عَقلٌ عِلمِيٌّ مُتَنَوِّرٌ… ومُعتَقَدات!    

 

 

 

 

(قِراءَةٌ في كِتابِ «قِطَعُ غِيارٍ لِلآلِهَة»، لِلكاتِبِ اسكَندَر يُوسُف (إِبْنُ الشَّرْق))

 

 

مُفتَتَح

هو كِتابٌ يَتَعَرَّضُ لِأَدَقِّ المَوضُوعاتِ حَساسِيَّةً عِندَ النَّاسِ، أَلَا وهي الدِّينُ ومُسَلَّماتُهُ، والمُجتَمَعُ وأَعرافُهُ، والسِّياسَةُ ومُمارَساتُها، وذلك بِأُسلُوبٍ رَمزِيٍّ اختَصَّ بِهِ يَطغَى عَلَيهِ الهُزْءُ والمُمازَحَةُ، والنَّقْدُ الَّذِي لا يُبقِي ولا يَذَر. وكَفَى بِالعُنوانِ «قِطَعُ غِيارٍ لِلآلِهَة» ما يُوحِي بِمَضمُونٍ مُستَفِزٍّ مُشاكِس. وهو لا يُقرَأُ بِاستِخفافٍ ولامُبالاةٍ، وما هو بِمَوضُوعِ تَسرِيَة. إِنَّهُ رِحلَةٌ في مَجاهِلِ الفكرِ، ومَتاهاتِ الدَّلالاتِ، وضَبابِيَّةِ الفَلسَفَةِ، وآخِرِ نَجاحاتِ العِلمِ، واستِغلاقِ الماوَرائِيَّات.

ونَحنُ لا نَتَذَمَّرُ مِن صَراحَتِهِ في إِبداءِ رَأيِهِ، بَل نُرَدِّدُ مع بَدَوِي الجَبَل:

سَبَّةُ الدَّهرِ أَن يُحاسَبَ فِكرٌ      في هَواهُ، وَأَنْ يُغَلَّ لِسانُ.

والمُؤَلِّفُ، نَعرِفُهُ صادِقًا مُصلِحًا ساعِيًا في الخَيرِ، لا «يُحرِقُ رُوما» لِلتَّلَذُّذِ بِلَهَبِها والأَنوارِ، ولا «يَرسُمُ الشَّيطانَ على الحِيطان Peindre le diable sur la muraille» مُتَخَيِّلًا أَخطارًا، أَو مُرَوِّجًا لَها.

وقد اختَلَطَ بَيانُهُ الرَّامِي إِلى وَضْعِ مُعتَقَداتٍ قَدَّسَها المَلَأُ على طاوِلَةِ التَّشرِيحِ، لِإِعمالِ المِبْضَعِ فِيها بِلا هَوادَةٍ، تَعضُدُهُ ذِكرَياتُهُ المُنداحَةُ مِن صِغَرِهِ إِلى عُمْرِ الحِلْمِ والأَسئِلَةِ المَحظُورَة، والَّتي وَظَّفَها في خِدمَةِ طُرُوحِهِ، فَبَدا الحاذِقَ المُتَمَرِّسَ، الَّذي «يَعرِفُ جَيِّدًا مِن أَينَ تُؤْكَلُ الكَتِف».

وفي مُحاوَلَتِهِ إِنارَةَ طُرُقٍ اعتادَ النَّاسُ على غُبارِها ووُحُولِها، كانَ يَدفَعُ الأَثمانَ ولا جَرِيرَةَ عَلَيه. فَيَبلُغُ الضِّيقُ بِهِ مِن سَذاجَةِ قَومِهِ، وخُبثِهِمِ، ومُعتَقَدِهِمِ الأَبلَهِ، كُلَّ مَبلَغٍ، فَيصرُخ: «العَمَى بِقَلب القِيَم والأَخلاق، لا إِذا واجَهتُها أَخلُصُ ولا إِذا رَقَّعتُها أَرتاح. ذَنبِي أَنَّنِي لَم أَكُن أَعمًى مِثلَها، ولا أَتَلَبَّسُ كَما تَتَلَبَّسُ مَفاهِيمَ كُلِّ مُجتَمَع» (ص 45).

إِنَّهُ ابْنُ الشَّرقِ…

أَشرَقَت مِن شَقِّ يَراعِهِ شَمْسُ مَعرِفَةٍ ضافِيَةٍ، فَراحَ يَنثُرُ الآياتِ، والتَّأَمُّلاتِ البَعِيدَةَ الأَغوار.

هو الكاتِبُ الصَّدِيقُ المُهَندِسُ اسكَندَر يُوسُف.

فِيهِ اجتَمَعَ العَقلُ العِلمِيُّ المُنَقِّبُ، والمَعرِفَةُ الضَّافِيَةُ بِالتَّارِيخِ، والتَّشَبُّعُ مِنَ الأَساطِيرِ الَّتِي تَمَلَّكَت عُقُولَ البَشَرِ عَبْرَ عُصُورٍ مُتَوالِيَةٍ غابِرِة، والاطِّلاعُ على الأَديانِ كافَّة. هذا… إِلى دَماثَةٍ في الخُلُقِ، وظَرْفٍ وكِياسَةٍ، ومَيْلٍ إِلى التَّنَدُّرِ، ومُجالَسَةِ الصَّحْبِ على كَأسٍ نَدِيَّةٍ، ومَجلِسِ سَمَرٍ ومِلاحٍ، ولَيلٍ يَطِيبُ فِيهِ المُباح…

ولكِنْ…

أَنَّى لِعَقلٍ مُتَنَوِّرٍ يُواكِبُ العِلمَ ومُنجَزاتِهِ، والفَلسَفَةَ حَتَّى آخِرِ فُتُوحاتِها، أَنْ يَبسُطَ على الوَرَقِ ما لَمَسَتهُ بَصِيرَتُهُ في مُجتَمَعٍ ما تَزالُ فاعلِةً فِيهِ مُعتَقَداتٌ عَتِيقَةٌ مَزَّقَ العِلمُ الكَثِيرَ مِن جَسَدِها الواهِي، ولكِنَّها تَبقَى مَصُونَةً في عُقُولِ المَلايِينِ، يَذُودُونَ عَنها بِالغالِي والنَّفِيس؟!

هاكُم ما قال (ص 271): «… وخُذُوا على آلِهَةٍ ومُرسَلِينَ، كُلٌّ يُطَوِّعُ الأُسطُورَةَ على هَواه. والشَّعبُ الخائِفُ مِنَ الغَيْبِ، أَو المُتَوَجِّسُ مِن حَقائِقِ البِداياتِ، خَصِبُ الاقتِناع».

أَمَّا في ما يَخَصُّ الشَّعبَ – الرَّأيَ العامَّ الَّذِي شَبَّهَهُ سَعِيد تَقِيِّ الدِّين بِالبَغْلِ – فَيَقُول: «مع الشَّياطِينِ يُمكِنُ التَّفاهُمُ، لكِنْ مع غَضَبِ الشَّعبِ لا يُمكِنُ التَّعامُل» (ص 34).

على أَنَّهُ ما تَوانَى أَو تَلَكَّأَ، بَل راحَ يَنشُرُ أَفكارَهُ، ويَطرَحُها لِكُلِّ مَن أُوتِيَ نِعمَةَ القِراءَةِ وفَكِّ الرُّمُوزِ العَصِيَّةِ، وتَمَثُّلِ غُمُوضٍ صَعْبِ المَنالِ، وإِشاراتٍ مُلَفَّعَةٍ بِحِجابٍ كَثِيف.

***

العَقْل

أَزمَعْنا على قِراءَةِ ما دَبَّجَ صاحِبُنا، آمِلِينَ أَنْ نَفُكَّ مِنْ أَسرارِهِ ورُمُوزِهِ ما وَسِعَنا أَنْ نَفعَل. وها نَحنُ في مَعمَعَتِهِ ومَهْمَهِهِ، تارِكِينَ لِلقارِئِ ما حَصَدْنا مِن سَنابِلِهِ المَذرُورَةِ في مَدارِجِهِ وحِفافِهِ السَّرِيعَةِ الانزِلاق.

هذا الكاتِبُ لا يُؤْمِنُ إِلَّا بِما يُقِرُّهُ العَقْلُ، فهو على سُنَّةِ أَبِي العَلاءِ المَعَرِّيِّ القائِل: فَلا تَقْبَلَنْ ما يُخبِرُونَكَ ضِلَّةً        إِذا لَم يُؤَيِّدْ ما أَتَوْكَ بِهِ العَقلُ.

وهو قاسٍ جارِحٌ في كَلامِهِ على «صُنَّاعِ الأَوهامِ»، وبَراعَتِهِم في «تِجارَةِ الآلِهَةِ» وتَطوِيرِها وتَجدِيدِها بــِ «قِطَعِ غِيارٍ» مُناسِبَة (ص 6).

وها يَقُولُ، على لِسانِ كاهِن: «ثُمَّ هل أَنا أَفضَلُ مِنَ اللهِ، الَّذِي تَغلغَلَ في عُقُولِ البَشَرِ بِأَساطِيرَ وسَذاجاتٍ تُحاكِي مَفاهِيمَهُم، على الأَقَلِّ كَما نُقِلَ عَنه؟» (ص 260).

يَبدُو أَنَّهُ مِن رَأْيِ مَنْ قال: «الدِّينُ أَفيُونُ الشُّعُوب» مِن غَيرِ أَن يَكُونَ مُلتَزِمًا بِفِكرِهِ السِّياسِيّ.

قد يَراهُ بَعْضٌ مُتَجَنِّيًا، حِينَ هو، بِالأَحرَى، جَرِيءٌ في صَراحَتِهِ، يَبُثُّ الحَقِيقَةَ عارِيَةً خالِيَةً مِنَ البَراقِعِ، ويَحمِلُ لِواءَها عالِيًا بِيَدَينِ مُجَرَّدَتَينِ مِنَ القَفافِيز، فَيَقُول: «يَأخُذُونَ قِطعَةً مِن إِلهٍ ما ويُزَيِّنُونَها بِأُخرَى مِن إِيمانٍ آخَرَ، وبِغَيرِها مِن حاجَةِ أَو رُؤْيَةِ غَيرِهِ، ويَصقُلُونَها بِالمَفاهِيمِ المَحَلِّيَّةِ، فَتَبدُو كَأَنَّها الشَّمسُ الخاصَّةُ لِكُلِّ فَرْدٍ الَّتِي سَتَستَجِيبُ لاستِرحامِ ظُلُماتِه. […] ثُمَّ يُعادُ تَدوِيرُها وخَلطُها بِأَعضاءِ رُؤًى أُخرَى، لِتُواكِبَ المُوضَةَ والحاجاتِ المُستَحدَثَة» (ص 6).

ورُبَّما قالَ بَعْضٌ مِمَّن هالَهُم ما في الكِتابِ مِن نَقَداتٍ تَخرُجُ عَن حُدُودِ المُتَعارَفِ عَلَيهِ مِن رِعايَةِ الصِّلاتِ بَينَ البَشَرِ، حَتَّى إِنَّ المُؤَلِّفَ قَطَعَ «شَعْرَةَ مُعاوِيَة» في مَواضِعَ شَتَّى، وأَقفَلَ الطَّرِيقَ على كُلِّ تَقَبُّلٍ وتَأوِيل. وصَراحَتُهُ، وإِصرارُهُ على الحَقِّ – كما يَراه -، ناصِعًا لا تَكسُوهُ المَساحِيقُ، قد يَجعَلانِ الكَثِيرِينَ يَرفَضُّونَ عَن مَجلِسِهِ، ولا تَحمِلُ أَلسِنَتُهُم لَهُ إِلَّا الشَّماتَةَ بِضلالِهِ وغَيِّه. فَنَراهُ، مَثَلًا يَقُول: «هَؤُلاءِ المُعتَقِدُونَ كانُوا يَسمَعُونَ نَهِيقَ الدَّابَّةِ الغَرِيبَ ويَعتَبِرُونَهُ آيَةً، فَيَستَرضُونَها بِكُلِّ الأَطايِبِ لِتَدعُوَ لَهُم» (ص94).

***

المَرأَةُ والمُجتَمَعُ والوَطَن

لِكاتِبِنا رَأيٌ في النَّفسِ البَشَرِيَّةِ، لا يَتَعارَضُ مع ما يَرَى التَّحلِيلُ النَّفسِيُّ العِلمِيُّ الرَّصِين. يَقُول (313): «لَيسَ هُناكَ حُدُودٌ بَينَ الخَيرِ والشَّرّ»، فَيُذَكِّرُنا بِقَولِ جُبران خَلِيل جُبران في كِتابِهِ النَّبِيّ: «إِنَّ القَتِيلَ ليس بَرِيئًا مِن جَرِيمَةِ القَتل».

وقد صَوَّبَ إِلى داءٍ عُضالٍ في الشَّرائِحِ الكُبرَى مِن مُجتَمَعِنا حِينَ قال (ص 314): «كَم يُؤْسِفُنِي أَنَّ العَقلَ الجَماعِيَّ ما زالَ يَنقادُ إِلى الهَوَسِ العامّ».

صَدَقتَ، يا صاحِبَنا، وإِنَّا لَشاهِدُونَ، في مُحِيطِنا العَرَبِيِّ، التَّرَدِّيَ المُطَّرِدَ النَّاجِمَ عن هذا الانقِيادِ الأَعمَى.

مِن أَفكارِ كاتِبِنا الخالِصَةِ الرُّؤْيَوِيَّةِ (ص 315): «فَالعَقلُ قد يخدَعُ الطَّبِيعَةَ، لكِنَّهُ لا يَخدَعُ إِلَّا نَفسَه». وهذا ما نُعانِيهِ، اليَومَ، مِن تَجَنِّي الإِنسانِ على الطَّبِيعَةِ بِما تَنفُثُ مُنجَزاتُهُ العِلمِيَّةُ مِن تَلَوُّثٍ في طَبقَةِ الأُوزُونِ، ما يَنعَكِسُ بِالسُّوءِ على الكُرَةِ الزَّرقاءِ؛ وهذا مِثالٌ مِن كَثِير.

وإِنَّنا لَنَجِدُهُ صادِقًا في صَرخَتِهِ – ونَحنُ مَعَهُ فِيها – ، وهي صادِرَةٌ مِن جُرْحٍ  نازِفٍ في القَلبِ، وإِخلاصٍ لِلحَياة: «لَقد عَبِثْنا كَثِيرًا في مَفاهِيمِ الحُرِّيَّةِ […] فَبِتنا أَسوَأَ مِمَّا كُنَّا نَستَخِفُّ بِهِ مِن تَقالِيدَ قَدِيمَة. صِرنا عَبِيدًا لِما نَكتَشِفُ، بِدُونِ الالتِفاتِ إِلى ما يُرِيحُ داخِلَنا مِن أَبسَطِ الأَجوِبَة. ولِلحَقِّ أَقُول: الأَفضَلُ أَلفَ مَرَّةٍ الخُضُوعُ لِتِلكَ التَّقالِيدِ بِقِيَمِها، مِن انفِلاتِ عِقْدِ الإِنسانِ وتَوازُنِهِ فَتَفاعُلِهِ مع أَرضِهِ وسِواه» (ص 315).

وفي يَمِّ الفَلسَفَةِ والمَعمِيَّاتِ يَحبُونا طُوبِيَّاتٍ جَمِيلَةَ الأُسلُوبِ، رَخِيَّةَ الوَقْعِ، بَرِيئَةً مِنَ الوَعْظِ الجافّ. يَقُول:

«طُوبَى لِمَن فَهِمَ قَبلَ الواقِعَةِ الأَخِيرَةِ، وحَفِظَ في نَفسِهِ بُذُورَ البَراءَةِ في سَلامِها مع الحَياةِ وتَقَبُّلِها لِسَرَّائِها وضَرائِّها.

طُوبَى لِمَن اكتَفَى مِنَ الدُّنيا بِبَعضِ لَحَظاتِها واقتَسَمَ عَطاياها مع سِواه.

طُوبَى لِمَن حَفِظَ سِرَّ سِواهُ، ولَم يُحاوِلْ هَتْكَ سِرِّ الحَياةِ والمَوت. فَهذا السِّرُّ الأَخِيرُ لا يَقبَلُ العَبَثَ فِيه» (ص 307).

ولَهُ رَأيٌ في المَرأَةِ، قد يُثِيرُ حَفِيظَةَ بَعضِهِنَّ، حِينَ يُرضِي الكَثِيرات. يَقُولُ (ص 130): «مُجَرَّدُ ذِكْرِ الجَمالِ كافٍ لإِقناعِ مَن لَم تَقتَنِع. بذلك أَلبَسَها أَمزِجَةَ القَضِيَّةِ فِيما كانَ يَحِيكُ لَها ما تَناثَرَ مِن أَوراقِ التِّينِ والتُّوتِ ثِيابًا، تَستُرُ عُرْيًا فِيها، وتَكشِفُ آخَر. […] تَفَشَّى خِصْبُ جَسَدِها في ثِيابِها، فَتَناسَلَ التَّفسِيرُ مِن صِراعِ العَينِ والقَلبِ، وأُجهِضَتِ الفُصُولُ مِن تَشَعُّبِ سَأَمِها مِن ثَوبِ الأَمس. فَباتَت تُبهِمُ إِيمانَنا بِالجَسدِ وما يُقَلِّبُ مِن أَلبِسَةٍ تُؤَنِّثُ، بَعدَما أَنَّثناها إِيمانًا لَنا».

ويَقُولُ (ص 274): «أَلَم تَصِلْكَ مِنَ النِّساءِ مُوَضُ الثِّيابِ، الَّتِي تُعَرِّي المَرأَةَ فِيما تُلبِسُها».

وفي مَعرِضِ كَلامِهِ على حَوَّاءَ يَقُول (ص 131): «أَلَم تُولَدْ أَخلَدُ قِصَصِ الحُبِّ مِنَ التَّشاتُم؟»؛ لَكَأَنَّ في خَلَدِهِ ما قالَهُ الشَّاعِرُ جَمِيلُ بنُ مَعْمَرَ لِحَبِيبَتِهِ بُثَينَة:

وَأَوَّلُ ما قادَ المَوَدَّةَ بَينَنا،         بِوادِي بَغِيْضٍ، يا بُثَيْنَ، سِبابُ

وَقُلنا لَها قَولًا، فَجاءَتْ بِمِثلِهِ،        لِكُلِّ كَلامٍ، يا بُثَيْنَ، جَوابُ.

ولَم يَغِبْ عَن بالِهِ وَضْعُ وَطَنِهِ المُهتَرِئِ، فَأَشارَ بِقَلَمِهِ السِّنانِ، وبِلَمحَةٍ خاطِفَةٍ، إِلى مَكامِنِ العِلَّةِ المُتَفاقِمَةِ، فَقال (ص 152): «… فهو في دَولَةٍ غَلَبَ الفَسادُ عَلَيها. الكُلُّ يَتَّهِمُ الكُلَّ ولَيسَ مِن سارِقٍ، بَل يُقبَضُ على مَن يُرَدِّدُ التُّهَمَ في لَحظَةِ غَضَبٍ أَو يَأسٍ مِن تَخلِيصِ مُعامَلَةٍ، مِن فَضْلِ أَمثالِهِ، بَينَما يَتَحَوَّلُ ذُو الحُظْوَةِ الَّذِي يُمَسِّحُ جُوخًا ويُبَيِّضُ طَناجِرَ تِيفال، ويَغسِلُ شَناتِينَ الزُّعَماءِ، إِلى صاحِبِ مَبادِئ».

في جَوَلانِنا المُمتِعِ قَطَفنا الكَثِيرَ مِن شَهِيِّ الثَّمَرِ، وأَعمَلْنا الفِكرَ بِجِدٍّ كَي لا يَفُوتَنا رَمْزٌ، ونَضِلَّ عن القِبْلَة. ومِمَّا أَثارَ انتِباهَنا «الفَصلُ الخامَسَ عَشَرَ، عَصْرُ السَّعادِين»، حَيثُ رَأَينا واقِعَنا السِّياسِيَّ الحالِيَّ في وَطَنِنا المَنكُوبِ، نَصطادُ مِن كُلِّ رامِزٍ مَرمُوزَهُ، ومِن كُلِّ «سِعْدانٍ» نَظِيرَهُ في ظَهْرَيْنا. وهُنا نَراهُ مُشابِهًا لِلكاتِبِ زَكَرِيَّا تامِر الَّذِي لَجَأَ إِلى هذه التِّقْنِيَّةِ في الكِتابَةِ، مِن بابِ «إِبْعُدْ عَن الشَّرّْ وغَنِّيلُو».

ويَقُولُ كاتِبُنا، في الفَصلِ عَينِهِ (ص 177): «لَم يَكُن أَمامَ الحاكِمِ سِوَى الرُّضُوخ. فَامتَلَأَ قَصرُهُ بِالسَّعادِينِ الهَجِينَة. هَؤُلاءِ استَطاعُوا حِمايَتَهُ […] ولَمَّا أَخَذُوا مِن أَطباعِ أُمَّهاتِهِم […] التَصَقُوا بِالعَرشِ وكَراسِيه. […] ثُمَّ انقَضُّوا على كُلِّ عاقِل…». وهُنا نَتَذَكَّرُ قَولَ المُفَكِّرِ أَنطُون سَعادَة: «إِنَّ الَّذِينَ يُرَبُّونَ شُعُوبَهُم على عَقلِيَّةِ المَمالِيكِ(1) يُوجَدُونَ ذَاتَ صَباحٍ وَخَناجِرُ المَمالِيكِ مَغرُوسَةٌ في صُدُورِهِم».

***

الأُسلُوب

في (الفَصْلُ الخامِسُ «مَحكَمَةُ الأَمثال») مِن مَظاهِرِ الطَّرافَةِ في رَبْطِ مَجمُوعَةِ أَمثالٍ بِحِكايَةِ بَطَلِ السَّرْدِ مَعَ المُقَرَّبِينَ الَّذِينَ يَستَغِلُّونَ طِيبَتَهُ وكَرَمَه. فَإِذا بِالأَمثالِ تَتَوالَى، واحِدًا يُرسِلُ إِلى تالِيهِ، وإِذا بِالقارِئِ مُتَشَبِّعٌ مِنها دُونَما وَعْظٍ وإِرشادٍ وأُمثُولات. ويُظهِرُ المُؤَلِّفُ بَراعَةً في التَّلاعُبِ بِها، فَيُطَوِّعُها، ويَكشِفُ عَوْراتِها وتَناقُضاتِها بِأَمثالٍ حَيَّةٍ يَنسُبُها إِلى ناسٍ مَعرُوفِينَ مِنه. هي دُرْبَةٌ تُحسَبُ لَهُ في قِراءَةِ الحَياةِ، وكَشْفِ مَستُورِها، وتَعرِيَةِ قَناعاتٍ عِندَ النَّاسِ يَتَناقَلُونَها مِن جِيلٍ إِلى جِيل.

وفي هذا الفَصلِ، في الصَّفحَةِ 59، نَجِدُ أَيضًا حِوارًا بَينَ المَلاكِ وشَيطانِ الأَمثالِ، يُشبِهُ، مِن قَرِيبٍ جِدًّا، حِوارًا جَرَى بَينَ اللهِ وابراهِيمَ في (سِفْرِ التَّكوِينِ، الإِصحاح 18). فَإِنْ كانَ الأَمرُ اقتِباسًا مِنَ الكِتابِ المُقَدَّسِ، فَإِنَّهُ دَلِيلٌ على ثَقافَةِ الكاتِبِ في هذا المِضمارِ، وإِن يَكُنْ مَحْضَ تَوارُدِ أَفكارٍ فَإِنَّهُ يُثِيرُ الانتِباه. ومِمَّا لا شَكَّ فِيهِ أَنَّ كاتِبَنا يَحوِي في جَعبَتِهِ مَخزُونًا قَيِّمًا مِنَ الثَّقافَةِ الدِّينِيَّةِ كَما مِنَ العِلمِ ومُحدَثاتِهِ، وإِنَّها لَتَنسابُ إِلى قَلَمِهِ مِن وَعْيِهِ أَو لاوَعيِهِ، وهي دَلالَةٌ طَيِّبَةٌ على جَدوَى كِتابَتِهِ وغِناها.

ويَبدُو أَنَّه مُتَأَثِّرٌ بِأُسلُوبِ «أَلفُ لَيلَةٍ ولَيلَة» الاستِطرادِيِّ التَّرابُطِيِّ، إِذ نَجِدُهُ في (الفَصلُ السَّادَسَ عَشَرَ، «سُلَّمُ الحِكايات»)، يَربِطُ طُرفَةً بِالَّتِي تَلِيها، وهكذا دَوالَيكَ، حَتَّى أَخرَجَ المَلاكَ عَن طَوْرِهِ، ولِسانُ حالِهِ يَقُول: «لا حَوْلَ ولا…».

في نُصُوصِ هذا السِّفْرِ كَثِيرٌ مِنَ اللُّغَةِ العامِّيَّةِ، وهذا ما يُقَلِّصُ مِساحَةَ انتِشارِ الكِتابِ؛ فَما هو مَفهُومٌ لَنا مِن عامِّيَّتِنا قد يَتَعَصَّى على قُرَّاءِ العَرَبِيَّةِ في أَصقاعٍ بَعِيدَةٍ، كَالمَغرِبِ تَمثِيلًا.

نَحنُ لا نُنكِرُ طَراوَةَ ورَونَقَ عامِّيَّتِهِ، وما تَنشُرُ مِن بَهجَةٍ في النَّصِّ المُقَطَّبِ، ولكِنَّها، بِتَداخُلِها مع رَصِيفَتِها الفُصحَى، قد تُسِيءُ إِلَيها، وكَثْرَةُ الدَّلالِ قد تَنقَلِبُ إِمعاضًا…

أَمَّا لُغَتُهُ، عامَّةً، فَهِي بَسِيطَةٌ، لا تَنشُدُ بَيانًا طَنَّانًا، وتَزاوِيقَ مُبتَكَرَةً، بَل تَسعَى إِلى إِبلاغِ المَقُولِ بِالسَّهلِ المُوَرَّى بِالرُّمُوزِ الَّتِي تَتَكَشَّفُ جَلِيًّا أَحيانًا، وأَحيانًا تَختَفِي طَيَّ قِناعٍ كَثِيفٍ، على أَنَّها لا تَخلُو مِنَ الطَّرافَةِ، والذَّكاءِ، والغَمْزِ واللَّمْز.

يَقُولُ، بِلِسانِ كَهَنَةٍ مُمالِئِينَ، في تَأبِينِ مُرابٍ والِدِ مُرابٍ (ص 79): «ومِنَ اتِّهامِ والِدِهِ بِكُلِّ الصِّفاتِ الحَسَنَة». فَكَم في كَلِمَةِ «اتِّهام»، في بابِ المَحاسِنِ، مِن ذَمٍّ مَكنُونٍ، وحَذاقَةٍ في نَكْءِ الجُرْحِ بِمِبضَعٍ مِن ذَهَب.

وصاحِبُنا، على سُهُولَةِ وعَفَوِيَّةِ وتِلقائِيَّةِ أُسلُوبِهِ، بارِعٌ في السَّرْد. ونَتَمَثَّلُ بِفَصلِهِ السَّابِعِ «بَيَّاعُ الجَنَّات»، حَيثُ نَرَى دِقَّتَهُ في حَبْكِ الحِكايَةِ، فَلا نُتُوءًا يُمِضُّ، أَو فَراغًا يُؤْذِي، بَل نَسِيجٌ مُحْكَمُ الخُيُوطِ، مَتِينُ العُرَى، لا تُعوِزُهُ التَّفاصِيلُ، حَتَّى الصَّغِيرَةُ مِنها. وهو يُلبِسُ نَقدَهُ لِلمُسَلَّماتِ، دِينِيَّةً واجتِماعِيَّةً، ثَوبَ الأُقصُوصَةِ، «الفَصلُ السَّابِعُ، بَيَّاعُ الجَنَّات» تَمَثُّلًا، فَيُوصِلُ الرِّسالَةَ في بَيانٍ طَرِيٍّ، مُوَشَّحٍ بِالابتِسامِ والتَّهَكُّم. ذلك… على مُكْنَةٍ في شَدِّ القارِئِ إِلى الرِّوايَةِ، وتَرَقُّبِ خَواتِيمِها المُبارَكَة. يَقُولُ (ص 88): «سَمِعَ صَوتًا مُبَلَّلًا لامرَأَة»، فَإِذا التَّورِيَةُ والكِنايَةُ حَسَنَةٌ تَفِي بِالغَرَضِ، وتَدُلُّ على مَهارَةٍ في تَطوِيعِ الأَلفاظ.

***

الحِكَم

مِن أَقوالِهِ المَأثُورَة، شَذَراتُ فِكْرٍ راءٍ تُنِيرُ الأَذهانَ بِالحِكمَةِ والعِبَر:

–  «مَنِ لا يَستَطِيعُ تَحَمُّلَ ذاتِهِ، لَن يَتَوَرَّعَ عَن لَفْظِ غَرِيب» (ص 34).

–  «لكِنَّ بُرُوقًا كَثِيرَةً لا تَصنَعُ نَهارًا» (ص 273).

–  «أَنارُوا دُرُوبَهُم وآفاقَهُم، وأَظلمُوا دَواخِلَهُم» (ص 273).

–  «كَيفَ يَرَى النُّورَ مَن حَلَكَت بَصِيرَتُه» (ص 273).

–  «النِّهايَةُ الصَّالِحَةُ في حُسنِ بَذْرِ البِدايات» (ص 257).

–  «كَلِماتُ الحَقِّ الَّتِي لا تُقالُ كَما هِيَ، تَخنُقُ الإِطارَ الَّذِي يَحوِيها ويُنتِجُها» (ص 175).

–  «مَنِ انقَضَّ على مَن رَبَّاهُ، لَن يَتَوَرَّعَ عَنِ الفَتْكِ بِمَن عاداه» (ص 113).

–  «النَّظرَةُ الشَّامِلَةُ تَطمِسُ جَمالِيَّةَ التَّفاصِيل» (ص 203).

–  «إِذا أَرَدتَ أَن تَعرِفَ ما في النِّهايَةِ عَلَيكَ أَن تَعرِفَ ما في البِدايَة» (ص 257).

–  «إِنَّ الدَّرْبَ تَرَى، لكِنَّ السَّائِرِينَ والمُتَدافِعِينَ عَلَيها لا يَرَوْن» (ص 275).

–  «مَن فُطِرَ على الأَغصانِ يَذوِي في القُصُورِ والمَقاعِد» (ص 176).

يُذَكِّرُنا هذا القَولُ الجَمِيلُ بِالشَّاعِرَةِ مَيسُون الكَلبِيَّة(2) الَّتِي اختارَت «خُشُونَةَ عِيشَتِها في البادِيَة» على «القَصرِ المُنِيفِ» الَّذِي تَسكُنُه.

–  «أَغبِياءٌ يَظُنُّونَ بِأَنَّ الوُصُولَ في أَواخِرِ السُّبُل» (ص 281).

يَأخُذُنا هذا الرَّأيُ إِلى قَولِ سَعِيد تَقِيِّ الدِّين: «لا «يَصِلُ» إِلَّا كُلُّ مَن خارَت عَزِيمَتُه فَخَدَعَ نَفسَه بِأَن أَشارَ إلى هَدَفِه حَيثُ عَيَّت قَدَماه».

–  «النَّفسُ الجائِعَةُ لا تَشبَع» (ص 204).

ذَكَّرَنا هذا القَولُ بِما جاءَ في الكِتابِ المُقَدَّس: «لِلنَّفسِ الجائِعَةِ كُلُّ مُرٍّ حُلْوٌ»(3).

***

العِلْم

يُغامِرُ صاحِبُنا بِرَأيٍ عِلمِيٍّ غَيرِ مُتَّفَقٍ عَلَيهِ حَتَّى الآنَ، فَيَقُول (ص 38): «والإِنسانُ هو حَيَوانٌ ناطِقٌ وقد تَطَوَّرَ مِن حَيَوانٍ ما، حَسبَما يُؤَكِّدُ العِلم»، مُستَنِدًا إِلى نَظَرِيَّةِ العالِمِ داروِين.

ونحنُ نُورِدُ لَهُ ما جاءَ في مَقالٍ بِعُنوان «عِلمٌ أَم خُرافَة؟» لِلأُستاذ ابراهِيم السَّيِّد: «يَستَعرِضُ مَوقِعُ مُؤَسَّسَةِ «دِيسكُوفرِي Discovery» أَكثَرَ مِن مِئَةِ وَرَقَةٍ عِلمِيَّةٍ مُحكَمَةٍ مَنشُورَةٍ في مَجَلَّاتٍ عِلمِيَّةٍ مَوثُوقَةٍ كُلُّها تَتَّفِقُ على فِكرَةٍ واحِدَة: لا يُمكِنُ لِلنَّظَرِيَّةِ الدَّاروِينِيَّةِ أَن تُفَسِّرَ الوَظائِفَ الحَيَوِيَّةَ لِلكائِناتِ الحَيَّةِ، وإِنَّما لا بُدَّ مِن وُجُودِ «سَبَبٍ ذَكِيٍّ» لِظُهُورِ هذه الكائِنات».

يَقُولُ صاحِبُنا (ص 307): «وَيلٌ لِإِلهٍ ناقِصٍ يُبدِعُ ذَكاءً فَيَهلِكُ بِه». تُراهُ يُرِيدُ أَن يُنذِرَ بِأَنَّ هذا الإِلهَ النَّاقِصَ (الإِنسان) قد أَبدَعَ الذَّكاءَ الاصطِناعِيَّ، وراحَ يُطَوِّرُهُ بِسُرعَةٍ مُذهِلَةٍ، حَتَّى الوُصُولِ إِلى إِنسانٍ اصطِناعِيٍّ (Robot) يَنقَلِبُ على صانِعِهِ فَيَقضِي عَلَيه؟! وهذا ما يَتَخَوَّفُ مِنهُ كَثِيرُونَ، وتُقامُ حَولَهُ المُؤتَمَراتُ، وتَكثُرُ التَّحذِيرات.

مِنِ اطِّلاعِهِ على المُنجَزاتِ العِلمِيَّةِ عالِيَةِ المُستَوَى ما وَرَدَ في (ص 202)، وقد وَظَّفَهُ صاحِبُنا في مَجالٍ فَلسَفِيّ: «كَما أَنَّ التَّفاسِيرَ المُتاحَةَ لِلبِداياتِ تَقُولُ بِانتِفاخِ الكَونِ وما يَنتُجُ عَنهُ مِن زَمانٍ ومَكان. (نُقطَةُ مَركَزٍ مُنتَفِخَةٌ أَكوانًا). لِذا لا يَعُودُ هُناكَ مِن مَركَز. كُلُّ جُزْءٍ مِن هذا المَكانِ والزَّمانِ هو المُركَز. كُلُّ أَنًا هي غايَةٌ، لِيَبقَى الإِنسانُ حُرًّا في اختِيارِ اتِّجاهِ الحَياةِ، أَو الانغِلاقِ في قَبرِ أَناهُ الدَّاخِلِيّ».

مِن هذا القَولِ نَتَيَقَّنُ أَنَّنا في صُحبَةِ رَجُلِ عِلمٍ يُعايِشُ آخِرَ ما تَوَصَّلَ إِلَيهِ العُلَماءُ في تَفسِيرِ الكَونِ، حَيثُ أَثبَتُوا  أَنَّ «الانفِجارَ العَظِيمَ Big Bang» حَدَثَ في ذَرَّةٍ تَصغُرُ ذَرَّةَ الهِيدرُوجِين بِآلافِ المَرَّاتِ، ومِنهُ تَكَوَّنَ الكَوْنُ، وما زالَ في تَباعُدٍ في كُلِّ الاتِّجاهات. ومِنهُ أَنَّ كُلَّ نُقطَةٍ فِيهِ يُمكِنُ أَن تُعتَبرَ مَركَزًا لَه.

والطَّرِيفُ في صاحِبِنا، ذِي النَّهَمِ الفَلسَفِيِّ – العِلمِيِّ، أَنَّهُ يُسقِطُ النَّظَرِيَّةَ العِلمِيَّةَ على «أَنا» كُلِّ إِنسانٍ فَيَجعَلُها «مَركَزًا – غايَةً»، ويُصبِحُ الفَرْدُ مالِكًا مُطلَقًا لِحُرِّيَّتِهِ في «اختِيارِ اتِّجاهِ الحَياةِ، أَو الانغِلاقِ في قَبْرِ أَناهُ الدَّاخِلِيّ» (ص 202).

***

الفَلسَفَةُ والأَساطِيرُ والمُعتَقَدات

لِصاحِبِنا (ص 308) نُبُوءَةٌ عَن مَصِيرِ الإِنسانِ تُذَكِّرُنا بِما رَسَمَتِ الكُتُبُ الدِّينِيَّةُ لِمُختَلِفِ الأَديانِ، عَن أَوانِ القِيامَة. تُراهُ مُتَأَثِّرًا، في لاوَعيِهِ، بِمَقُولاتِ المَذاهِبِ، أَم هي رُؤْيا بَناها على ما لَمَسَ مِن تَصَرُّفِ البَشَرِيَّةِ، وتَقَدُّمِها العِلمِيِّ الفائِقِ مُتَرافِقًا مع ضُمُورِ العَلائِقِ الإِنسانِيَّة؟!

في (الفَصلُ الخامِسُ والعِشرُون، «لَحظَةٌ وزَمانٌ وأُسطُورَة»)، يَأخُذُنا في رِحلَةٍ فَلسَفِيَّةٍ، تَتَطَلَّبُ كُلُّ جُملَةٍ فِيها، وأَحيانًا كُلُّ لَفظَةٍ، وُقُوفًا مُتَأَنِّيًا مُتَأَمِّلًا، لِما تَكَثَّفَ في أَبعادِها مِن مَعانٍ عِماقٍ تَتَقاطَعُ أَحيانًا مع الأَديانِ والمَذاهِبِ في أَدَقِّ طُرُوحاتِها: التَّجَسُّد.

يَقُولُ (ص 285): «الذَّاتُ هي اللَّامَحدُودُ المُمتَلِئُ بِالآخَرِ، لكِنَّها لَم تَهضِمْه. فَعَقْلٌ ابْنُ أَبعادٍ مُحَدَّدَةٍ أَنَّى لَهُ أَن يُحِيطَ بِلانِهائِيَّةِ الأَبعاد». فَنَتَساءَل:

أَما مِن تَقارُبٍ بَينَ هذا الطَّرْحِ والحُلُولِيَّةِ الَّتِي تَقُولُ بِحُلُولِ اللهِ في مَخلُوقاتِهِ، مُجتَمِعَةً أَو مُتَفَرِّدَةً، حَيثُ يُصبِحُ مَعَها جَوهَرًا واحِدًا؟!

ثُمَّ أَلَا يَتَواءَمُ مع مَذهَبِ «وَحدَةِ الوُجُودِ» وفِيهِ أَنَّ اللهَ والطَّبِيعَةَ جَوهَرٌ واحِدٌ وحَقِيقَةٌ واحِدَة؟!

ونَتَبَصَّرُ، أَيضًا، في القَول: «الذَّاتُ هي اللَّامَحدُودُ المُمتَلِئُ بِالآخَرِ، لكِنَّها لَم تَهضِمْه. […] أَتَحتَمِلِينَ رُؤْيَةَ المُطلَقِ العارِي؟ أَتَستَطِيعِينَ ما لَم يَستَطِعْهُ خَيال؟ […] لكِنَّكِ لَن تَقوينَ على الصُّمُودِ في حُضُورِ المُطلَق» (ص 285). فَنَراهُ، هُنا، يَقتَرِبُ مِنَ الدِّينَينِ السَّماوِيَّيْن:

الدِّينِ الإِسلامِيِّ في أَنَّ الإِنسانَ لا يَقدَرُ على رُؤْيَةِ اللهِ – المُطلَقِ العارِي، بِدَلِيلِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ 143 مِن سُورَةِ الأَعراف(4).

الدِّينِ المَسِيحِيِّ في كَوْنِ اللهِ تَجَلَّى في جَسَدٍ إِنسانِيٍّ خالٍ مِنَ الخَطِيئَةِ، فَكانَ المَسِيحُ، لِيَتَمَكَّنَ الإِنسانُ مِنَ التَّواصُلِ مع رَبِّه.

«الحِكايَةُ – الوُجُودُ» هي «رُوحٌ لِكُلِّ جَسَدٍ، ولَو كانَ مِن أَحداثٍ مُتَناقِضَة» (ص 286). وهُنا نَتَذَكَّرُ قَولَ بُولُسَ الرَّسُول: «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟»(5)؛ والآيَةَ الإِنجِيلِيَّة: «أَنَا الكَرمَةُ وَأَنتُمُ الأَغصَانُ»(6).

ويُضِيفُ كاتِبُنا: «والأُسطُورَةُ أَيضًا تَجمَعُ المُتَناقِضاتِ في رِوايَةٍ تُدَثِّرُ عُرْيَ التَّناثُرِ، رَيثَما يَتَمَكَّنُ العِلمُ مِن تَحدِيدِ نَسِيجِ فُستانِ التِّينِ على عَوْراتِ الفِكْر».

فَالأَساطِيرُ، عِندَهُ، لَيسَت حِكاياتٍ طُفُولِيَّةً خَيالِيَّةً خُرافِيَّةً فَقَط، بَل هي حَمَّالَةُ رُمُوزٍ وأَسرارٍ قد يَكشِفُها العِلمُ في قابِل. وتَشَرُّبُهُ بِها، ومُقارَبَةُ الأَديانِ إِلَيها بِما تَستَقِي مِنها – ولَو مِن بَعِيدٍ – واضِحَةٌ مَدَى هذا الكِتابِ الَّذِي يُوحِي بَعضُ ظاهِرِهِ بِالمُزاحِ، حِينَ يَطوِي مِنَ العُمْقِ ما يُشغِلُ الفِكرَ، ويُوقِظُ الجَوارِح. وفي ذا يَقُول (ص 311): «لذا كانَتِ الأُسطُورَةُ أَفضَلَ مُقارَبَةٍ لاستِيعابِنا اللَّامُدرَك. أَلَم يَقُلِ الدِّينِيُّونَ بِأَنَّها حَقائِقُ، ولو في رُمُوزِها، وما يَتَخَلَّلُها مِن نُبُوءَاتٍ وعِبَر؟».

وهو لَيسَ مُولَعًا بِالأَساطِيرِ فَقَط، وبِما تَحمِلُ مِنِ انزِياحاتٍ إِلى أَمداءٍ قَصِيَّةٍ، بَل هو يَبتَكِرُ أَساطِيرَهُ الخاصَّةَ في لَبُوسِ حِكاياتٍ خُرافِيَّةٍ تَخدُمُ أَغراضَهُ، وتَقُودُ إِلى أَهدافِهِ، بِالتَّورِيَةِ الفَطِنَةِ الحَسَنَةِ، الَّتي تَخْفَى على مَن لَم يُؤْتَ نِعمَةَ الفِكرِ الكاشِف. والطَّرِيفُ فِيهِ أَنَّهُ يَسُوقُ مَروِيَّاتِهِ حَيثُ الحَيَواناتُ تَتَصَرَّفُ بِحِذْقٍ، وتَتَّخِذُ قَراراتِها وتُنَفِّذُها. لَكَأَنَّهُ يَخلُقُ أَساطِيرَ مَمهُورَةً بِخاتَمِه.

ونَقِفُ أَمامَ وَمْضَتِهِ «أَيُّها الزَّمانُ […] ادَّعَيتَ اختِلاطَ الماضِي والمُستَقبَلِ في الحاضِر» (ص 287)، وقَولِهِ (ص 311): «أَلَم يَصِلِ العِلمُ إِلى بُرهانِ أَنْ لا عَدَمَ، بَل فَراغٌ كَمِّيٌّ؟». فَنَتَذَكَّرُ قَوْلَةَ الفَيلَسُوفِ (مارتن هايدغر Martin Heidegger): «العَدَمُ يَدخُلُ فِي نَسِيجِ الوُجُود. فَاللَّحظَةُ الَّتِي لَم تَعُد مَوجُودَةً وكَأَنَّهَا آلَت إِلى العَدَمِ، تُواصِلُ حُضُورَها وتَأثِيرَها في الحاضِرِ، واللَّحظَةُ المُستَقبَلِيَّةُ تَشغَلُنا في الحاضِر ونَتَطَلَّعُ إِلَيها»(7).

يَبدُو لَنا أَنَّ خِضَمَّ الثَّقافَةِ الضَّافِيَةِ في فِكرِ هذا الكاتِبِ يَفِيضُ على شَواطِئِهِ بِالأَفكارِ الدَّقِيقَةِ المُتَشَعِّبَةِ، فَيُلقِيها على الوَرَقِ نَدًى لِلعُقُولِ النَّيِّرَةِ، وطَلاسِمَ لِمَن بَينَهُ وبَينَ الاطِّلاعِ المُرهِقِ عَداوَةٌ بَيِّنَة.

في (الفَصلُ الأَوَّلُ «رِوايَةُ الحِكايَةِ نَفسِها»)، يَتِيهُ القارِئُ في غابَةٍ مِنَ الرُّمُوزِ، شاءَها الكاتِبُ على غُمُوضٍ مُمِضٍّ، وإِبهامٍ مُربِكٍ، رُبَّما «لِغايَةٍ في نَفسِ يَعقُوب». فَشَمَّرنا لِلقِراءَةِ، وأَغرانا ضَبابُها بِالمُغامَرَةِ، ودَخَلنا أَدغالَها، وعُدنا بَعدَ طَوافٍ طَوِيلٍ، بِجَنًى يَطوِي في سِلالِهِ كُلَّ لَونٍ ومَذاق. ورَأَينا، في غَمْرِ ما رَأَينا، أَنَّ الكاتِبَ يُسَدِّدُ سِهامَهُ على الرِّواياتِ الدِّينِيَّةِ المُتَنَوِّعَةِ، وما حِيْكَ حَولَها عَبْرَ العُصُورِ، وما نَبَتَ على جُذُوعِها العَتِيقَةِ مِن طَحالِبَ، وما تَوَلَّدَ مِن رَحِمِها الوَسِيعِ مِن طَواطِمَ، وما أَسبَغَ مُعتَنِقُوها عَلَيها، في قُرُونٍ غَبَرَت، مِن رِواياتٍ قد لا تُوافِقُ مُعطَياتِها الأَصِيلَة.

هذا… حَتَّى باتَت هَجْسَ النَّاسِ، وتَمَلَّكَت وَعْيَهُمُ، فَغَدا الفِكاكُ مِنها تَمَزُّقُ جَوارِحَ، ونَزْفًا، وقَلَقًا في الرُّوْح. فَالإِنسانُ، مُذْ وُجِدَ، مُتَعَطِّشٌ لــِ «عَلَّامِ غُيُوبٍ»، ويُساكِنُهُ هَمٌّ دائِمٌ على مَصِيرِهِ يَومَ تَغِيبُ شَمسُه. وفي رَأْيِ كاتِبِنا أَنَّ أَشواقَ العامَّةِ تَقاطَعَت مع مَطامِعِ ومَصالِحِ عُصبَةٍ مُتَراصَّةٍ، فَابتُدِعَت أَساطِيرُ ومُعتَقَداتٌ، وتَعَمَّقَت وَساوِس. أَمَا يَقُولُ (ص 13): «تِمثالٌ خَلَعَ رَهبَتَهُ على الجَمِيعِ، وخاصَّةً مَشارِيعِ رِجالِ دِيْن. فَهؤُلاءِ لَم يَرَوْا فِيهِ ما يُضِرُّ، بَل استَفادُوا مِنهُ، وعَلَّقُوا على أَساطِيرِهِ رُمُوزًا واستِشرافاتٍ، فَباتُوا كَالأَنبِياءِ بِنَظَرِ الأَجيالِ الَّتِي تَعاقَبَت تَحتَ تَعلِيمِهِم».

يَقُولُ (ص 313): «إِنَّ الوُجُودَ هو جَسَدُ اللهِ، وكُلُّ الوُجُوداتِ هي أَيضًا جَسَدُه». فَيُذَكِّرُنا بِقَولِ الفَيلَسُوفِ (يُوهان غُوتَه Johann Goethe): «إِنَّ الكَوْنَ ثَوْبُ الله». كَما أَنَّهُ يَتَآلَفُ مع الحُلُولِيَّةِ الَّتِي قالَ فِيها المُفَكِّرِ (أَلان بادِيُو Alain Badiou)‏ في كِتَابِهِ «أَلفُنُونُ والآلِهَة»: «أَلحُلُولِيَّةُ تَعنِي، في وَقتٍ مَعًا، أَنَّ كُلَّ شَيءٍ (على حِدَة) هُوَ اللهُ وَأَنَّ الكُلَّ هُوَ الله».

يَقتَرِبُ صاحِبُنا مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ (Déisme) في اعتِقادِها بِوُجُودِ خالِقٍ لِلكَونِ، ورَفضِها تَجَلِّيهِ لِلبَشَرِيَّةِ عَن طَرِيقِ رُسُلٍ أَو كُتُب. يَقُولُ، على لِسانِ أَحَدِ أَبطالِه: «وهل تَعتَقِدُ بِأَنَّ ما تَلَقَّفَ النَّاسُ مِن إِيماناتِهِم، فَأَلبَسُوها مِن تَخَيُّلاتِهِم ثِيابَ أَساطِيرَ وخُرافاتٍ مُقَطَّعَةٍ ومُوَصَّلَةٍ، هو أَسمَى؟ على الأَقَلِّ السَّذاجَةُ هذه هي صُورَةٌ مُكَبَّرَةٌ فَواضِحَةٌ، عَمَّا تُنزِلُونَ مِن قِيمَةِ الإِلهِ ومُطْلَقَه» (ص 36).

ومِمَّا نَقرَأُ في الكِتابِ (ص ص 27، 28): يَقُولُ شَيطانٌ لــِ «مُفَكِّرٍ في أُمُورِ الشَّرِّ والخَيرِ» (رَجُلُ دِين): «أَتَظُنُّ أَنِّي الشَّرُّ المُطلَقُ وأَنتُمُ المَساكِينُ المُغَرَّرُ بِهِم؟ […] أَلَم أَقُم بِعَمَلٍ ما أَفادَ خَلْقَ اللهِ، […] فَها أَنتَ تَعرِفُنِي مِن خِلالِك». فَيُذَكِّرُنا بِأُقصُوصَةِ «الشَّيطان» مِن كِتابِ «البَدائِعُ والطَّرائِف» لِجُبران خَلِيل جُبران، حَيثُ يَقُولُ الشَّيطانُ لِلخُورِي سِمعان: «أَوَلَم تَتَّخِذ وُجُودِي صِناعَةً لَكَ واسمِي دُستُورًا لِأَعمالِك؟ هل أَغناكَ ماضِيَّ عَن حاضِرِي ومُستَقبَلِي؟ أَلَم تَعلَم أَنَّ زَوجَتَكَ وبَنِيكَ – وهُم كَثِيرُون – يَفقِدُونَ رِزقَهُمُ بِفَقْدِي؟ بَل يَمُوتُونَ جُوعًا بِمَوتِي؟ أَلا تَعلَم – وأَنتَ اللَّاهُوتِيُّ المُدَقِّقُ – أَنَّ وُجُودَ الشَّيطانِ قَد أَوجَدَ أَعداءَهُ الكُهَّان؟ وأَنَّ تِلكَ العَداوَةَ القَدِيمَةَ هي اليَدُ الخَفِيَّةُ الَّتِي تَنقُلُ الفِضَّةَ والذَّهَبَ مِن جُيُوبِ المُؤمِنِينَ إِلى جُيُوبِ الوُعَّاظِ والمُرشِدِين؟».

فَالتَّرابُطُ العُضْوِيُّ، والمَصلَحَةُ المُشتَرَكَةُ، في تَركِيبَةِ الإِلهِ – الشَّيطانِ، بارِزَةٌ، عِندَ أَدِيبِنا، في القَول (ص 32): «أَيّ شَيطانٍ أَنتَ لِأَيِّ إِله؟». حَتَّى باتَت مُسَلَّماتٌ في العُقُولِ، ومُعتَقَداتٌ في الأَفئِدَةِ، مَصدَرَ إِفسادٍ لِرِحابِ العَقلِ المُضِيئَةِ، وشَلًّا لِلمَنطِق: «تَفَتَّحَتِ القُبُورُ وخَرَجَت عِظامُ أَساطِيرَ، مُنتَحِلَةً كُلَّ حِكايَةٍ، فَالتَوَى المَنطِقُ، وتَلَوَّثَ المُطْلَقُ، وما عادَ نَهارٌ كَالنَّهارِ ولا لَيلٌ كَاللَّيل» (ص 33).

وهو يَنسِفُ ما تَوارَثَتهُ الأَجيالُ مِن مُعتَقَداتٍ راحُوا يُضِيفُونَ إِلى مَتنِها الفَضفاضِ مِمَّا تَشتَهِي أَنفُسُهُم، ويُرَقِّشُونَ نَسِيجَها المُغْبَرَّ بِالأَعاجِيبِ يَرسُمُها هَجْسُهُمُ المُفرِطُ الَّذِي أَعمَى مَلَكَةَ النَّقدِ في عُقُولِهِم، وسَدَّ المَنافِذَ أَمامَ كُلِّ تَبَصُّرٍ وتَمحِيص. يَقُولُ (ص31): «وهُنا لَنا أَن نَتَخَيَّلَ ما تَستَطِيعُهُ أُسطُورَةٌ مُسَلَّحَةٌ بِكُلِّ ما يُعقَلُ أَو لا يُعقَلُ، وخارِجَةٌ عَن كُلِّ ضَبْطٍ لِمَنطِقٍ، لَنا أَن نَتَصَوَّرَ ما تَعِيثُ في المُطلَقِ خَرابًا ودَمارًا، حَتَّى تُمَزِّقَهُ، وتَرفَأَ الذَّاتَ بِخِرَقِه».

ولَم يَسلَمْ رِجالُ الدِّينِ مِن سِهامِهِ المُرَيَّشَةِ إِذ «التَّعامُلُ مَعَهُم أُسطُورَة. عَلَيكَ أَن تَدفَعَ لَهُم حِينَ تُولَدُ، وحِينَ تَخرُجُ مِنَ الهَيكَلِ، وحِينَ تَحتاجُ لِشَهادَةٍ أَو إِفادَةٍ، وحَتَّى حِينَ تَمُوت» (ص 153).

في (ص 195) نَجِدُ طُرُوحاتٍ فَلسَفِيَّةً مُعَقَّدَةً تُومِئُ إِلى ما لا يُدرَكُ بِتَفَكُّرٍ إِنسانِيٍّ مَحدُودٍ تَحُولُ دُونَ بُلُوغِ مَرامِيهِ عَقَباتٌ عَسِيرَة. وقد استَرعانا قَولُه: «لِيَكُونَ اللهُ هو المَركَزَ والقِبْلَةَ وكُلُّ اتِّجاهٍ يُخاضُ نَحوَهُ هو الوُصُولُ بِعَينِه». فَأَخَذَنا، بِتَداعٍ عَفَوِيٍّ إِلى قَولِ باسكال: «لَوْ لَمْ تَكُنْ وَجَدْتَنِي لَمَا كُنْتَ تُفَتِّشُ عَنِّي» (Tu ne me chercherais pas si tu ne m’avais déjà trouvé»    (Pascal)

ثُمَّ كَيفَ لا «يَكُونُ كُلُّ اتِّجاهٍ يُخاضُ نَحوَهُ هو الوُصُولُ بِعَينِه»، وقد حَفِظنا عن القِدِّيسِ أَغُوسطِينُوس قَولَهُ: «ظَلَلتُ طَويلًا أَبحَثُ عَنكَ، وعِندَما وَجَدتُكَ… وَجَدتُكَ في قَلبِي».

وذلِكَ بِأَنَّ الإِنسانَ، مُذْ وُجِدَ، في بَحْثٍ مُجِدٍّ عن خالِقٍ لَمَسَ وُجُودَهُ في كُلِّ نَمنَماتِ الكَونِ، وإِعجازِ التَّكوِينِ البَشَرِيّ.

***

السُّخرِيَة

والطَّرِيفُ في هذا الكاتِبِ أَنَّهُ، وهو يَسرُدُ أَشياءَ خَطِيرَةً في مَنظُورِ كَثِيرِينَ، يُلبِسُ الرَّصانَةَ جِلبابَ مَرَحٍ، وسُخرِيَةٍ، ونِكاتٍ، تَكُونُ انفِراجًا يُلَطِّفُ جَهامَةَ المَقُولِ العَمِيق.

وهو، بِأُسلُوبِهِ السَّاخِرِ، ونَقَداتِهِ اللَّاذِعَةِ، لا يَتَحامَلُ، ولا يُجَرِّحُ، ولكِنَّهُ يَفقَأُ الدُّمَّلَ حَيثُ تَتَفَشَّى سُمُومُه. وهل يَتَجَنَّى مَن يَقُولُ (ص 253): «مَساكِينُ هَؤُلاءِ البَشَر. كَم يَستَحِقُّونَ الشَّفَقَة. يَسخَرُونَ مِن حِكمَتِكَ في حَمْلِ ما لا طاقَةَ لَكَ عَلَيهِ، يَتَعَنتَرُونَ ويَتَباهَوْنَ بِما يَستَطِيعُونَ، وعِندَما يَفشَلُونَ ويَنفَضِحُونَ، يَبكُون. أُنظَرْ كَيفَ يَسعَوْنَ بِنَزَقٍ أَعمَى إِلى رِزقِهِم. أَكثَرُوا المُتَطَلِّباتِ والحاجاتِ، فَأَكثَرُوا الدُّرُوبَ حَتَّى التَفَّت حَولَ أَنفاسِهِم. […] حَتَّى إِيماناتُهُم تَحَوَّلَت إِلى إِيقاعاتٍ شَعائِرِيَّة. […] حَلَّلُوا بِاسمِ رَبِّ الحَياةِ القَتْلَ لِإِعلاءِ اسمِه…».

ولا يَظُنَّنَّ أَحَدٌ أَنَّنا نَنسُبُ إِلَيهِ أَقوالًا مَأخُوذَةً مِن أَبطالِ حِكاياتِهِ، فَكُلُّ كاتِبٍ يَكتُبُ ذاتَهُ، ويَنطِقُ بِلِسانِ شَخصِيَّاتِهِ حِينَ يُحَمِّلُهُم مُيُولَهُ وهَواه.

سُخرِيَتُهُ لَمَّاحَةٌ ذَكِيَّةٌ تُتِيحُ لَهُ، في مَواقِفَ جَمَّةٍ، «الرَّقصَ مع الذِّئَابِ»، والخُرُوجَ سَلِيمًا مُعافًى.

ولكِنَّهُ يُفرِطُ فِيها، أَحيانًا، كَما في (الفَصلِ السَّادِسِ، فِرارُ ابْنُ الآخِرَة). فَنَسأَلُهُ: هل تَجُوزُ هذه السُّخرِيَةُ المُرَّةُ الفاقِعَةُ، الَّتِي يُستَشَفُّ مِنها استِخفافٌ بِإِيمانٍ مُتَرَسِّخٍ في نُفُوسِ المَلايِين؟! وهل تَصِحُّ بِمُسَلَّماتٍ يَراها هو أَضغاثَ أَحلامٍ، حِينَ هي مِن صَمِيمِ قَناعاتِ جَماهِيرَ لا تُحصَى، عَبرَ عُصُورٍ وعُصُور؟!

ورُبَّ قائِل: السُّخرِيَةُ في الأَدَبِ جَمِيلَةٌ مُستَساغَةٌ، طَيِّبَةُ الأَثَرِ، على أَن تَكُونَ لَمْحًا خاطِفًا آسِرًا، لا ثَواءً بِغَيرِ حُدُودٍ في سَرْدٍ قد يَنُوءُ بِها ويَتَعَثَّر…

نحن لا نَدِينُ الكاتِبَ في هذا ولكِنَّنا نَحمِلُ صَوت الكَثِيرِينَ، نُلقِيهِ في أُذُنِهِ، ونَحنُ نَعرِفُهُ لا يَحارُ في الجَواب.

وإِنَّا على يَقِينٍ، بِما نَعرِفُ عَنهُ، أَنَّهُ مِن رَأْيِ الرَّسُولِ بُولُسَ: «إِمتَحِنُوا كُلَّ تَعلِيمٍ، وتَمَسَّكُوا بِما هو حَسَن»(8).

ونُضِيفُ أَنَّ اللهَ لا يُرِيدُ مِنَ الإِنسانِ تَسلِيمًا أَعمًى، بِدَلِيلِ ما جاءَ في الكِتابِ المُقَدَّس: «هَلُمَّ نَتَحاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كانَت خَطاياكُم كَالقِرْمِزِ تَبيَضُّ كَالثَّلجِ. إِنْ كانَت حَمراءَ كالدُّودِيِّ تَصِيرُ كالصُّوفِ»(9).

واللهُ أَعلَم…

على حَدِّ القَولِ المَأثُورِ في التُّراثِ العَرَبِيّ!

ولكِنَّ الرَّجُلَ مَوضُوعِيٌّ في بَحثِهِ، لا يَتَحامَلُ، بَل «يَتَأَكَّدُ مِن ثَباتِ البَدِيهِيَّاتِ والافتِراضاتِ لِسلامَةِ وشُمُولِيَّةِ النَّتائِجِ ومِصداقِيَّاتِها» (ص 38). وهو يَقتُلُ مَوضُوعَتَهُ بَحْثًا، مُتَحَرِّيًا الدَّوافِعَ ونَتائِجَها بِحِرْصٍ، لَكَأَنَّهُ قاضٍ أَو أَكادِيمِيٌّ مُتَمَرِّسٌ ولَو لَم تُزَيِّنْ جِدارَ مَنزِلِهِ شَهادَةُ دُكتُوراه…

وكَما هو مُهَندِسٌ في اختِصاصِهِ العِلمِيِّ الأَكادِيمِيِّ، فَإِنَّهُ، بِحَقٍّ، مُهَندِسٌ في رَصْفِ أَلفاظِهِ لِتُؤَلِّفَ كِتابًا لا يُخْجَلُ بِوَضعِهِ في صَدْرِ المَكتَبَة.

***

مُختَتَم

يَغمُضُ صاحِبُنا، ويَكتَنِفُ الضَّبابُ الكَثِيفُ طُرُوحاتِهِ، ويَدخُلُ في إِبهامِ الفَلسَفَةِ والأَساطِيرِ والأَديانِ والزَّمَنِ، وكُلُّها مَوضُوعاتٌ أُهرِقَ في تَبيانِها حِبْرٌ كَثِيرٌ، وتَضارَبَت عُقُولٌ كَبِيرَةٌ، فَإِذا القُرَّاءُ بَينَ ضائِعٍ، ومُغامِرٍ لا يَنِي عَن كَشْفِ الالتِباسِ، وتارِكٍ بِلِسانٍ حالٍ يُرَدِّد: «بابْ البِيجِيكْ مِنُّو رِيْحْ سِدُّو واسْتْرِيحْ»، وحاذِقٍ يَشتارُ الشَّهْدَ ولَو مِن صُخُورٍ عالِيَةٍ سَنِينَة.

قَد نَجِدُ بَعضَ الحِكاياتِ الَّتِي تَحمِلُ خِفَّةً وسَذاجَةً تَربُو على ما فِيها مِن جَنًى قَيِّم. ولكِنْ، مَدَى الكِتابِ كُلِّهِ، فَإِنَّ النِّتاجَ السَّمِينَ الثَّمِينَ يَحجُبُ الغَثَّ، ويَطغَى بِإِشعاعِهِ عَلَيه.

وفي الخُلاصَةِ…

تَرافَقنا مع كاتِبٍ عَمِيقِ الرُّؤْيَةِ والرُّؤْيا، مُفَكِّرٍ عَمِيقٍ، تَنُوءُ لُغَتُهُ بِفِكرِهِ، أَحيانًا.

وهو، وإِن تَبَدَّى لِبَعضٍ ساخِرًا يُجانِفُ الرَّزانَة، وإِن كُنتَ مَعَهُ أَو مُخالِفًا لَهُ في الرَّأْيِ، فَتُرفَعُ لَهُ القُبَّعَةَ لِأَنَّهُ صادِقٌ ما ارتَدَى قِناعًا (بِرسُونا)(10)، ولِأَنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِثَقافَةٍ مَوسُوعِيَّةٍ شامِلَة.

صَدِيقَنا

تَقُولُ (ص 195): «أَخْذُ لُبِّ الأُمُورِ واستِخلاصُ جَوهَرِها هو الهَدَفُ بِعَينِه». وها نَحنُ نَرَى في لُبِّ مَؤُلَّفِكَ الثَّرِّ، وفي جَوهَرِهِ الَّذِي يَتَجاوَزُ ما اشتَمَلَ مِن دُعابَةٍ وتَهَكُّمٍ، بُعْدَ القَرارِ في فِكرِكَ الصَّافِي، وبَحثِكَ الدَّؤُوبِ عَن سِرِّ الحَياةِ، وغَيْبِ الماوَراءِ، وكُنْهِ الوُجُودِ، إِلى نِشدانِكَ السُّبُلَ القَوِيمَةَ لِمُجتَمَعٍ اعتادَ الالتِواءَ، واقتِناصَ السَّوانِحِ لِكَسْبٍ بِلا مُسَوِّغٍ، وتَشوِيهَ الحُسْنِ الَّذِي، وَحْدَهُ، يُمكِنُ أَن يُخرِجَنا مِن بُؤَرِ الفَسادِ إِلى مَدارِجِ البَهاء…

أَمَّا لِمَن يَشهَرُ في وَجهِكَ سَيفَ الدِّفاعِ المُزَيَّفِ عنِ المُتَوارَثِ، مِن دُونِ إِعمالٍ لِلعَقلِ، ولِلجِدالِ العِلمِيِّ المَبنِيِّ على الفَهْمِ والإِفهامِ والتَّفَهُّمِ، فَاسمَحْ لَنا أَنْ نُجِيبَهُ، عَنكَ، بِلِسانِ الحَلَّاج: «مَنْ لَمْ يَطَّلِعْ على إِشاراتِنا، لا تَهْدِيهِ عِباراتُنا»!

صَدِيقَنا…

أَعمَلتَ عَقلَكَ، ولَهُ «القَولُ الفَصْلُ، وما هو بِالهَزْل»(11)، فَكُنتَ في السَّمْتِ السَّوِيِّ، ومَن لَم يَرْضَ لَكَ هذا نَقُولُ، بِلِسانِ القِدِّيسِ أُوغسطِينُس: «حاشا لِلَّهِ أَن يَبغُضَ فِينا العَقلَ الَّذي رَفَعَنا بِهِ عَن مَرتَبَةِ الحَيَوانات»…

ثُمَّ إِنَّكَ غامَرتَ وكَدَدْتَ في البَحثِ في ماوَرائِيَّاتٍ أَعيَتِ البَشَرِيَّةَ مُذ ظَهَرَت على هذا الكَوكَبِ، وحَتَّى إِنَّها وَضَعَت فَيلَسُوفًا كَبِيرًا كَباسكال في جَزَعٍ واضطِرابٍ، فَصَرَخ: «أَلسُّكُونُ الأَبَدِيُّ لِهذا الكَوْنِ اللَّانِهائِيِّ يُرعِبُنِي»

.(Le silence éternel de ces espaces infinies m’effraie)

دَامَ قَلَمُكَ سَيَّالًا، وسَلِمت!

***

(1): المَمالِيكُ أُصُولُهُم رَقِيقٌ مُحارِبُون، استَقدَمَهُمُ الخُلَفاءُ العَبَّاسِيُّون الأَوائِلُ مِن تُركُستان والقُوقاز وغَيرِها وجَعَلُوهُم

     حُرَّاسًا لَهُم وقادَةً لِجُيُوشِ المُسلِمِينَ، وقد ازدادَ نُفُوذُهُم بِمُرُورِ الزَّمَنِ حَتَّى أَصبَحُوا يُهَيمِنُونَ على الخِلافَةِ

     وعلى مَركَزِ صِناعَةِ القَرارِ، مُستَفِيدِينَ مِن ضَعْفِ الخُلَفاءِ وتَراجُعِ نُفُوذِهِم.   (مَوسُوعَةُ وِيكِيبِيديا)

(2): وَكُوخٌ تَلعَبُ الأَرياحُ فِيهِ            أَحَبُّ إِلَيَّ مِن قَصْرٍ مُنِيفِ

      خُشُونَةُ عِيشَتِي في البَدْوِ أَشهَى      إِلى نَفسِي مِنَ العّيْشِ الطَّرِيفِ   (مَيْسُونَ الكَلْبِيَّة)

      (لَمَّا وُلِيَ مُعاوِيَةُ الخِلافَةَ تَزَوَّجَ مَيْسُونَ الكَلْبِيَّة، وَهِيَ أُمُّ وَلَدِهِ يَزِيد. وقد نَقَلَها مُعاوِيَةُ مِنَ البادِيَةِ وَأَسكَنَها

      قَصرًا في دِمَشْقَ وعلى الرُّغْمِ مِن كُلِّ ما هَيَّأَ لها مِن أَسبابِ النَّعِيمِ فَإِنَّها ظَلَّت تَحِنُّ إِلى البادِيَةِ حَتَّى بَعدَ

      أَن وَلَدَت ابنَها يَزِيد)

(3): «أَلنَّفسُ الشَّبْعَى تَدُوسُ العَسَلَ، ولِلنَّفسِ الجائِعَةِ كُلُّ مُرٍّ حُلْوٌ»   (الكِتابُ المُقَدَّسُ، سِفْرُ الأَمثال 27: 7)

(4): ﴿ولمَّا جاءَ مُوسَى لِمِيقاتِنا وكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيكَ قالَ لَن تَرانِي ولَكِنِ انظُرْ إِلى الجَبَلِ فَإِنِ

      اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ

      تُبْتُ إِلَيكَ وأَنا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ﴾   (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الأَعراف، الآيَة 143)

(5): «أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟»

      (رِسالَةُ بُولُسُ الرَّسُولُ الأُولَى إلى أهل كُورنثُوس 3: 16)

(6): «أَنَا الكَرمَةُ وَأَنتُمُ الأَغصَانُ»   (إِنجِيل يُوحَنَّا، 15: 5)

(7): (مَجَلَّةُ العَرَبِي، العَدَد 653، ص 195)

(8): «إِمتَحِنُوا كُلَّ تَعلِيمٍ، وتَمَسَّكُوا بِما هو حَسَن»  (رِسالَةُ القِدِّيسِ بُولُسَ إِلى كَنِيسَةِ تسالُونِيكِي 5: 21)

(9): «هَلُمَّ نَتَحاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ كانَت خَطاياكُم كَالقِرْمِزِ تَبيَضُّ كَالثَّلجِ. إِنْ كانَت حَمراءَ كالدُّودِيِّ تَصِيرُ

      كالصُّوفِ»   (الكِتابُ المُقَدَّس، سِفْرُ إِشَعْيا، 1: 18)

      (حَمراءَ كالدُّودِيِّ: أَي حَمراءَ غامِقَة / هَلُمَّ نَتَحاجَجْ: أي نَتَجادَل بِالحُجَّةِ)

(10): بِرسُونا Persona: «هي كَلِمَةٌ، كَانَتْ فِي المَسْرَحِ الإِغْرِيْقِيِّ القَدِيْمِ، تَعْنِي القِنَاعَ الَّذِي يَضَعُهُ المُمَثِّلُ

       الإِنْسَانُ عَلَى وَجْهِهِ، لِيُخْفِيَ حَقِيْقَةً، وَلِإِعْطَاءِ انْطِبَاعَاتٍ يَقْتَضِيْهَا الفَنُّ»

(11): ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ – وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ – إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا – وَأَكِيدُ كَيْدًا – فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا﴾

       (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الطَّارِق، الآيات 13، 14، 15، 16، 17)

 

اترك رد