نصوص مختارة من مجموعة “رؤى من أجل مدينة بعيدة” للدكتور جميل الدويهي

 

“رؤى من أجل مدينة بعيدة” هو الفكريّ الثالث عشر للدكتور جميل الدويهي

 

الشقيقان الأميران

كان النهار والليل ولدَين لملك عظيم، واسع النفوذ، يحكم مملكته بالعدل والحقّ. ولمّا بلغ من العمر عتيّاً، استدعى ابنيه، وقال لهما: لقد أصبحتُ شيخاً طاعناً في السنّ، وارتأيتُ أن أسلّم الحكم إليكما، ولكنْ أوصيكما باثنين: السلام والعدالة.

كانت السنوات الأولى من حكم الشقيقين الأميرين كثيرة الخير، فارتفع البنيان، وازدهرت الحضارة، وعاش الناس في رغد وأمان.

لكنّ الحال تغيّرت فجأة، إذ نشبت الحرب بينهما، وتدخّل فيها الملائكة والشياطين، وتضاربوا بقمم الجبال، والصواعق، والبراكين، فتزعزعت أركان المملكة، وكادت تنهار على من فيها. فغضب الوالد وطلب الأميرين إليه، فحضرا. وبعد أن وبّخهما، طلب منهما أن يتوقّفا عن القتال، وقال: إنّ وزيرِي قد كتب وثيقة شرف بينكما، توقّعان عليها، وتلتزمان بها حرفيّاً، ولا تخالفان ما جاء فيها من شروط.

فانصاعا لرغبته ووقّعا على الوثيقة، ومضى كلّ منهما في سبيله.

مضت ألف عام منذ تلك الواقعة، وما زال النهار يقول: كم كنت حكيماً يا والدي عندما وضعتَ حدّاً لتلك الحرب القذرة، فلو انتصرتُ على أخي لأهنته، ولو انتصر عليّ لأهانني!

وما فتئ الليل يقول: كم كنتَ جاهلاً ومتهوّراً يا أبي يوم ألزمتَنا بالتوقّف عن القتال، فإنّ عندي رغبةً أبديّة في أن أمرّغ أنف ذلك العدوّ الزنديق بالوحول!

***

المزمار

قال لي واحد من أصحابي: أنت وضعتَ واحدة من أعظم النظريّات عن توازن الجسد والروح.

قلت: ما هي؟

أجاب: هي تلك التي تروي كيف أنّ صاحب المزمار أراد أن يبيع مزماره من غير الموسيقى التي تخرج منه، فأعطاه التاجر ديناراً واحداً ثمنَه. وعندما أراد أن يبيع النغم وحده من غير المزمار، عرض عليه التاجر ديناراً أيضاً. وحين قرّر أن يبيع القصبة والنغم معاً، نقدَه مئتي دينار.

فرحتُ لأنّ صاحبي قد فهم بعمق ما عنيتُه في تلك الحكاية الرمزيّة… وبينما نحن نتحدّث مررنا بالقرب من دكّان التاجر، فإذا  على الرصيف المزمار نفسه مرميّ في وحول الشارع، فسألنا التاجر عنه، فقال: لم يعد ينفعني في شيء، فقد مات العازف الذي كان ينفخ فيه الحياة.

***

“النور”

تجادلَ عود الثقاب والشمعة، فقال الأوّل: أنا صنعتُ الضوء الذي به تتفاخرين أيّتها المرأة المديدة قامة، والقليلة عطاء.

غضبت الشمعة وصاحت به: يا لك من مخادع! فما أنت سوى عود حقير، يعتمر قبّعة حمراء مثل قبّعات المهرّجين… أمّا الضوء الذي فيّ، فقد اشتعل من الروح التوّاقة إلى الخير. ولو كنتَ صادقاً فعلاً في ما تزعمه، لكنت ذهبت الآن وأعطيت الضوء إلى حجر.

وبينما كانا يتصايحان، انتفض النور وتراقص في الهواء بعصبيّة، وخاطبهما بلهجة حادّة: يا لكما من ثرثارَين متعجرفين! هل تسكتان دقيقة لكي أستطيع أن أتكلّم؟

***

الدفّ

بينما كان الموسيقيّون يرافقون بعزفهم راقصة جميلة، وهي تنتقل بقدمين نحيفتين على المسرح، في إبداع منسجم يجمع بين النغم والحركة الموزونة المتناسقة، كان لضارب الدفّ رأي آخر، فقد كان يقوم بين الفينة والأخرى من مكانه، ويقترب من الراقصة، فيركع أمامها، وهو ينقر على دفّه، ويُظهر النشوة في الطرب، فيما هي تتضايق منه، لأنّه يحدّ من حرّيّتها وقدرتها على التحرّك بشكل سليم. ومثلَها امتعض الموسيقيّون الآخرون الذين كانوا ينظرون إليه باستهجان، وهو أقلّ منهم رتبة، فجميعهم درسوا في الجامعات، وتخرّجوا بشهادات عالية في العزف، وقراءة النوتة، أمّا هو فقد جاؤوا به من إحدى الحانات، ولم يدرس الموسيقى في أيّ معهد.

توقّف العازفون عن العزف، وكان قائدهم حائراً، ولا يجد وسيلة لإقناع الرجل الفوضويّ الأهوج، بأنّ عليه أن يظلّ على كرسيّه، كما يفعل الجميع، ويدع للراقصة مكاناً واسعاً لكي تتنقّل ولا ترتبك.

هذا الضارب على الدفّ، يشبه الكثيرين من البشر الذين يعتقدون أنّ الصخب وسيلة للظهور المميّز. فقرْع الدفّ ليس أرقّ من حنين الكمان، أو نغم البيانو، بيد أنّ صاحبه يندفع لإثبات نفسه في مجتمع المساواة التي يمثّلها موسيقيّون ملتزمون، متعادلون في الأداء كأسنان المشط، ومن ضمن جوقة واحدة لا نشاز فيها.

وإنّ توقُّفَ الموسيقى، هو نتيجة للصخب والفوضى والاضطراب التي يثيرها هؤلاء المطبّلون والضاربون على آلات فارغة إلاّ من الفراغ نفسه، والهواء الذي لا قيمة له. فيتعطّل المجتمع بسبب فئة جاهلة لدورها الحقيقيّ والأصيل.

ويمكن اعتبار ضارب الدفّ واحداً من ثلاثة:

إمّا هو جاهل لطريقة التصرّف بموجب القوانين والأعراف. وإمّا هو همجيّ، يؤدّي وظيفته من غير تفكير، واعتبار لأصول التعامل الصحيح مع الجماعة. وإمّا هو شرّير، يندفع إلى المخالفة بنوايا سيّئة، وهدفه تهديم العمل الإيجابيّ الناجح. وفي الثلاثة هو خاطئ، وينبغي أن يُعاقب، بأن يُطرَد من الفرقة الموسيقيّة، ولا يعود إليها أبداً إلاّ بعد أن يلتزم بالنظام. فإنّ سلوكه السلبيّ لم يقتصر فقط على عرقلة الموسيقى التي كانت تجري في سياق طيّب وبديع، بل تعدّى ذلك إلى قمع الحرّيّة التي ترمز إليها الراقصة المبدعة، فضاقت المسافة عليها، وانزعجت… فالحرّيّة والإبداع صنوان متلازمان، فإذا سقط أحدهما سقط الآخر. وكم من الناس لا يفهمون من الحياة، سوى أن يقتلوا الحرّيّة بحرّيّتهم الهوجاء لأنّهم يفتقرون إلى المبادئ النبيلة التي ترتفع بالوجود، وترفع أبناءه الخيّرين!

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد