نصوص مختارة من مجموعة “رؤى من أجل مدينة بعيدة” للدكتور جميل الدويهي (4)

 

 

“رؤى من أجل مدينة بعيدة” هو الكتاب الفكريّ الثالث عشر للدكتور جميل الدويهي

 

الماضي والحاضر

كان الماضي والحاضر يسيران على طريق بعيد، فقال الماضي: أنا أعلى منك مقاماً، وأطول عمراً، والناس يذكرونني ويعودون إليّ أكثر ممّا يعودون إليك. وقد جعلوني في الكتب التي يتعلّم بها أبناؤهم.

هزّ الحاضر برأسه متأسّفاً، وقال: صدقتَ يا رفيقي، فما إن أنطق بكلمة واحدة حتّى أصير أنت، كأنّ لا شخصيّة لي. وليس من ريب في أنّ الله قد خلقني تابعاً، وعبداً مأموراً لك، أيّها السابق في الأزمنة.

اغتبط الماضي، وعبّر عن رضاه بابتسامة عريضة ارتسمت على محيّاه، وأردف قائلاً: لذلك أشفق عليك يا حبيب العمر، وأشفق أيضاً على المستقبل الذي سمعت عنه الكثير، ولم أصادفه مرّة واحدة، فأنت تقف بيني وبينه كخيط لا يُرى بالعين المجرّدة، وكم  تراءى لي دائماً أنّ وجوده شيء من الوَهْم أيضاً، وسيكون هو أنا وأنا هو، مهما كان عظيماً.

***

مدينتي البعيدة

مدينتي ليست مدينة الروح، هي بين النعم واللا، بين الشيء ونقيضه. أهلها يعبدون الله، ويعلنون أنّه موجود، فما هو ضمير غائب ولا مغيّب. ويعتقدون أنّ الله يشفق على ضعفهم، ولا يجازي إلاّ الفاجرين، والقاتلين ونابشي القبور. وإن كان بينهم من يؤمن بالله من غير طريق نعرفها، فلا نجازيه.

مدينة العلم والأنبياء، الكهنة والبسطاء، الأذكياء والأغبياء، والملائكة والشياطين. لكن يغلب فيها الأبيض على الأسود، وإذا غلب السواد تكون المحاكمة وصريف الأسنان.

في مدينتي نساء محصّنات، لا يخرجن من بيوتهنّ إلاّ قليلاً، ونساء سافرات، يرتدين الملابس البرّاقة، ويخرجن إلى الساحات والشوارع، وعلى وجوههن مساحيق التجميل، لأنّنا نحبّ الجمال ونكره القبح.

لا أحد في مدينتي يحتقر العلم، أو يعتبر أنّ العلم كلّه محصور في كتاب واحد، فأيّ كتاب يُكْمل العلم ولا يُحقّقه. وإذا كان هناك مَن يرفض العلم، فلسنا نحن من نعلّمه أو نهديه إلى طريق الصواب.

وأطفالنا يتعلّمون الحقّ والفضيلة منذ نعومة أظفارهم، قبل أن يتعلّموا القراءة والكتابة.

ونمجّد هنا العباقرة، ونرفع لهم التماثيل، ونذكرهم في الكتب لكي تستلهم الأجيال القيم التي نشروها في الوجود، ولكن لا نسمح بأن يتظاهر كلّ واحد أنّه عبقريّ أو فيلسوف، وقد أنشأنا محكمة للنظر في شؤون المدّعين بما ليس لهم، لكي نحافظ على جوهر الحقيقة، فلا تتعرّض للتشويه من طفيليّين يريدون للحاق بالكواكب، وهم لا يملكون القدرة على تلمّس التراب الأغبر.

ومدينتنا تحبّ السلام، والرفق، والخير، والمعروف. وتقدّس العمل الدؤوب، فأهلها فلّاحون وحرفيّون ورعاة ومهندسون ومعلّمون وأطبّاء، كلّهم نسيج واحد، لا ينظر أحدهم بازدراء إلى آخر. لكنّ المبصّرين وقارئي الكفّ، والزاعمين أنّهم يعرفون الغيب، والسحرة، والمشعوذين، لا مكان لهم عندنا، فهؤلاء يُعاقبون على شرورهم بالنفي وفقدان الهويّة. وقد أسقطنا من ثقافتنا كلّ ما يمتّ إلى الخرافات بأيّ صلة.

ورجال الدين في مدينتي فقراء، يركبون الحمير والبغال، ويتجوّلون في الحارات، فيقدّمون رغيفاً لمحتاج، وماء لعطشان، ويزورون المرضى والأسرى والأرامل، ويرفعون صلواتهم لإله حقيقيّ لم تصنعه الأجيال المتعاقبة على هواها.

ويسير الخير والشرّ في مدينتي جنباً إلى جنب، فليس مطلوباً منّا أن نكون كلّنا قدّيسين وملائكة، لكنّنا في سعينا إلى الخالق، ومن أجل المحبّة التي يغمرنا بها، نحرص على أن يكون الخير سابقاً لنا، يطرق الأبواب قبلنا، يدخل إلى المعابد والشوارع والمتاجر أمامنا. والذي يغلب الشرّ على طباعه، ليس خيّراً، مهما جاهد الفلاسفة في تصويره على أنّه خيّر، أو زعموا أنّ ما ارتكبه من إثم كان بسبب الحاجة. فالحاجة ليست عذراً لأحد، ولو سامحناه، لتحوّل جميع الناس إلى الشرور، ودبّت الفوضى المدمّرة.

مدينتي ليس فيها كفر، وقد حذفنا هذه اللفظة من معاجم اللغة، ومحوناها من الكتب كلّها. فالكافر في نظرنا هو الذي كان مؤمناً بالله، ثمّ كفر به… فالذي لا يعلم بوجود الله، أو له دين آخر، فهو جاهل لطريقتنا في العبادة، والجهل ليس جريمة. أمّا التمييز بحسب العرق أو الأصل أو اللغة أو الانتماء، فعقابه عسير. وقد منعنا التبشير بالدين في الحارات والأزقّة، لكي نترك لكلّ إنسان الحريّة في اختيار الطريقة التي يؤمن بها.

الرجل والمرأة في مدينتي واحد، فلا ظلم للمرأة، ولا امتهان لكرامتها، ولا تعيير لها بأيّ نعت غير حقّ. والمرأة الزانية عندنا لا تزني وحدها، بل هناك رجل زان أيضاً، وكلاهما ارتكب الفعل ذاته.

مدينتي تكرم النحّاتين والرسّامين والمبدعين في الفنون. فكلّ أمّة  ترجم مبدعيها ترجم نفسها، وكلّ بلد لا يعظّم عظماءه ينحدر إلى الحضيض.

هذه مدينتي، مدينة المساواة العادلة، بين الكبير والصغير، الغنيّ والفقير، والسياسيّ والمواطن العاديّ. وإذا كنّا نميّز بين المتفوّق في العلم والأمّيّ، وبين مكتشف الكواكب والقاعد الخمول، فهذا ليس نوعاً من العنصريّة، بل حالة طبيعيّة فرضها الإنصاف، ونحن من المنصفين، ونقدّس العدل الذي هو هبة من السماء.

***

زانسيبي ليست وحدها

زانسيبي حالة عامّة. يمكن أن تجد مثلها في أيّ مكان. الحصان الأشقر ليس نادراً في أيّامنا. والخيل كثيرة، بعضها سوداء، وبعضها رماديّة، تقدح الشرر من عيونها.

لكنّني منصف مع هذا النوع من المخلوقات، فربّما أكون على خطأ، وتكون هي محقّة، فمن الصعب أن تكون في مجتمع وتبدو مختلفاً، حتّى ولو كنت تفعل خيراً. الاختلاف عاهة. مرض مزمن. ظاهرة شاذّة تجلب لك العداء. فمن المألوف عند ذلك أن تكون عابراً في طريق، ويلقي عليك أحد بدلو ماء.

لماذا لا تكون مثلهم إذن، تضع دلواً فارغاً في رأسك وتمضي بين البشر، فيعبّرون عن غبطتهم، لأنّك من نوع السطول التي لا تصدأ؟

أنت في حاجة أن تخرج من منزلك، وتمشي في الشوارع كما الجميع يسيرون، بعيداً عن أعين الرصد والجواسيس. فلماذا تضع قناعاً على وجهك، لتستطيع الانتقال إلى متجر البقالة، والصيدليّة، ومكتب البريد… وتحذر أن يكتشف أحد أنّك متنكّر كاللصّ، حائر كالغريب؟! ففي أزمنتك يهزؤون بالأفكار، والقيَم، ومزايا الخير، ويحترمون القاعدين وأهل النعاس. وكلّما رعدت السماء من غضبهم، ينهمر مطر غزير.

دعك من الحقد على تلك المرأة المسكينة، التي تعاني هي أيضاً من جرّاء مخالفتك للأعراف السائدة. وقد يحاكمونك، ويلقون بك في السجن، فماذا تفعل هي، وفي حدسها أنّها ستكون أرملة، ولا يعيلها أحد من بعدك؟

هي الآن تشعر بأنّ الهواء مقطوع، والأرض لا تدور. فالفصول كلّها شتاء. والمعاناة، والتشرّد، والاحتقار، من وجوه الحياة العاديّة، لا تزيد أو تنقص، بينما تمضي الأيّام بسرعة… فكيف تفكّر بأن تطلّق امرأة مضطهدَة مثلك، ويغطّيكما رداء واحد؟

ولو طلّقتَها، فماذا سيتغيّر؟

عليك في الحقيقة أن تطلّق نصف المدينة، لكي يحدث فرق، وتعرف أنّك صرت مستحقّاً للتقدير والامتنان.

***

شقيّ

اعتدى شقيّ على امرأة في شارع منعزل، فضربته بمظلّتها على رأسه، وسقط أرضاً. ونعتته بأنّه شيطان رجيم، وأنّ الشرّ يقدح من عينيه.

قام عن الحضيض، وأخذ يركض إلى الغابة ليختبئ، فشاهد في الطريق رجلاً أعمى يشحذ، فأعطاه ديناراً كان معه، فشكره الأعمى، وقال له: كم أنت ملاك أيّها الآدميّ! إنّك فعلاً من القدّيسين والمختارين!

مضت مدّة، والشقيّ تائه بين كونه شيطاناً أو ملاكاً، فتوجّه إلى معبد، وأخبر الكاهن بأنّه الاثنان معاً، وطلب منه أن يغفر ذنوبه فيصير ملاكاً، ويذهب الشيطان منه، فنهره الكاهن وطرده، قائلاً: إن كنت ملاكاً فلماذا أغفر لك، وأنت خال من الخطيئة؟ وإن كنت شيطاناً، فمهما غفرت لك فلا ينفعك، لأنّ الله قد لعنك وجعلك من المغضوب عليهم والفاحشين.

عاد الرجل خائباً، وما زال حتّى الآن، لا يعرف إن كان شيطاناً أم ملاكاً.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد