بقلم: الأب ميشال جلخ
يوم خرج الكاردينالُ الفرنسيّ جان-لويس تورون من على شرفة بازيليك الفاتيكان في 13 أذار 2013 يلفظ بصوته المرتجف اسمَ البابا الجديد باللغة اللاتينية، قِلةٌ في العالم كانت قد سَمِعت به او حَسِبت له حسابا بين مَن كان “مرشحا” آنذاك لهذا المنصب او مَن كان يتم التداولُ باسمه. وان كانت قلة في العالم قد عرِفتْه، فالجميعُ تساءل ما عساه يكون هذا البابا الجديد. اما اليوم، وبعد سنة بالتمام، فاسمُه أصبح على كل شفةٍ وأعمالُه مالئةً الدنيا وشاغلة الناس.
إنه اليسوعيُّ خورخي ماريو برغوليو الذي خرق قلوبَ الناس وعقولَهم واحتلَّ صفحاتِ الجرائدِ وغلافات المجلات العالميّة كـ Vanity FairوTimeوRolling Stone، فأصبح الشُّغلَ الشاغلَ للصحفيين ومحطَّ ترقُّبٍ للسياسيين والرؤساء الروحيين. كيف يُمكن لرجل ان يتبوأ هذا المستوى من الشعبية في وقت قصير كهذا؟
وعلى الرغم من العنوان الذي أعطي لنا من قِبَل منظّمي هذه الندوة، والذي ينحصر ضمن فِكرتين اثنتين حول إصلاحات البابا من جهة وتأثيرِها على كنائسنا من جهة أخرى، الا أننا نرى أنه من الضروري التوقّف على الأطر التي مِن شأنها أن تساعدَ على القيام بالإصلاحات المنشودة. لذلك، ودون الادِّعاء بدرس الموضوع من كافة جوانِبِه، سنتوقّفُ على بعض النقاط التي تساعدُنا على بلورة موضوعنا واستخلاص العِبر. سنتطرَّقُ بدايةً الى الإصلاحات الفعلية التي قام بها البابا فرنسيس ومِيزاتِ شخصيتِه كرئيسٍ كنسي، مرورًا ببعض العواملِ التي تساعد في تعزيز او عرقلة الإصلاحات، الى أن ننتهي بتأثيرها على كنائس الشرق الأوسط.
المحور الأول: إصلاحاتُ البابا فرنسيس ومِيزاتُ شخصيتِه
1. لمحةٌ عن إصلاحات البابا الإدارية
كالمثل الشعبي القائل “المكتوب بينقرا من عنوانو”، هكذا فَهِمَ العالمُ رسالةَ البابا من الطلّة الأولى له، رغم أن أحدًا لم يكن ينتظرُ هذه الكميَّةَ الهائلة من الهواء النقيّ والمنعش الذي هبَّ إبّان هذا الظهور وخلال هذه السنة. فاختيارُ اليسوعيُّ لاسم فرنسيس عَكَسَ تلك الرغبةَ في جعل الكنيسة فقيرةً من أجل الفقراء وإنجيليةً في خدمة الإنجيل.
منذ استلامِه السُّدةَ البُطرسية، أظهر البابا إرادةً سريعةً وصلبة في إصلاح الفاتيكان كدولة والدوائرِ الرومانية التي تهتمُّ بشؤون المسيحيين في العالم. فأنشأ اللجان لمسح الواقع ودراسة الحلول، واستعان بمؤسسات عالمية متخصصةً في العلوم الإدارية والمالية لمساندته في تصحيح المسارات التي انحرفت عن هويَّتها الأصليّة. إن أردنا أن نعطي عنوانًا عامًّا ودقيقًا للعملية التي قام بها حتى اليوم على الصعيد المؤسساتي يمكننا ان نسمِّيها “حملةُ تطهير” او “عمليةُ شفافية”، ويمكننا أن نلخِّصَها بسبعة تواريخَ محدَّدة:
في 13 نيسان 2013، أي بعد شهر واحد على انتخابه، أنشأ لجنة الثماني المؤلفة من كرادلة آتين من الهندوراس وأستراليا والولايات المتحدة والكونغو والهند وألمانيا وتشيلي وإيطاليا. الهدفُ الأساسيّ من هذه لجنة هو إعداد خطة من أجل دراسةِ وتطويرِ دستورِ “الراعي الصالح” الذي يُنظِّمُ الدوائرَ الفاتيكانية.
وفي 27 حزيران 2013 أسَّس لجنة من أجل الإشراف على أنشطة بنك الفاتيكان؛ سيَّما وأن هذا البنكَ كان تحت أنظارِ القضاءِ الإيطالي منذ سنين عدة بسبب بعضِ عملياتٍ أصابها الشكُ في مضمونها وغاياتها. ليس هذا فحسب، إنما أعطى هذه اللجنةَ سلطاتٍ واسعةً وأمّن لها مواردَ بشريةٍ وماليةٍ وتقنيةٍ وترك لها الحق في الاستعانة بأخصَّائيين خارجيين.
وفي 18 تموز 2013 أطلقَ تدقيقًا ماليًّا على الكرسي الرسولي ودولة الفاتيكان، وأسّس هيئة تُعنى بدراسة وتنظيم الهيكلية الاقتصادية والإدارية للكرسي الرسولي مؤلفةً من ثمانية أعضاء، سبعةٌ منهم علمانيين، بمن فيهم الرئيس؛ كلهم أخصّائيين في حقول الاقتصاد والمال والإدارة والقانون، وكاهنٌ واحدٌ يهتم بأمانة السر. الهدف الأساسي من هذه الهيئة هو العملُ على “تبسيط وعقلنة” الأنشطة الاقتصادية والمالية في الفاتيكان. وتقدِّم هذه اللجنةُ نتائجَ عملها للبابا مباشرة.
وفي 30 أيلول 2013 أصبحت لجنة الكرادلةِ الثمانيةِ مجلسًا ثابتا يُعاونُ البابا بشكل دائم وذلك من خلال عقد جلسات استشارية دائمة، وتستخدم الانترنت كوسيلة للتواصل فيما لو دعت الحاجة، كلٌّ من مكان خدمته.
وفي 18 كانون الأول 2013 فازت شركة McKinseyالعالمية بالمناقصة من أجل تنظيم وتطوير وسائل إعلام الكرسي الرسولي والتنسيق فيما بينها حتى تُصبحَ أكثرَ فعالية. وتم تعيين شركة KPMGفي الوقت عينه من أجل العمل على تطويرِ قواعدَ محاسبةٍ لكل المؤسّسات والخدمات التي يؤمِّنُها الفاتيكان حتى تتلاءمَ مع المعايير الدولية.
وفي 15 كانون الثاني 2014 جدّد البابا لجنةَ الكرادلة التي من واجبها أن تسهر على أعمال “بنك الفاتيكان” فبدَّل أربعةً من أعضائها من أصل خمسة.
وفي 24 شباط 2014 أنشأ أمانة عامة للاقتصاد، بما يوازي وزارةَ المالِ في الدولة، بهدف تنسيق الأعمال الاقتصادية والإدارية للكرسي الرسوليّ. وعيّن على رأسها كاردينال سيدني مع مراقبٍ عام له الصلاحية في التدخُّل بكل المؤسسات والأجهزة التي تعمل في الفاتيكان.
من ناحية أخرى فإن البابا أعلن عدة مرات نيَّتَه العملَ من أجل إعادة إحياء الديناميَّة ما بين الأوليةَ البابوية وسينودوسَ الأساقفة من أجل الخروج من هذا “الجمود” الحاصل، لأن “إصلاح ممارسة السلطة البابوية هو جزءٌ لا يتجزأ من الأنجلة الجديدة” كما صرَّح رئيسُ مجمع عقيدة الإيمان الكاردينال موللر في فالينسيا (Valence) في اسبانيا[1].
2. لمحةٌ عن إصلاحات البابا على صعيد الموارد البشرية في الكنيسة
إن كان باستطاعتنا أن نعدِّد تدخلات البابا في القضايا الإدارية من أجل شفافية أنصع وذلك من خلال القرارات التي اتخذها والهيئات التي أنشأها، إلا أنه لا يمكننا أَلا نلاحظ الطرقَ المختلفة التي ينتهجها عندما تتعلق الأمورُ بالموارد البشرية. فهو يَحُضّ ويُنبِّه ويُشجِّع ويُقدِّر ويُلاحق ويُحب. يمكننا أن نلاحظ هذه الأمورَ من خلال تأمُّلاته الصباحيّة اليوميّة وكلماته التي يلقيها في لقاءاته وأحاديثه مع الكبار والصغار، مع السياسيين والديبلوماسيين، مع العمال والموظفين. إلا أنه فيما يخصُّ الإصلاحَ الكنسي، فلا يوفِّر البابا فرنسيس مناسبة الا ويُلقي فيها الضوءَ على البعد الإنجيلي والشهادة الصادقة للذين يعملون في حقل الرسالة والخدمة وخاصةً الأساقفةُ بينهم. فعندما تتعلقُ القضيةُ بتعيين أساقفةٍ او كرادلةٍ جدد، فإن البابا يعطي أجمل ما عنده ويتنقَّلُ في كلمته بين حديثٍ منمَّقٍ متسلسل ومنطقي وبين تأملات حول صورة الأسقف المثاليّ للكنيسة ومسؤوليةِ من يقدِّم المرشحين لخدمةٍ كهذه، مع بعض تلميحات لا تخلو من السخرية اللطيفة كما عندما يطلب من الأساقفة أن يسكنوا في أبرشياتهم بحسب ما نصَّ عليه المجمع التريدانتيني (1545-1563) بدل السفرِ من بلدٍ الى بلد.
في هذا السياق لا بدَّ من التوقُّف على بعض ما جاء في كلمةٍ ألقاها للسفراء البابويين في 21 حزيران 2013 المعنيينَ في تحضير ملفات المرشّحين الى رتبة الأسقفية، وكلمةٍ أخرى تلاها لأعضاء مجمع الأساقفة في 27 شباط الماضي الذي يُعنى بدراسة تلك الملفات ويقدِّمُ النتائج للبابا من أجل التعيين او الموافقة على الانتخاب. وبالمناسبة، فإن هذا الحقل هو من أهم ما تقوم به الدوائرُ الفاتيكانية من حيثُ تأثيرِها على الكنائس المحليّة في العالم.
في كلمته الى السفراء البابوييِّن توجَّه إليهم قائلا: “تعرفون القول الشائع ’إن كنت قدِّيسا فصلِّ من أجلنا، وإن كنت عالِما فعلِّمنا، وإن كنت حكيما فاحكِمناʻ. ففي مُهمَّة حسَّاسة مثل القيام بتحقيقٍ لتعيين أساقفة انتبهوا في ان يكون المرشحون رعاةً قريبين من الناس. هذا هو المعيار الأول: رعاةٌ قريبين من الناس. وإن كان المرشح لاهوتيَّا فليذهب الى الجامعة ويعلِّم حيثُ بإمكانه أن يُفيدَ كثيرًا. رعاةٌ، نحن بحاجة الى رعاة يكونون آباءً وإخوة، لطفاءَ وصبورينَ ورحيمين. يُحبُّون الفقرَ الداخلي كحرية من أجل الرب، والفقر الخارجي من خلال البساطة والتقشُّف في العيش، وأن لا يمتلكوا نفسية ʼأمراءʻ. انتبهوا ان لا يكونوا وصوليِّين ولا يُفتشوا عن الأسقفية”.
أما في كلمته الى أعضاء مجمع الأساقفة فقال: “نحن بحاجة الى أسقف يَسهر من عَلُ، الى أسقف يملك صدرًا رحبا. لسنا بحاجة الى مدير أعمال او رئيس تنفيذيٍّ لشركة… لأن التخلي والتضحيةِ هما من صِلب الرسالة الأسقفيّة… فالأسقفية ليست حكرا على الأسقف انما هي من أجل الكنيسة والخرافِ والآخرين خاصةً أولئك الذين رفضهم المجتمع… نحن بحاجة الى أساقفة يضمنون من خلال اكتمال شخصيتهم الانسانية علاقاتٍ سليمةً ومتوازنةً حتى لا يعكسوا على الآخرين نقصَهم… بحاجةٍ الى أساقفة يُعزِّزون الأخوّة والشراكة من خلال قناعاتهم المسيحية… أساقفةٌ يُضفون وزنًا وهيبةً ويَحصُلون على احترام الجميع من خلال شفافيتهم وتجرُّدِهم عن إدارةِ خيراتِ الجماعة…”.
3. بعضُ مِيزاتِ شخصية البابا فرنسيس
لا يمكننا ان نتكلم عن الإصلاحات التي قام بها البابا فرنسيس دون التوقُّف عند شخصية هذا البابا الذي يَضمَنُ هو نفسُه ما يقوم به على صعيد التغيير، ويُضفي مصداقيةً من خلال عمله على كل كلمة يتلفَّظُ بها.
انه يسوعيّ، اختار اسم فرنسيس، درس عند إخوة دون بوسكو، يستشهد بكتابات القديس توما الأكويني. يعشق روايات مانزوني ودوستويفسكي ويتمتع بلوحات شاغال ويستمتع بموسقى موزار ويشاهد أفلام فيديريكو فيلليني. وعندما يتكلم عن هؤلاء جميعا ويعدِّدُ أعمالهم ويحلِّلُ مضامينَها نعرف انه متعمِّق بهم جميعا كيسوعيٍّ محترف وليس كعابرِ سبيل. وبالوقت عينه يستعيرُ صُوَرًا وأمثالا وتعاليم رَوتْها له جدَّتُه روزا، ويَسردُ قِصصَه مع الأُمّيين والأطفالِ والمشردين والفقراء. بالإضافة الى هذا، فقد عاش البابا فرنسيس مراحلَ الحياة الروحية والكنسِيَّة كلَّها: من راهبٍ الى مسؤول ديرٍ الى رئيس مقاطعةٍ الى أسقفٍ مساعد الى كاردينالٍ والآن كبابا.
انه خلَّاقٌ مع الانجيل لأنه قارئٌ متعمِّقٌ بالكتب المقدسة. يستعيرُ مشاهدَ كتابيةً من العهد القديم ويضعُها في قالبٍ حديث فتصبحُ جديدةً متجددة. لديه حسٌّ رعائي هائل يطال كلَّ إنسان، انما دون أن يفقدَ ركائزَه العقائديةَ والأخلاقية. وبالرغم من جرأته في بحث المواضيع الحساسة، فهو يعرفُ كيف يُحافظُ على هويَّتِه وتوازنِه.
صحيحٌ أن روح الدعابة والمرح لا تفارقُهُ، إنما يعرفُ كيف ومتى ومَن يؤنِّب دون أن يجرح. ثاقبُ النظر ولا يتراجع. عدة مرّاتٍ قلتُ في نفسي أنه لن يتمكَّن من الذهاب أبعد من ذلك خاصةً في إصلاح الدوائر الفاتيكانيّة وفي كلِّ مرة كنت على خطأ، لا بل أراني اليوم أُقرُّ أنه ما يزالُ في بداية الطريق لأن ما يؤسِّسه يُنذرُ بمشوارٍ طويل لم يَعُدْ من السَّهلِ الرجوعَ عنه.
عظتُه الصباحيةُ اليوميةُ تبقى الفرادة التي تميِّزُه كثيرًا عن باقي الباباوات. من خلالها نخترقُ شخصيَّتَه وندخلُ الى أعماق تفكيره. وفيها نرى جُرأتَه في قول الحقائق الموجعة دون تردُّدٍ أو خوف، لا بل بقدر ما تكونُ الحقائقُ موجعةً بقدر ما يكرِّرُها على مسامعنا كلَّ صباح. عنده مقدرةً هائلةً في الربط بين وقائعٍ من العالم حيث يجمعُ مشاهدَ متناقضة كقوله مثلا: “أطفالٌ يموتون جوعًا في مخيمات اللاجئين في حين يقومُ صانعو الأسلحة بالاحتفال في الصالونات”.
خلاقٌ ومتجدِّدٌ ولا يمكنُنا توقُّع ما يفعلُه. يأخذُنا على حينِ غفلةٍ عندما يتركُ شقته في المبنى الرسوليّ وينتقلُ الى بيت الكهنة او حين يدفعُ فاتورةَ الفندق شخصيا او عندما يتصل بدير راهبات الكرمل في اسبانيا ويترك تسجيلا بصوته قائلا أنه سيعاودُ الاتصال او عندما يطلب من اسقف إنجيلي تسجيل رسالة مباشرة على الآي فون لمؤتمر رؤساء الكنائس الإنجيلية في أميركا. وها هو الأسبوع الماضي يطلب من رؤساء الدوائر والمجامع الفاتيكانية مشارَكَتَه في الرياضة الروحية خارجَ الفاتيكان ولأول مرةٍ عند الرهبان البوليسيين ودفعَ كلفة الإقامة والطعام.
الا ان أكثر ما يتفرّدُ به بالنسبة لي هي قُدرتُه على التمييز، وهذا ما يَنمُّ عن عمقِ تفكيرٍ وتأملات طويلة خلال حياته الرهبانية والكهنوتية. فيحِضُّ الأساقفةَ على مؤازرة مؤمنيهم بشكل دائم ويوميّ لكنه يزيد ويقول أنه غالبا ما تصبح هاتين الكلمتين مرادِفتين للروتين والملل. وعندما يكتب رسالة الصوم يُميِّز جيّدًا بين الفقر الذي هو ميزةٌ انجيليةٌ وبين البؤسِ الماديّ والمعنويّ والروحي الذي علينا ان نحاربَه. وحين يتكلم عن الخطيئة فإنه يقبلُ الخاطئ لكن لا يقبلُ الفاسد. فالفاسدُ بنظره أبشع من الخاطئ لأنه يقضي حياته في “اتّباع الطرق الانتهازية والاستغلالية الأقصر وذلك على حساب كرامته وكرامة الآخرين. انه يستحق دكتوراه فخرية في التجميل الاجتماعي وينتهي به المطاف أنه يصدِّق نفسه، اما الخاطئُ فطريقُ الغفران مفتوحةً له للتوبة”.
المحور الثاني: تأثير إصلاحات البابا فرنسيس على كنائس الشرق الأوسط
1. عوامل الإصلاح
قبل التكلم عن تأثير إصلاحات البابا على الكنيسة لا بد من التوقف بدايةً على العوامل التي ساعَدَتْ وتساعدُ على القيام بتلك الإصلاحات، وعلى الفروقات العامة بين كنيسة روما والكنيسة اللاتينية بشكل عام وبين كنائسنا في هذا الشرق. فقليلٌ من النقد الذاتي يفيدُنا قبل ان نتوجَّه الى الآخرين او الى المسؤولين عندنا. وإنني بالطبع لست في وارد جلد النفس وتمجيد الآخرين، انما لا شك أن أيَّ إصلاح لا يمكنه ان يكون فاعلا ما لم نتفق معا على نقاط الخلل حتى يصبحَ الوعيُ الجماعيّ قابلا لاستيعاب الإصلاحات المنشودة.
هناك مَيِّزات لا بد لنا أن نأخذَها بعين الاعتبار كالانضباط مثلا (discipline). فالفرقُ بيننا وبين الكنائس في الغرب شاسعٌ وكبير على هذا الصعيد. ان الانضباطَ واحترامَ الأوامر والتوصيات تسمح للبابا بأخذ القرارات وتطبيقِها خاصة في الدوائر الفاتيكانية، لكن لا أعلم الى أيِّ مدى نمتلك كشرقيين ذاك الانضباط الذي يساعد في تطوير المجتمع الكنسي. عدا عن هذا، فإن الهيكلية والهرمية الموجودة في الكوريا الرومانية مثلا ليست موجودةً في بطريركيات كنائسنا الشرقية.
عامل آخر يميِّز طبعنا كشرقيين هو التشكي من أجل التشكي والتذمر من أجل التذمر، ولا أعلمُ بصراحة في حال خرج من بيننا بابا فرنسيس آخر الى أي مدى سنتفاعل معه إيجابًا ونضحِّي بجزء من أنانيتنا لكي نستجيب الى نداءاته من أجل الآخرين الأكثر عِوزا وفقرًا منا، أم أننا سنبقى ناقمين متأفِّفين، نادبين حظَّنا قابعين في زوايانا؟
اما على صعيد عام فهناك نقصٌ أساسيّ عندنا في روح الانتماء الى مؤسسة؛ روحٌ موجودة على صعيد العنفوان أكثر منه على صعيد الالتزام. ما ينقصُنا بالأحرى بالنسبة لكنيسة الغرب هو الروحُ المؤسّساتيّ والفكر المؤسّساتي. انا لا ألوم ولا أبجّل، لا أحكم ولا أبرِّر، انما أنطلق من واقع حياتنا حتى نتمكَّن من أن نتغيّر صوب الأفضل وإلا سنعيش محبطين ويخيب بالتالي أملُنا.
عاملٌ آخرُ لا يمكنُنا ان نستهين به وهو خارج عن إرادة الكنائس ألا وهو عاملُ الاستقرارِ السياسي والاجتماعي. ولا يمكن لأي إصلاحات أن تتحقق او حتى ان يتم التفكيرُ بها ما لم يكن هناك من أمان واستقرار لضمان استمرارية الإصلاح المنشود على الأقل. فحالة الشرق الأوسط على هذا الصعيد متوترة الى حد بعيد منذُ ما يقارب السبعين عاما، ما يجعل كنائسَنا تعيش حالاتِ طوارئَ تُلهيها عن التفكير بترتيب أوضاعها الداخلية وتجعلُها منهمكةً بقضايا الحرب والهجرة والبطالة والتربية والسكن والسياسة الى حد بعيد… هذا عدا عن التداخل التاريخي بين الدِّينِ والدولة في الشرق الأوسط. فلا أعرف مثلا الى أي مدًى يمكنُ لرؤسائنا الروحيين أن يأخذوا القرار الذي أخذه البابا فرنسيس في عدم التدخل في السياسة الإيطالية وأحزابها وفي قضايا الدولة التربوية وحياتها المدنيّة وسنِّ قوانينها.
ان تكلمت عن بعض الاختلافات الموجودة على الصعيدين العام والخاص بين كنيسة روما وكنائسنا في الشرق الأوسط، هذا لا يعني انه لا يوجدُ أوجهُ شبهٍ كثيرة. وإن أهم تلك الأوجه هي انتظارات المؤمنين من المسؤولين الروحيين وأملُهم في كنيسة قريبة منهم بفقرهم وحاجاتهم وعوزهم وقلقهم. لعل أكبر أسباب نجاح البابا في رسالته هو انتظارات العالم للإصلاح الذي طالما طالب به المؤمن كما غير المؤمن، الأسقف كما الكاهن كما رجلُ الأعمال او الموظفُ العادي. فالعالم ينتظر كثيرا من الكنيسة لا لشيء إلا لأنه يرى فيها الضميرَ الحي في قلب التوترات الإقليمية وسياسات المصالح، والصوتَ الصارخ ضد غلبة الفساد على الأخلاق وهيمنةِ الظالم على البريء.
2. تأثيرات إصلاحات البابا فرنسيس على كنائس الشرق الأوسط
إن أخطر ما يمكن أن نواجهه في موضوع كموضوعنا هو التعميم، تماما كما حصل مع كهنة أميركا مثلا. وإن الخطورة في تبني فكرةً واحدة دون الأخرى واردة. لذلك لا بد من التنويه بالخدمة التي يقوم بها الكثيرُ من المؤمنين والكهنة والرهبان والراهبات والمسؤولين الروحيين والتي من أجلها كرّسوا وقتهم ونذروا حياتهم عن قناعة في سبيلها. لكن هل هذه هي كلُّ الحقيقة؟ بالطبع لا. فحذاري أن نقع في فخ تسخيف القضايا أو تمييع الأمور – وهذه ميزةٌ من جملة ميزاتنا كشرقيين. وإن كنا نريد أن نعرف بشكل واضح وصريح مدى تأثيرات إصلاحات البابا على كنائسنا يمكنني القولَ أن ما وَصَلَنا منها هو القليل القليل بالنسبة الى الحاجة، وما زال أمامَنا الكثيرُ لكي نواكب مسيرة البابا. لكن مشوار الألف ميل يبدأ بالخطوة الأولى وما علينا إلا أن نتشجع لنقابل الحبر الأعظم في المَقلب الشرقيّ من الكنيسة.
من ناحية أخرى، نعيش عصرا ذهبيا من حيثُ مكانة بطاركتنا ووعيهم على دورهم التاريخي في هذا الوقت وخاصةً أولئك الذين تم انتخابُهم حديثا: فمن البطريرك بشارة الراعي للموارنة في لبنان الى البابا تواضروس الثاني للأقباط الأرثوذكس والبطريرك إبراهيم اسحق للأقباط الكاثوليك في مصر، ومن البطريرك يوحنا العاشر للأرثوذكس في سوريا الى البطريرك لويس ساكو للكلدان في العراق والبطريرك نورهان مانوغيان للأرمن الأرثوذكس في القدس لا يمكنُنا إلا أن نشيد بحكمتهم ومهارتهم وعملهم الدؤوب في بثِّ حيويّة روحيّة متجرِّدة ونَفَسٍ جديد.
فالإصلاح هو قبلَ كلِّ شيء حالة ذهنية تنبع من الداخل قبل ان تأتي من الخارج. هو تيارٌ ينقلُ معه عدوى الشعورِ بالحاجة الى تقويم تنظيمي وإداري ويبث روحًا إيجابية في المؤسّسة الكنسيّة. انه قلقٌ مقدس يُحفِّز المؤمنين عامة والمسؤولين بنوع خاص على أن يكونوا خلاقين في تحقيق رسالتهم ولا يستكينوا الى الروتين والملل كما قال البابا. فالعودة الى روح الانجيل الأصيلة تستوجبُ منا ان لا نرتاح ما دام هناك فقيرٌ او عطشانُ او مشردٌ او مهجرٌ او متألمٌ او مظلوم… وما أكثرُهم بيننا.
إن الكنيسة هي في إصلاحٍ دائم؛ “Ecclesia semper reformanda est” كما قالت عنها الحركةُ البروتستانتية في بداياتها. فالإصلاح هو مسيرةٌ ينخرط فيها الانسان وتنخرطُ فيها الكنيسة، ولا تعني بالضرورة أن تقلِّد كنائسُنا الحبرَ الأعظم فيما يقوم به، انما ان تستمدَّ منه هذه الاندفاعة وتفكرَ بدورها بإصلاح يتأقلم معها ومع معطيات مجتمعها وشعبها وعبقريتها، وإلا فلا أملٌ في نجاح أيِّ إصلاح مهما تعاظمَ شأنُه. ما تحتاج اليه كنائسُنا اليوم هو تغييرُ ثقافة السلطة من اعتبارها حقًا مكتسبًا او غنيمةً شخصية او تحقيقًا ذاتيا الى مسؤوليةٍ ترقى بمصاف حامليها الى درجة الخدمة.
هذا لا يعني أنه لا يمكنُنا أن نبدأ من حيثُ بدأ قداستُه، أي من حُسن الإدارة المالية والشفافية في الحسابات والتخلّص من مظاهر الترف وعيش بساطة الإنجيل وحكمتِه في الأمور الدنيويّة والروحيّة… وما أحوجنا الى مثل هذه المبادرات في كنائسنا والى سماع رؤسائنا يحثون ابناءهم وكهنتهم ورهبانهم وراهباتِهم وأساقفَتَهم كما حثَّ البابا فرنسيس الأكليريكيين قائلا: “مِن الضروريّ بالنسبة لنا نحن معشرَ الكهنة والراهبات أن نكون مِصداقين مع فقرنا! عندما تجدُ أن الاهتمامَ الأولَ لمؤسسةٍ تربوية او رعائية يصبح المال، فهذا ليس بجيد! هذا عدمُ مصداقية! علينا أن نكون مصداقين وأصيلين (Coerents et authentiques). علينا أن نعملَ ما يقولُه القديس فرنسيس – والكلام للبابا دوما: فلنعِظ بالإنجيل من خلال المَثل أوَّلا وبعدها من خلالِ الكلمة. لكن قبل كلِّ شيء على الآخرين أن يقرأوا الانجيلَ من خلال عيشنا”[2].