّبًا للملك لويس الثالث عشر.
وتحدّث الصهيوني ثماني لغات. وقام بتأليف وترجمة العديد من الكتب والموسوعات.
ومن المؤكد أنّ أحد أذكى طلاّب روما وألمعهم كان اسطفانوس الدويهي.
***
اسطفانوس الدويهي في روما:
كما ذكرنا سابقاً، أبحر اسطفانوس الدويهي إلى إيطاليا وهو في الحادية عشرة من عمره. وسعى جاهدًا إلى أن ينير حياته بالعلم والقداسة.
وأكد العديد من المؤرخين الذين كتبوا عن رحلته إلى روما أن اسطفانوس أظهر نبوغاً في دراسته، وتفوّق على زملائه، وأبدى مهارات متميزة في اللاتينية والعربية والسريانية والدراسات المنطقية والعلوم الرياضية.
ووصف البطريرك سمعان عوّاد الطالب اسطفانوس الدويهي بأنه النسر الذي فاق كلّ الطيور. وكان يسطع بين الطلاب كالشمس بين الكواكب.
كان يراه زملاؤه دائمًا يقرأ، حتى في الأماكن العامة. وكان يتجنب إضاعة الوقت واللعب مع الأطفال الآخرين. علاوة على ذلك، كان كثيرًا ما يستيقظ ليلًا ليقرأ لأكثر من ثلاث ساعات. وفي وقت لاحق، أصيب بالعمى التامّ، ما جعل أساتذته وأصدقاءه يشعرون بالحزن الشديد، خصوصاً عندما كانوا يرونه جالسًا في غرفته غير قادر على الدراسة.
احتمل مرضه الطويل بصبر وإيمان. وطلب من الطلاب الآخرين القراءة له، فأذهلهم لأنه كان يستطيع أن يتذكر ويفهم بسرعة جميع الدروس المقدَّمة له. علاوة على ذلك، كان يشرح لزملائه المفاهيم الصعبة التي لا يفهمونها.
ورغم الجهد الكبير الذي بذله الطفل اسطفانوس، قرر مدير المدرسة المارونية إعادته إلى لبنان. وهذا ما جعله يشعر بالقلق والاكتئاب الشديد. وشعر أنه لا دواء ولا علاج يمكن أن يشفيه. ثمّ قصد الكنيسة، وركع أمام السيّدة العذراء وطلب منها المعونة، وقدّم نذراً لها، فتعافى على الفور من العمى، ولم يعانِ قط من مشكلات في عينيه حتى في اليوم الأخير من حياته.
ولمّا سمع معلموه وأصدقاؤه بمعجزة القديسة مريم امتلأوا فرحًا وسرورًا. ولم يخبر أحداً عن النذر الذي قطعه. وكل ما قال عنه هو: “إنّ نذري كان قليلاً جداً. وأستغرب أن القديسة مريم قبلته وكافأتني بالشفاء.”
وهكذا أنهى اسطفانوس دراساته الفلسفية بنجاح عام 1650، وقدم أطروحة أكاديمية مفصلة بعنوان:
Conclusiones Philosophical EE. Principi Aloysio S.R.E. Cardinale Capponio a Stephano Edenensi… Dicatae. Romae, 1650.
ودافع عن آرائه بقدر كبير من المنطق أمام عدد كبير من المعلمين والعلماء وعلى رأسهم الكاردينال كابونيو. وقد تأثروا كثيراً بفرضية اسطفانوس الأكاديميّة. فسمحوا له بنشرها. ومنذ ذلك الحين، انتشرت عبارة “Stephanos Edenensi Maronita” في إيطاليا وفي جميع أنحاء أوروبا. وقال البعض: “لا يوجد مثله في إيطاليا”.
وفي أوروبا، أصبحت كلمة “Edenensi” مرادفة لكلمة “عبقري”. وصار يُقال لكل طالب ذكيّ: أنت “Edenensi”، أي إهدني، نسبة إلى اسطفان الدويهي.
وبعد أن أنهى دراسته الفلسفية، بدأ اسطفانوس بدراسة الليتورجيا. وقال أستاذه أسبارسا الذي درّس في العديد من المعاهد الأوروبية الشهيرة: “لم يسبق لي أن علمت طالبًا مثل اسطفانوس الدويهي”.
وفي سنة 1654، أكمل اسطفانوس دراسته بأطروحة(*) ممتازة أخرى أهداها إلى البطريرك يوحنا الصفراوي. لم يساعده أساتذته إطلاقاً أو يقدموا له أي مساعدة أثناء المناقشات المطولة لأطروحتيه. وتركوه يدافع عن آرائه، وهم يشعرون بالفخر من ثقته وذكائه.
تلقى الشعب الإيطالي أخباراً مجيدة عن اسطفانوس الدويهي، وتحدثوا عنه أكثر مما تحدثوا عن احتفالاتهم المسيحية الكثيرة. وكان بعضهم يترك عمله اليومي ليستمع إليه وهو يخطب. لقد أرادوا أن يتعلموا أفكار الرجل الأكثر ذكاءً في إيطاليا قاطبة.
وبعد أن أنهى دراسته، أمضى اسطفانوس ثمانية عشر شهرًا في روما، قبل أن يبحر عائداً إلى لبنان. وكان خلال هذه الفترة يزور المدارس والمكتبات بحثاً عن مراجع عن الشعب الماروني، فقرأ مئات المخطوطات وجمع معلومات قيّمة، ما ساعده على كتابة بعض كتبه التاريخية والدينية.
وعندما كان اسطفانوس الدويهي طالبًا في روما، بدأ بتأليف كتاب عن الفردوس الأرضي. وكان يعتبر أنّ إهدن هي “جنة عدن”.
وقبل أن يغادر روما عائداً إلى وطنه الأم، عيّن المجمع المقدّس اسطفانوس الدويهي مبشّراً. وحثه أعضاء المجمع على البقاء والتدريس في روما. كما طلب منه رجل إيطالي ثري أن يعلم أولاده براتب شهري قدره 40 قرشاً. وحاول الآباء اليسوعيون في روما إقناعه بالانضمام إليهم. فرفض كل هذه العروض السخية، مفضّلاً الإبحار عائداً إلى لبنان لخدمة مواطنيه.
وفي 3 نيسان 1655، عاد اسطفانوس إلى لبنان. وبمجرّد وصوله إلى إهدن، أنشأ مدرسة صغيرة لتعليم أطفال قريته والمناطق المحيطة بها.
وفي 25 آذار 1656، رقّاه البطريرك يوحنا الصفراوي كاهناً على مذبح كنيسة مار سركيس (رأس النهر – إهدن). وككاهن جديد، استمر اسطفانوس في تعليم أبناء إهدن والقرى المجاورة. وبدأ بتأليف كتابه الشهير “شهادة عن تجسّد يسوع المسيح في القربان المقدّس”.
(*) ملاحظة: يعتبر العرب أنّ أول دكتوراه عربيّة كانت لجزائريّ، هو محمد بن أبي شنب، (1869-1929) ، وقد حصل على الدكتوراه في العام 1920. وللحقيقة والتاريخ فإنّ اسطفان الدويهي أنجز في روما شهادتي دكتوراه قبل أبي شنب بمئتين وسبعين سنة. فاقتضى التوضيح والتصحيح.
***
قبل أن أنشر عن اسطفانوس الدويهي بطريركاً، أختصر بعض أقسام الكتاب بما يلي:
توجّه اسطفان الدويهي كاهناً إلى حلب عام 1657، حيث أمضى ثمانية أشهر، وكان يساعد عبدالغال أندراوس أخيخيان في استعادة أبناء الطائفة السريانية إلى الكنيسة الكاثوليكية. وكان الدويهي يعظ في كنيسة مار الياس، ويجادل اليعاقبة في إيمانهم. عاد إلى لبنان، فرمم كنيسة مار يعقوب الأحباش في إهدن، وعلّم هناك 40 تلميذاً، ثم انتقل إلى جعيتا، فعلّم 15 تلميذاً. ورفض أن يكون مطراناً خلفاً لالياس الإهدني. ثمّ انتقل في مهمة رعوية إلى الشوف، البقاع، صيدا، مرجعيون ووادي التيم، فأمضى 3 شهر. وفي العام 1660 طلب منه القنصل الفرنسي في حلب فرنسيس بيكات أن يتوجه إلى الهند لتأسيس كنيسة كاثوليكية، فرفض لأنه لا يعرف اللغة ولا التقاليد الهندية. وفي تلك السنة خدم في بلدة أرده والقرى المجاورة لها، فكان يسير طول النهار على قدميه من بيت إلى بيت ليزور المرضى ويصلّي لهم، ثم اضطر لشراء بغل يساعده على التنقل. بقي يخدم في أرده سنة، قبل أن يعود مجدّداً إلى حلب، فأسّس هناك مدرسة “الكتّاب المارونيّ”. وبعد عودته إلى إهدن (1668)، طلب منه البطريرك جرجس البسبعلي أن يذهب للخدمة في قبرص، ففعل.
-كيف أصبح الدويهي بطريركاً؟
في 12 نيسان سنة 1670، توفّى البطريرك جرجس البسبعلي في مار شلّيطا مقبس، بعد إصابته بالطاعون.
وقد انتشر وباء الطاعون في لبنان وسوريا عام 1668، وقتل نحو 140 ألف شخص في حلب، و75 ألفاً في دمشق، والعديد غيرهم في لبنان. وكان منهم البطريرك البسبعلي. ورفض الكهنة دفن جثمان البطريرك المتوفّى تحت كنيسة القديس شليطا مقبس، تفادياً للإصابة بالوباء. فدفنوه تحت صخرة كبيرة غربي الكنيسة.
وتم تأجيل انتخاب بطريرك جديد حتى 20 أيّار 1670، لأنّ رجال الدين لم يتمكنوا من مغادرة أديرتهم بسبب خوفهم من الإصابة بالطاعون.
وتزامنت تلك الأحداث الدرامية مع عودة اسطفانوس الدويهي من قبرص. وتمّ انتخابه ليكون البطريرك الماروني الجديد، فرفض قبول هذا المنصب، واختبأ بعيدًا عن أعين الناس، حتّى عثر عليه الأساقفة وأقنعوه بتغيير رأيه.
وامتدت الاحتفالات التي أعقبت انتخاب البطريرك الدويهي من إهدن إلى الجبة وزغرتا والعديد من المناطق اللبنانية…
وعندما تم انتخاب اسطفانوس الدويهي كبطريرك ماروني، عارض الشيخ نادر أبو نوفل الخازن، وهو من أشراف كسروان، هذا الانتخاب، وكتب إلى المطارنة الموارنة والبابا والمجمع المقدّس في روما يشرح لهم أسباب معارضته. كما عارض بعض المطارنة انتخاب البطريرك الدويهي.
ويرى بعض المؤرخين أنّ معارضة الشيخ نادر الخازن تلك، لها علاقة بالديون الضخمة التي خلّفها البطريرك جرجس البسبعلي. وكان الشيخ نادر يخشى ألا يتمكن البطريرك الدويهي من سداد الديون، فتضطر عائلة الخازن الثرية إلى سدادها.
وكان الشيخ نادر قد تبرّع ببعض أراضيه وأملاكه في كسروان، ومنح أجزاء كبيرة من ثروته للكنيسة المارونية.
وبعد انتخابه بطريركاً، أرسل إسطفانوس الأب يوسف شمعون الحصروني إلى العاصمة الإيطالية لتسلّم درع الموافقة.
وعلم البطريرك اسطفانوس الدويهي أن الشيخ نادر أبو نوفل الخازن ادعى في رسالته إلى البابا، أنّ البطريرك الجديد يختبئ في مغارة معزولة خوفًا من وباء الطاعون، فأصيب اسطفانوس بصدمة وخيبة أمل شديدة، فكتب على الفور رسالة إلى رسوله الأب يوسف شمعون، يطلب منه العودة إلى لبنان دون الدرع. وعندما حاول ختم الرسالة ثلاث مرات، لم يلتصق ختمه عليها، فاعتبر ذلك علامة إلهية له على الإصرار على استلام الدرع.
وأكّد المطران (البطريرك) نصر الله بطرس صفير أن البطريرك الدويهي انتقل إلى كسروان لتسوية الخلاف مع الشيخ نادر أبو نوفل الخازن. وعُقد اجتماع مصالحة في كنيسة القديس شليطا مقبس. وزعمت بعض المراجع أن البطريرك الدويهي التقى بالشيخ نادر في عجلتون-كسروان. وبعد فترة وجيزة، أصدر الشيخ نادر رسالة إلى روما أعلن فيها دعمه للبطريرك الجديد.
وفي 8 آب 1672، أرسل البابا أكليمنضس العاشر رسالة الموافقة إلى البطريرك الدويهي، لكنّ الأب يوسف شمعون الحصروني، الذي حمل الرسالة، لم يغادر روما إلى لبنان إلا في 6 تشرين الأول 1672.
وفي كانون الأول 1672، أرسل البابا درع “البليوم” إلى البطريرك الدويهي. ويمثل الدرع موافقة الكنيسة الكاثوليكية في روما على التعيين الجديد.
وكان الباليوم عبارة عن وشاح مصنوع من الصوف. له طرفان، أحدهما معلّق على الصدر والآخر على الظهر. وتم تضمين كل طرف صلباناً سوداء.
ويؤخذ صوف الباليوم من خروفين أبيضين، يتمّ التبرع بهما سنويًا من قبل المشرّعين في كنيسة سانت جون لا ترون.
وكان البابا يبارك الخروفين في كنيسة القديسة أغنيس كل عام، في 21 كانون الثاني (يوم ذكرى القديسة أغنيس). ثم تقوم راهبات القديس لورنتينوس بتربية الحملين. وبعد ذلك يتم قطع الصوف لصنع الدرع.
ويوضع الدرع على قبر القديس بطرس في يوم ذكراه. فيبقى هناك لمدّة يومين.
واختار البابا مطران العاقورة جرجس حبقوق البشعلاني، ومطران حلب جبرائيل البلوزاني، لوضع الباليوم حول عنق البطريرك إسطفانوس الدويهي.
***
الدويهي الكبير
-تواضع البطريرك الدويهي:
على الرغم من أنّ البطريرك اسطفانوس الدويهي، قد حاز على العديد من الألقاب العظيمة، منها: أبو التاريخ اللبناني، منارة الشرق، عالِم كل العصور، الفم الذهبي، البطريرك الأعظم، تاج العلماء الموارنة، المعلم الكامل، قبة الحكمة، معلِّم المشرق، أعظم رجل من لبنان، فخر الطائفة المارونية، الفيلسوف الروحي… فإنّه كان معروفاً بالتواضع. ومنذ أن كان طالبًا في روما، كان العديد من الإيطاليين يتركون أعمالهم للاستماع إلى محاضراته، لكنه لم يظهر إطلاقاً أيّ شعور بالتفوق أو الفخر.
لم يأكل في حياته الفواكه والخضروات الطازجة، متذكرًا الأشخاص الذين يتضوّرون جوعًا بسبب الفقر. كما أنه لم يتناول اللحوم إلاّ إذا نصحه أطباؤه بذلك. ولما عاد من إيطاليا عزل نفسه في دير مار يعقوب الأحباش – إهدن وأنشأ مدرسة صغيرة لتعليم الأطفال.
علاوة على ذلك، عندما اختير ليكون رئيس أساقفة قبرص الجديد، لم يطلب الإقامة أو الراتب الشهري. وعندما تم انتخابه بطريركًا جديدًا، رفض المنصب، ثم قبله تحت ضغط الجمهور ورجال الدين.
ككاتب ومؤرخ، لم يكن اسطفانوس الدويهي يسعى إلى الشهرة أو المجد. لقد كتب ما اعتبره صحيحًا، دون انتقاد أيّ من معارضيه.
وكان بطريركًا متسامحًا وصبورًا. وبعد أن صفعه عيسى حماده، سامحه ولم يسمح بالإساءة إليه.
ولمّا هرب إسطفانوس من قنوبين ليختبئ في مغارة في الوادي، هرب معه الأب الياس شمعون الحصروني. فعبرا نهرًا باردًا بعد منتصف الليل. وأدرك البطريرك الدويهي أنّ الأب شمعون كان يعاني من برودة الطقس. فأشعل البطريرك ناراً وقدّم له الشراب. تجاهل آلامه واهتم بالأب شمعون.
ومرة أخرى عاد كاتب البطريرك من طرابلس إلى قنوبين. كانت السماء تمطر بغزارة. ولما رأى البطريرك الكاتب يرتجف، ترك فراشه ناسيًا مرضه. فمشى على ساق واحدة إلى صندوق خشبي. وهناك قدم لكاتبه قميصًا وكأسًا من الشراب.
وفي مناسبة أخرى كان البطريرك مسافراً إلى قرى جبيل العليا. كان الثلج كثيفًا وغطى كل شيء. ولما لاحظ ارتعاش أتباعه نزل عن حصانه ومشى معهم.
كما اشتهر اسطفانوس بمساعدة الفقراء والمحتاجين. وفي كلّ مرة كان يتلقى أموالاً من ملك فرنسا لويس الرابع عشر، كان يقدم جزءًا كبيرًا من تلك الأموال للعائلات الفقيرة.
وكانت ملابس البطريرك الدويهي بسيطة. وقال شهود عيان إنّ قميصه كان قديماً ومتهالكاً. وارتدى ثوبه الأزرق لسنوات عديدة.
وذات مرة أهداه رجل من حلب قطعة من الحرير. فأعطاها البطريرك الدويهي لأحد العمّال في الوادي، وأخذ منه ملابسه القديمة.
وأضاف شهود العيان: “كلّما زار فلاح البطريرك الدويهي، كان يرحب به عند الباب، ويجلسه على كرسيه، ويقدّم له الشراب في كأسه، ويعامله كأخ”.
وروى سمعان عواد أن البطريرك الدويهي كان يعامل تلاميذ مدرسته في قنوبين بالحب والرحمة. وكان يأتي بالعنب والطعام الحلو واللذيذ ليقدمه لهم.
وأظهرت المراجع أن البطريرك اسطفانوس الدويهي، رغم تواضعه، كان رجلًا شجاعًا يحترم نفسه وشعبه وكنيسته. وقد شوهد عدة مرات يصلي إلى الأم مريم ويتحدّث معها بصوت مسموع. فقالت له ذات مرة: “لا تقلق على ممتلكات الدير. لن يلمسها أحد.”
وفي مناسبة أخرى، دخل كاهن إلى غرفة الدويهي. فوجده يبكي وينتحب. فسأله الكاهن: ماذا حدث؟ فأجاب: “كيف يمكن للصوص أن يقفوا في طريق السيّدة العذراء مريم؟ ما الذي يمكن أن يسرقوا منها؟” وكان البطريرك حينها يفكر في هروب عائلة يسوع إلى مصر.
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي.