نصوص مختارة من مجموعة “رؤى من أجل مدينة بعيدة” للدكتور جميل الدويهي (2)

 

 

“رؤى من أجل مدينة بعيدة” هو الفكريّ الثالث عشر للدكتور جميل الدويهي

 

الوهم

سأل تلميذ معلّمَه المتصوّف: كيف يكون الوهم؟

أجاب المتصوّف: إنّي لو جعلتك اثنين لا واحداً، وطلبت منك أن تقف عند جهتين مختلفتين من هذا المعبد، فإنّ الأوّل منك سيقول: إنّ هذا المعبد ينطح السحاب، لأنّه مبنيّ على قمّة الجبل، لكنّ العيب فيه أنّ المهندسين لم يصنعوا له باباً ليدخل منه الزائر، وإذا كان من غير باب، فهو بالتأكيد ليس له مفتاح يفتح الباب، فالناس لا يمكنهم الصلاة في محرابه… إذن، لقد أخطأ من بناه ليكون معبداً، وهو ليس معبداً في الحقيقة…

أمّا الثاني منك الذي يقف عند الجهة المقابلة، فسيقول: يا له من معبد رائع! لقد صرف المهندسون والعمّال كثيراً من الوقت لبنائه، وهذا الباب من خشب الجوز فخم جدّاً، ولا بدّ من أنّه كلّف مالاً كثيراً، ومفتاحه من نحاس أحمر، فلا يسطو عليه اللصوص… ويدخل إليه المؤمنون بسهولة من أجل الصلاة والعبادة… إذن، لقد أبدع من بناه أيّما إبداع، فكان تحفة معماريّة في عصره.

تأمّل التلميذ برهة في ما قاله معلّمه، ثمّ سأله مرّة أخرى:

أيّ الاثنين أكون أنا يا سيّدي؟

ابتسم المعلّم وأجاب:

أنت مثل جميع الناس، وهمُك أكبر من حقيقتك، لذلك تكون في الجانب الخطإ، حيث لا ترى الباب ولا المفتاح. ولعلّك لا ترى المعبد أيضاً… وتعتقد أنّ ما يتراءى لك هو كلّ المعرفة.

***

قصرمال

كان الساكنون في مدينة قصرمال يحتفلون كلّ عام بعيد الحصاد، فيدْعون أهل النواحي المجاورة للاحتفال معهم، حيث تُذبح الخراف، وتُهرق الخوابي، ويصدح الغناء مع المزمار وخصور الراقصات.

حضرَ بُشر الأقرع، وهو مواطن فقير وقصير القامة، في وقت مبكر، ليكون له كرسيّ في مقدّمة الحاضرين، فلا يضطرّ أن ينزل من الشجرة، كما فعل زكّا في الكتاب. وما إن تقدّم الرجل إلى الصفّ الأماميّ، حتّى نهره أحد السدَنة، وطلب منه أن يجلس في الخلف، لأنّ المقاعد كلّها محجوزة للأغنياء وأهل السلطة والمقام.

حزن بُشر، وحاول إقناع السادن بأنّه سبق الآخرين، لأنّه يريد أن يتفرّج على العيد، وهو قصير الجسم، فإذا جلس خلف الأغنياء، وهم عماليق، فلا يرى شيئاً. أمّا إذا جلسوا هم خلفه، فيمكنهم جميعاً أن يتمتّعوا بالاحتفال. لكنّ السادن غضب منه، وقال له بنبرة حادّة: لا تقول العدالة بما قلتَه، فعدالتنا نحن أن يكون الأغنياء والسماسرة والصيارفة هم المتقدّمون على سواهم، والعامّة يتبعونهم. فإذا لم ترضَ بما قسمه الله لهم ولك، فيمكنك أن تغادر هذا العيد، وهو عيدُنا، ولا نأسف عليك.

امتقع وجه بُشر، واجتاحته رغبة في البكاء. وسأل: ما الفرق، يا سيّدي، بيني وبين من تفضّلونهم من البشر؟ ألسنا كلّنا من طينة واحدة، وأبناء الله نُدعى؟

ضحك السادن، فبانت أسنانه المكسّرة، وقال بصوت عال: هم الشجرة وأنت الغصن. هم الأصل وأنت الفرع. هم الأحياء وأنت المَيت الذي يسير على الأرض. إن قالوا لك: إقلع عينيك لكي نبصر نحن، فاقلعهما، وإن طلبوا منك خبزاً، فجوّع أطفالك ليشبعوا هم… هل فهمت ماذا أعني؟

أطرق بُشر قليلاً، وغادر المكان يجرّ قدميه جرّاً، ودمعة الأسى تلتمع في عينه. وقبل أن يعود إلى بيته، لفت نظرَه ولد لم يتجاوز العاشرة من عمره، ومعه سيّدة شابّة… كان الولد مضطرباً، يعبَس ويهمهم قائلاً: يا لهم من أغبياء! يا لهم من جاهلين! انتظري يا امرأة حتّى أكبر قليلاً، وسترين ما الذي سأنزله من عقاب على أبناء الأفاعي هؤلاء.

***

عابد الشمس

اشتكى أهل المدينة من أنّ رجلاً قدِم من بلاد بعيدة، واشترى منزلاً بينهم، لا يعبد الله، بل إنّه يعبد الشمس. وصخبوا أمام قصر الملك، مطالبين بأن يُعاقِبَ ذلك الزنديق أشرّ العقاب، أو يُطرد من بينهم.

طلب الملك مهلة يومين للتفكير في ما يجب أن يفعله، وقال للشعب: قد يكون جاهلاً. وليس في قوانين الحكم أن يُعاقَب إنسان جاهل بسبب جهله. فلنتأكّد أوّلاً من خيره وشرّه، ونحكم عليه.

ولمّا تفرّق الجمع الغاضب، استدعى الملك أحد جنوده إليه، وأشار عليه بأن يتنكّر في ثياب شحّاذ، ويدور على المنازل سائلاً الرحمة. وأوصاه بأن لا يخبر أحداً بما أمره به… فأطاع الجنديّ.

وفي الصباح كان الشحّاذ يطرق الأبواب، فينفر الناس منه، لثيابه القذرة، ومظهره القبيح، والعصا التي يحملها، والعرَج الذي يشكو  منه… فلم يظفر منهم برغيف واحد، حتّى وصل إلى منزل العابد للشمس، وكان هذا يعمل في حديقته، فخفّ إليه وأعانه على السير. وخاطبه برفق: ماذا جرى لك يا أخي؟ لقد تجرّحت قدماك من الحجارة والحصى، وتمزّق صنْدلك القديم… هل تريد شيئاً فأساعدك؟

أجاب الشحّاذ: لقد انتصف النهار ولم أذق طعم الخبز، وكان الجميع يقفلون الأبواب في وجهي، متضايقين منّي. وكان بعضهم يقول لي: لاَ تزعجني! أولادي معي في الفراش، ولا أقدر أن أقوم فأعطيك.

ارتاح المتسوّل من عناء الكلام، وأخذ نفساً عميقاً، ثمّ أردف: أنا فقير وأعرج كما تراني، فأرجو أن تتكرّم عليّ بلقمة خبز من عندك.

دخل عابد الشمس إلى منزله، وجاء برغيف خبز وسمكة وبيضة، وهو مبتسم وراض، ثمّ قال: أما سمعتَ بالقول “من منكم إذا سُئل عن خبز أعطى حجراً، أو سمكة فأعطى حيّة، أو بيضة فأعطى عقرباً؟”

في اليوم التالي، عفا الملك عن عابد الشمس، وقال عنه إنّه خير المؤمنين.

***

نور المعرفة

بعد مدّة من رحيل الفيلسوف عن الدنيا الفانية، زعم واحد من تلاميذه أنّه رأى ضوءاً ينبعث من وراء نافذة منزله… لكنّ تلميذاً واقعيّاً من أترابه رفض تصديقه، وقال: إنّ المنزل مُقفل منذ أغمض معلّمنا عينيه إغماضة أخيرة، فكيف يأتي الضوء من وراء النافذة؟!

وأصرّ التلميذ الآخر على فكرته، وطلب من رفاقه أن يأتوا معه في الليل، فتوجّهوا كلّهم إلى مكان لا يبعد كثيراً عن منزل الفيلسوف. وما هي إلاّ برهة، حتّى لمع ضوء عظيم في داخل البيت، وظهر لهم من خلف النافذة، فدبّ الرعب في نفوسهم. وكان بينهم واحد جريء، فقال: والله إنّي ذاهب لأكتشف بنفسي ما هو مصدر الضوء. فمضى وتبعوه وهم حذرون، فاقتحم المنزل، ونظر في داخله، فوجد كتاباً قد نسي الفيلسوف أن يغلقه، فسطع من بين دفّتيه نور يُبهر العيون.

***

*مشروع الأديب الدكتور جميل الدويهي Genuine PhD “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد