مساكب الفضائل في براعم خريف أمين زيدان

بقلم: د. ناتالي الخوري غريب

براعمُ خريف، هي أزاهير معرفة وإيمان، تفتّحت في ضواحي محجّة الحكمة، تعطّرت ببخور التسليم، ومن غرس الألوهة نبتت، وفي مساكب الفضائل سكنت وكبرت. والغارس، هو الأمين، هذا الوكيل على ماء السماء التي منها استقى، فسقى بذور إيمانه لتشعّ جنيَ عمرٍ في مثلّث الله-الإنسان-الوجود. كتاب يضمّ ذخائر حكم ومنائر تجنّبك الوقوعَ في فخّ العدم، على أن تقرأ ببصرك، وتستشعر ببصيرتك، وتتأمّل باختبارك الباطني، ما يقي السقطات في هوّة الخيبات.

براعم خريف، فيضُ من جادت قريحته ببصائر العقل، وقد صُبّت في بوح تأنّقَّ، فتألّقَ الفكر على أنغامه، ترجمه وحيٌ من السماء، إلى حُدّاث الأناجيل آلف، لنحّات جمال إلى روّاد المتاحف في مرابع القداسة آنس. براعم خريف أقرب إلى نقشٍ أيقونات رُصّعت هالاتها بذهب الايمان الخالص ولوّنت قسماتُها بلمسات المتبرّك الخاشع.

مغزل الجمال

أمين زيدان، صعوبة الصعوبة، لا يُنال بسهل الفهم أو فتح المعاجم، او استحضار ما نام من التراث في كنوز التاريخ، بل يُفهم بفكفكة قطبٍ مطعّمة بجواهر خرُّد وخُلّد، اشتغلها للغة من أجل تدليلها وتغنيجها، إذ يحيك لها في محترفات الجمال على نولة مغزله، وشاحًا أشغولته تآخ بين عقل وإيمان، وسحر البيان الآتي من أبجديّة اللاهوت.

هو الأمين الذي نذر نفسه للغة، قدّم إليها حبّه وعمره، تدريسًا وتدريبًا وغوصًا وترجمة وشعرًا ونثرًا، فقدّمت إليه طاعتها، ووهبته أحرفها بنيّات وأخيّات أبكارًا، عرف كيف يصونهنّ مؤنّثات سالمات من ضروب العقم التكرار، ويحفظهنّ عبر انتقاء لوصفهنّ بما يتناسب ومقامهن تقديمًا وتأخيرًا، في جديد حلي وتوشيات، فجاءت عباراته صلوات على إيقاع كرّ سبحات وتسبيحات، تمجّد الله كلّ حين، وتكشف القناع عن وجه إنسان تزّيف فزيّف كل ما حوله ..علّه يعود إلى سابق عهد له مع الله، صورةً تعكس من على مثاله صُوِّر…

ما الجديد في حكم الأمين، ونحن نعلم، كما قال الجاحظ:المعاني مطروحة على الطرقات يعرفها العربي والأعجمي، والحضري والبدوي، والقروي والمدني وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير… هي الصنعة الأدبية، واحتراف اللعبة اللغوية، ما جعل الأمينَ رائد مدرسة أدبيّة في الكتابة، صوغًا ونحتًا عمارات من مجيدات الكلم … وبما أنّ الحكمةَ هي أعلى مراتبُ العقل، عرف كيف يشيّد لها إمارة بنيانُها من بيان عقل وقلب وإيمان، ومشيّدها، سيّدها، شاعر، والشاعر لا تُعصى أوامره.

يتفرّد الأديب أمين زيدان بأسلوب خاص في الكتابة، إن من حيث انتقاء الكلمات وتركيب جمله، وأسلوب التقديم والتأخير الذي يعتمده، بطريقة متفرّدة، لم يقع عليه من قبله او بعده اديب، وأن كنا نحاول تقليدَه، لكننا نبقى تلك النُسخة المزورة وشرفها أنها تحاول ان تحاكي الاصل: ففي التقديم والتاخير: كيف امحاء الزمن في الخاطر يكون، وكيف الذهولُ عن الوجود يصير؟. وصيغ التنكير مع تقديم المنعوت على الى النعت: عديد وزنات-شفيف غيم-أزليّ موت-أبديّ حياة، شيّق موت. ويعمد التصغير، من أجل تغنيج وتدليل:ذريرات-فويق-وُريدة-زهيرة-نُسيمة-بُعيد-ذريّات.. وجمع المؤنث السالم: نيّرات، قسمات، عاتيات الريح-قمّات السماء-أخيّات-بنيّات..

الحكمة والبعد الأخلاقي

وبذلك، تندرج براعمه ضمن فئتين: الحكمة والتأمّل الفلسفي.

التأمل الفلسفي تناول الالهيات في البعد اللاهوتي المسيحي. في حين أنّ المعرفيات، انارت على البصيرة والوجود والزمن. أما الحكمة فقد تناولت البعد الأخلاقي العملي بإضاءات روحية.

في الإلهيات، وهي مقولات من باب التأمّل اللاهوتي، تناول الأديب أكثر من موضوع، مثلا، سرّ القربان، بكونه الخمير الذي يقوم بفعله السحري في تحويل الإنسان من إنسانيته إلى الألوهية الكامنةِ فيه.

كذلك، في الباب عينه، كان تأملّ الشاعر في تجليّات الألوهة الكامنة في كلّ جمال، في إشراقة شمس وبدء نهار، او نجوم ليل، وفي الطبيعة، فهي إمّا ظاهرة، أو متوارية في طيّات كيان الإنسان، إلا أنّ رؤيتها، تحتّم المصالحة مع الذات، لأنّ الإنسان في تكوينه الماهوي من طينة إلهية، لكن مع المصالحة وإعمال العقل، تكون إضاءة الطريق في اكتشاف الذات، مهما كانت المسافات بين آدم العتيق وادم الجديد، إلا أنّ ثمّة مهمة على عاتق آدم الجديد، فيتجوهر بما هو من صميم كيانه كالماسة.

ففي هذا الباب، أراد امين زيدان أن يجعل الإنسان عقلًا يشدّ به السعي الى المعرفة المتولّدة والمولّدة فيه كلَّ كشف وإدراك وموضعَ قدم في كل سماء. إذ يقول:دور العقل: ينير الدرب إلى السماء أو ينير سلالم الجحيم،21. ثمّ جعله يستنير باختباره الإيماني الباطن مدارك المعارف العقلية القاصرة فيعلن ايمانه بالسماء، ويجد الطريق إليها بتلازمها مع المحبّةكما قوله: أيُّهما مَوْئل الحقيقة؟عقل نيّر أم قلب محبّ؟ وكُشف لي: مُوئلها عبقرية المحبة،24. وبما أنّه يؤمن بدور العقل :جعل الحواس فاقدة القيمة ان لم تمر بالعقل، 25.

لقد بنى الأمين حكمه على ثقافة المساءلة والتيقّظ ومحاسبة النفس والوقوف في حضرة الضمير، عبر أسلوب استفهام في معظمه، يحرّك لدى القارئ حسّ المعرفة وأبعاد الموقف المأزوم، ومن ثمّ يصوغ أجوبته من أجل بناء مصالحة الإنسان مع ربّه، والوثوق بعظيم رحمته، حبّا وليس خوفًا. محاولا أن يوقظ فيه تلك الرواسب النيّرة، فتكون قراءةُ شذراته، مشاركةً في قيم الروح. وكلّ ذلك، من دون أن تجد تعاليًا أو فوقيّة من صاحب خبرة، بل تجدها حوارًا من أخ يدلي بنصائحه إلى أخيّ له في الإنسانية، ليرسم معه طريق خلاص يسلكانها معًا.

كذلك، يتبصّر الأديب تبصّر الحكيم، الفرق بين الناس في العالمين، الأرضي، وما بعد الموت، مع يقينه بتعانق الأيدي، وإيمانٍ بما بعد الموت، بانعدام الجوع والعطش، لأّن الاله السرمدي الخالد، لم يجعلهم يحتاجون إلى ذلك. رافعًا الانسان إلى مرتبة أنيس لله:ضاق الله بوحدته في سمائه فكون الانسان محاورًا يأنس إليه الله مواليًا أم معاديًا. ص وهذا الأنيس لا طريق له إلى قلب الله إلا بالحبّ، 22. فما حاجتك بعد إلى سلّم يعقوب او إلى مصعد تيريز؟، 22.

مساكب الفضائل

في الباب الثاني، مساكب الفضائل، من القضايا التي يتناولها الأديب قضّية الخطأ والصواب وفي أنّ تحديدهما يكمنان في مقاربة سليم العقول لجواهر ما يُعرضُ عليها-28. متنبّهًا ومنبّهًا إلى ضرورة البعد عن الغضب والعنصرية والانانية، فالآخر حتميّة لا اكتمالَ لحياة من دونه، ولا سعادة على حسابه، ففي محبّته محبّة الله-37-متوقّفًا أيضًا عند دور المربّي، بحيث لا يمكن أن نفصل أمين زيدان الشاعر والأديب والمربي: حذارِك صبَ النفوس في قوالب نفسك صدور المعلمين هي الآمنة الجسور، داعيًا الى خلع اقنعة النفوس لان الروحَ جوهر ما غرس الرب في الانفس من ذريرات روحه.

أمّا الباب الثالث من براعمه وقد عنونها: أزاهر المعرفة، يشدّد فيه على أهمية البصيرة في اختراق الوجدان حيًّا كان ام ميتًا، وفي تجديد فصول أعوام الانسان غلالة ضياء زوّادة خلود. إذ تكمن أهمية البصيرة في أن أرسل الله الشاعر سقّاءً يدور على الحواسّ. كذلك يشدّد الأمين على أنّ اطراد الحياة يتم باحترام الجذور، ف الاجداد معابر الوجود الى مستقر الخلود.

وفي الختام، لا بدّ لنا من أن نذكر دورَه النهضوي التجديدي في لبنان، من خلال كتاباته وترجماته…لأنّ: معراج الثقافة يتدرّج على مناكب المبدعين، واسمح لي ايها الاديب الامين أن أجيب عن سؤال لك طرحته في معرض كتابك بسؤال آخر: أيموت من يحيا في خالد أثر؟ أيموتُ من يقتات من زوّادة خلود؟!
أيموت من يشفي اللغةَ من عقمها فيولّدَ من خريفها براعم؟!.. فهَلِّل خريفًا منك الكلمات في سيرورة توالد وصيرورة، لا شابت ولا شاخت، هلّل خريفًا ينثر ربيعًا بنضج قول لك لعديد قومٍ يبوح على الملأ ويفوح. هلّل خريفًا، واملأ جرارًا، بعطر حكمتك نزهو ونغتسل… هلّلي براعم تتفتّق على أبواب من ضلّ وأضلّ، ليستدلّ ويدلّ غيره إلى مراتع الألوهة..

*********

(*) كلمة الدكتورة ناتالي الخوري غريب في ندوة حول كتاب براعم خريف، للأديب أمين زيدان، الصادر عن دار سائر المشرق، الحركة الثقافيّة-إنطلياس. والكتاب مجموعة من الخواطر- الومضات، بوّبها المؤلف في ثلاثة فصول: الاوّل بعنوان غرس الألوهة، الثاني مساكب الفضائل، الثالث أزاهر المعرفة، وهي خواطر عجنت باللاهوت والفكر، بأسلوب أدبي متفرّد تميّز به أمين زيدان. وقد صُدِّر الكتاب بمقدّمة لسعيد عقل قدّم بها الأديب عام 1966.

اترك رد