“رؤى من أجل مدينة بعيدة” هو الفكريّ الثالث عشر للدكتور جميل الدويهي
رمزيّة – واقعيّة مُتخيَّلة
تركت جدّةُ الحَمَام القديمة، بعضاً من مذكّراتها في جوف صخرة عالية، فوق الوادي الكبير. وتلك الحمامة رافقت نوحاً في رحلته أثناء الطوفان، ولم ينج سوى ثمانية من البشر كانوا في السفينة، وعوج بن عناق خارجها، إذ بلغ الطوفان ركبتيه فقط.
ولم يكن أحد من جيل الحَمَام الجديد يعلم عن عوج، أنّه قد وُلد سفاحاً من أوّل زانية في التاريخ، عنَق ابنة حوّاء. كما لم يعلموا بقصّة أخرى أكثر إثارة، وهي كيف أنّ خفّاش الليل كان ذكراً من الحَمَام الأبيض، وقد عاش في زمن نوح أيضاً، وبعد الطوفان.
والقصّة هذه بطلتها جدّة الحَمَام، صاحبة المذكّرات. وكتبت مشاهداتها في فترة عصيبة من عمر البشريّة، حيث لم يبقَ من الناس على قيد الحياة، سوى التسعة الناجين، وبهم بدأت البشريّة تتكاثر من جديد.
دُهش الجَمع من الحَمَام الذي كان يبحث في الكهف عن مأوى له، فعثر على مذكّرات الجدّة، وفيها فصل عن قصّة مثيرة للدهشة تحكي عنها وعن صديق لها، كانا يطيران معاً، ويترافقان من الصباح إلى المساء. وكانت الجدّة رائعة الصوت، فهديلها ساحر، وكان صديقها ذا صوت خشن وغير صالح للغناء. وذات يوم حطّ على كتف عوج، بينما كان هذا الأخير يشوي سمكة في عين الشمس، فتصاحبا فترة، وعلّمه عوج أن يغدر بصاحبته، لأنّ المجد للعماليق والأقوياء، وليس للضعفاء.
وكان ذكر الحَمَام يشتعل غيرة، فأخذ يُظهر حقده رويداً رويداً، وكان كلّما كبرَ يزداد صوته بشاعة، فيكفر ويشتم الحظّ الذي منعه من الغناء… وأصبحت لعناته مثلاً في أمم الطيور. وكان يؤلّب على صديقته كلّ ذي ريش، ويحرّض على كرهها، حتّى ضجّت الأرض والسماء، من اليونان إلى بلاد الهندوس، بما عنده من بغضاء ونميمة.
وهجم الشرّير على الحَمَامة ذات الغناء الرقيق، بينما كانت نائمة، فأنشب فيها مخالبه، فسال الدم منها، وعانت الأمرّين، وامتنعت عن الهديل سنة، حتّى تعافت، وتمكّنت من الطيران. لكنّ ذلك لم يشف غليله، فأحضر دلواً من القطران، ووضعه على حافّةٍ فوق الأيك الذي يأوي إليه، وكان عازماً أن يسكب القطران على الحمامة فيشوّه ريشها ويصبغه بسواد حالِك. وفوجئ بأنّ الحمامة هاجرت إلى بلاد بعيدة، لكي تنجو منه، ومن العملاق الذي يوسوس له… فانفجر غضباً، وصفّق بجناحيه وهو يكفر ويزمجر باللعنات، فصدم بجناحه دلو القطران فانسكب عليه، وصار لونه قاتماً كالفحم. وعبثاً حاول أن يغسل نفسه في الأنهار والينابيع والبحيرات، وشكَا أمره إلى عوج، وكان هذا قليل الذكاء، فأجفل عنه، وتركه يتخبّط في مصيره. ولمّا أيقن الحقود أنّ لا رجاء له بأن يعود لونه الأبيض، ارتأى أن يطير في الليل فقط، لكي لا تسخر الطيور من هيئته القبيحة، ومنذ ذلك الحين تحوّل إلى خفّاش يبغضه الناس والطيور كلّهم.
***
اللصّ والشيطان
طلب الشيطان من أحد اللصوص أن يسطو على منزل، وبينما اللصّ يفتح الخزانة ويأخذ منها الأموال ويضعها في كيسه، استفاق صاحب المنزل من النوم، وصاح به: ماذا تفعل أيّها الشقيّ؟
التفت السارق إليه، وأجابه وهو منهمك في عمله: أسرق مالك، فهذه مهنتي التي أتقنها، ولا أعرف سواها.
-لكنّني مُقعد، ولا أستطيع أن أغادر فراشي هذا من غير العصا، وليس لي أحد يعيلني… فلو حرمتَني من أموالي، سأموت جوعاً.
أشفق السارق على صاحب البيت، وقال له: حسناً… حسناً… في حالتك هذه سأعيد أموالك إليك. فلا تقلق.
في تلك اللحظة دخل الشيطان، فرأى صاحبه يخالف أمره، فنهره وعيّره بابن الفاجرة، وقال له بلؤم: كيف تجرؤ على عصياني، وأنا رعيتُك منذ كنت في المهد؟
أجاب اللصّ: عفواً يا سيّدي… إنّ هذا الرجل مسكين ولا يقوى على السير… وقد عطفتُ عليه.
-يا لك من فاشل! هذه الألفاظ: العطف، الشفقة، والحبّ، والرفق… هي من لغة الضعفاء، ونحن لسنا كذلك. فافتح الخزانة مرّة أخرى… فإنّ ما تحتويه حقّ لك بحكم قوّتك على هذا الضعيف.
“لن أفعل”… قال اللصّ بجرأة، ووقف بين الخزانة والشيطان، فهجم عليه هذا الأخير، ولطمه لطمة اهتزّت لها مفاصله، ثمّ شدّ بيديه الثقيلتين على عنقه، لكي يخنقه، فخرجت عيناه من محاجرهما، وضاقت نفسه، وأظلمت الدنيا في وجهه… فما كان من المُقعد إلاّ أن قام من فراشه بأعجوبة، وحمل عصاه، فمضى إلى الشيطان وضربه على مؤخّرة رأسه، ففار الدم منه، ثمّ أتبع بضربة أخرى في عينه فكاد يقتلعها، ففرّ الشيطان وهو يصيح متألّماً، وقفز من النافذة، فوقع في أجمة من الأشجار اليابسة ذات الأشواك… ولم يخرج منها إلاّ بعد جهد، فراح يعرج في الطريق المظلم.
نظر اللصّ إلى صاحب البيت مندهشاً، وقال له: لقد كذبتَ عليّ، وأعلمتَني بأنّك مقعد، فكيف قمتَ إلى الشيطان وضربتَه بالعصا؟
أجابه: أقسم بالله أنّني كنت مقعداً منذ عشر سنوات، والجيران كلّهم يعرفون ذلك، ولست أفهم أيّ قوّة رفعتني من السرير، وجعلتني أسير على قدميّ لأعاقب الشيطان، بينما كان يعتدي عليك.
-رائع أنّك أنقذتني… لكنّني صدقاً أقول لك إنّ الظروف قد تغيّرت الآن…
-ماذا تقصد؟
-أقصد أنّني سأفتح الخزانة مرّة أخرى، وأضع أموالك في كيسي… وهكذا يستقيم العدل، ولا يخسر أحد منّا.
بعد قليل من الوقت، كان اللصّ يحمل كيسه على ظهره، وهو مغتبط بما سرقه، بينما كان صاحب البيت فرحاً بأنّه ترك عصاه، وصار يمكنه أن يمشي مثل جميع الناس.
***
ثوب العروس
كانت أمام المرآة، ترتدي ثوبها الأبيض، فالعريس قد يأتي في أيّ وقت، لاصطحابها إلى منزله، حيث الغناء والرقص والضرب على الدفوف.
فتاة فقيرة، لفظت بها الأقدار على شاطئ بعيد، ومدينة مجهولة. فعملت في مصنع لتؤمّن لقمة العيش، وتشرّدت، وذاقت الأمرّين، حتّى قيّض الله رجلاً أحبّها وأحبّته، واتّفقا على الزواج.
سمعت طرقاً على الباب، فظنّت أنّ العريس قد حضر، لكنّ الصوت ارتفع، وعلت جلبة، فإذا مطارق تنزل على الباب وتخلعه، ويدخل ثلاثة رجال ملثّمين، فيهجمون على العروس، وهي تصيح وتحاول التخلّص من أيديهم القاسية. حملوها إلى أرض قاحلة، وألقوا بها في حفرة مليئة بوحول الشتاء. ثمّ غادروا على عجل وهم يقهقهون.
أخذت تبكي، والمطر ينهمر عليها، فيبعثر شعرها الأشقر الطويل، ويمتزج بدموعها السخيّة. اختنق صوتها من الهلع، فالعريس قد يصل في تلك الساعة، ويجدها في حالة مزرية. وما هي إلاّ دقيقة، حتّى مرّ بقربها شابّ في العقد الثالث من عمره، بهيّ الطلعة، بسيط في هندامه، فرآها، وأشفق عليها، وسألها: مَن فعل بك هذه الفعلة الشنيعة أيّتها المرأة؟
أخبرته بأنّها كانت تستعدّ لفرحها، عندما اعتدى عليها الرجال الثلاثة، ورموا بها في الوحول.
ابتسم لها برقّة، وهمس: لا تخافي. هاتي يدك!
أعطته يدها، فأخرجها من الوحل، وكم كانت دهشتها عظيمة، عندما رأت ثوبها أبيض غير ملطّخ، وكأنّها اشترته للتوّ!… نظرت مرّة ثانية إلى الشابّ، وسألته بغبطة:
كيف حدث هذا؟ هل أنت ساحر؟!
أجابها: لا… لست ساحراً…
ثمّ مدّ أصابعه إلى الوحل، وأخرج الحذاء منه. كان أيضاً ناصعاً كالثلج، لا تشوبه شائبة. فازدادت دهشتها وكادت تطير من البهجة، بينما كان هو يغادر على عجل، ويختفي وراء ضباب الشتاء.
جاء العريس، فأخبرته بكلّ ما حدث معها… فحدّق في وجهها مليّاً، غيرَ مصدّق حرفاً ممّا تقوله… وشكّ في صدقها الذي لا يُصدّق.
حملها على فرسه إلى منزله. وكان الجميع هناك يأكلون ويشربون، بينما الراقصات يرقصنَ والمغنّيات يغنّينَ. وكان الرجال الثلاثة الحاقدون في الجمع، يتظاهرون بأنّهم من الأهل والأصدقاء المخلصين. ولمّا رأتهم، صاحت بهم:
أخرجوا من هنا أيّها الأشرار الكارهون للخير!
“كارهون للخير نحن”؟ أجابوا وهم يمثّلون العجب والاستنكار.
اندهش الجمع كلّه، وسألها العريس: لماذا تطردين هؤلاء من العرس؟
أجابته: هم الذين دخلوا إلى بيتي بالقوّة، وألقَوا بي في بركة الوحل لتشويه عرسي، ومنعي من السعادة.
استنكر الرجال قولها، واتّهموها بالكذب والافتراء عليهم. وكانوا في قرارة أنفسهم مستغربين كيف عرفتهم وهم لا يرتدون أقنعتهم.
قالت لهم بانفعال ظاهر: أنظروا إلى ثيابكم الملطّخة بالوحل، لتتأكّدوا من صدقي، وتعترفوا بأنّكم أنتم الكاذبون… فكيف يجرؤ الواحد منكم أن يأتي إلى عرسي، وملابسه تدلّ على ما فيه من شرّ وضغينة؟!
***
كِتاب
عند محطّة القطار بين مدينتين، واحدة قديمة وأخرى جديدة، كان شابّ ثريّ يقرأ في كتاب، فيقلّب صفحاته، حتّى يصل إلى نهايته، ثمّ يعود إلى الصفحة الأولى فيقرأ مرّة أخرى، ويتمتم بصوت غير مسموع.
اقترب منه رجل فقير، وخاطبه قائلاً إنّه يحتاج إلى رغيف من الخبز ليسدّ رمقه، فأشار الغنيّ إليه بأن يبتعد عنه، وأجابه بلؤم: ألا ترى أنّني منهمك في قراءتي لهذا الكتاب العظيم، ولي شغف به، فلا أكاد أنتهي من قراءته، حتّى أعود إليه، فألتهمه بكلّ ما فيه من تعاليم رفيعة؟
سمع فلاّح عجوز الحوار بين الرجلين، فدعا الفقير إليه، وأعطاه رغيفاً من كيس كان معه، قائلاً له: اسمع أيّها الصدّيق… ليس معي سوى رغيفين في هذا الكيس… سأكتفي بواحد وأعطيك واحداً… لكن لا تزعج هذا الرجل بعد الآن، ولا تضيّع وقته… أفلا ترى أنّه منشغل في كتاب عنوانه “كيف تكون خيّراً”؟
***
المعبد
غرقتْ سفينة على مقربة من شاطئ جزيرة، وتمكّن خمسة من ركّابها من السباحة، فوصلوا إلى الرمال منهَكين. وألقى السكّان البدائيّون القبض عليهم، وأسَروهم في أقفاص من خشب الخيزران.
وذات يوم أراد حاكم الجزيرة أن يزور الأسرى، فسألهم عن أجناسهم، فقال الأوّل إنّه من الصين، وقال الثاني إنّه من الهند، والثالث من سبط يهوذا، والرابع من الحجاز، والخامس من اليونان.
بقي الخمسة في الأسر مدّة، حتّى جاء إليهم الحاكم مرّة ثانية، وقال لهم: سأطلق سراحكم، بشرط أن تتعاونوا على ما هو مفيد لهذه الجزيرة… فنحن قوم بدائيّون، ولا نعرف من المدنيّة سوى ما ترونه من الخيام والأكواخ. وإنّني ذاهب في رحلة طويلة، وقد أغيب عاماً، فلو عدت من سفري ووجدت أنّكم حقّقتم ما أطلبه منكم، عفوت عنكم، وجعلت لكم مقاماً رفيعاً في هذه البلاد، ولو فشلتم، فسأعيدكم إلى الأقفاص، لتمضوا فيها بقيّة أعماركم.
غادر الحاكم في رحلته، ولمّا عاد، فوجئ بمبنى شامخ يرتفع في وسط الجزيرة، آية في الروعة. فاغتبط كثيراً، وخطر في ذهنه أنّ ما طلبه من الرجال الغرباء قد تحقّق، فمضى على الفور إليهم، وكانوا لا يزالون يعملون في البناء، فسلّم عليهم، وسألهم: كيف صنعتم هذا؟
فقال الصينيّ: إنّ والدي من البنّائين الماهرين، وأخذت عنه صنعة إنشاء الأعمدة. وهذا الهنديّ بارع في نحت الحجارة، وهي كما ترى يا سيّدي، قاسية وعصيّة على الزوال. وقال الحجازيّ: لقد جعلت النوافذ من زجاج وخشب وحديد… وهذه مهنتي في بلدي. وقال الآخر من سبط يهوذا: وأنا أنجزت الطلاء بلون ذهبيّ يسحر الألباب. وقال اليونانيّ: وأنا سقفته بقرميد صنعته بنفسي من التراب والنار، فإذا هو تحفة رفيعة… وهكذا تعاونّا معاً من أجل معبد الإله هذا…
شدّ الملك على أيديهم، وهو يعبّر عن فرح غامر على محيّاه، وقال: أنتم رائعون… وإنّ أكثر ما يُدهشني ليس البناء نفسه، بل أنّ خمسة من الرجال، من أديان مختلفة، يقيمون معبداً لإله واحد!
***
المحاكاة
*عندما يحاكي الفنّان، فإنّه يتصرّف في المنقول… وحين يصوّر الرسّام منظراً للطبيعة، لا يجب أن ينقله كما هو، بل أن يحاكيه ويرسمه كأفضل ما يمكن أن يكون (أرسطو).
كان شابّ يقلّد العصفور من زقزقته، ويضع أمامه قبّعة، فيرمي العابرون فيها بعض النقود. سألت الشابّ: كم ينبغي أن أترك لك في القبّعة؟… فلست أريد أن تعتبرني بخيلاً، ولا أن أعطيك أكثر ممّا تستحقّ.
فأجاب، وهو يقطع محاكاته للعصفور: دينارين!
دفعت له ديناراً ومشيت، فخاطبني بنفور: ليس عدلاً يا أخي أن تدفع ديناراً، بل إنّ العدل يقضي بدينارين، واحد لأنّني أقلّد العصفور، والثاني لأنّني أفضل منه.
قلت: معاذ الله! الدينار الواحد لأنّك تقلّد العصفور هو عين الحقّ، أمّا الآخر لأنّك أفضل منه، فعين الباطل.
***
*مشروع الأديب الدكتور جميل الدويهي Genuine PhD أفكار اغترابيّة للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.