مسافات: نساء في معتركات الحياة (2)

 

 

منيرة مصباح

 

 

في الجزء الأول من نساء في معتركات الحياة تناولت نساء كثيرات من انحاء العالم استطعن ان يساهمن في كافة المجالات سياسية او علمية او فكرية او أدبية او فنية وكانت منهن الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التي تركت لنا قصائدها في العديد من الدواوين بعد ان عانت كثيرا من القمع الأسري والمجتمعي، لكن كل ذلك لم يثنيها عن متابعة مشروعها الشعري الذي استمرت في كتابته الى النهاية.

وقد مهّدت فدوى طوقان الطريق امام حداثة عاطفية وأعادت تصحيح الموقف الاجتماعي المتخلف من قضايا الفن والحب والحرية عند المرأة خاصة في خمسينيات القرن الماضي حيث لم يكن من السهل على شاعرة محاطة بكل هذه القيود ان تقول هذا في احدى قصائدها:

أعطنا حبا، فبالحب كنوز الخير فينا تتفجر وأغانينا ستخضر على الحب وتزهر

وستنهل عطاء وثراء وخصوبة.

أعطنا حبا، فنبني العالم المنهار فينا من جديد

ونعيد فرحة الخصب لدنيانا الجديب ة. وتقول في قصيدة الافضال:

الى أين أهرب منك وتهرب مني؟ الى أين امضي وتمضي؟

ونحن نعيش بسجن من العشق، سجن بنيناه نحن اختيارا

ورحنا يدا بيد نرسّخ في الارض أركانه ونعلي ونرفع جدرانه.

 

 

وفي قصيدة لن ابكي:

على أبواب يافا يا أحبائي وفي فوضى حطام الدور، بين الردم والشوك

وقفت وقلت للعينين: يا عينين قفا نبك على أطلال من رحلوا وفاتوها

تنادي من بناها الدار وتنعي من بناها الدار، وان القلب منسحق وقال القلب:

ما فعلت بك الايام يا دار؟ وأين القانطون هنا؟ وهل جاءتك بعد النأي، هل جاءتك أخبار؟

هنا كانوا، هنا حلموا، هنا رسموا مشاريع الغد الآتي،

فأين الحلم والآتي، واين هنّ؟ واين هم؟

 

* سحر خليفة

تمتلك الروائية الفلسطينية سحر خليفة تجربة ابداعية متميزة في الرواية العربية.

فروايتها الصبار ترجمت الى 5 لغات عالمية، ومع ذلك هي لم تسلم من حمل معاناتها كامرأة. وهي تحمل تجربة اجتماعية قاسية دفعتها الى ان تقدم في حياتها أطروحة عن الادب النسائي في احدى الجامعات الامريكية.

تزوجت الكاتبة سحر مبكرا زواجا تقليديا في مدينة نابلس، مسقط رأسها، وهي كما تقول قد وضعت كافة ملامح زواجها في روايتها التي تحمل عنوان “امرأة غير واقعية”.

حيث تقول:

“لقد كان زواجي يعارض تطلعاتي الثقافية، ورغبتي في التعبير عن نفسي بالفن. لقد كان الرسم في البداية محاولة للهروب من زواجي الفاشل الذي انجبت منه ابنتي، لكن الرسم لم يكفني لأعبّر عما اريد، لذلك انصرفت بادئ الامر للمطالعة حيث كنت اقرأ بنهم كبير.”

هكذا بدأت سحر خليفة بالتحرر، تحررها اخذ مجرى الاطلاع والمطالعة حتى انها كانت تقرأ بنهم شديد لاكتشاف عالم الادب وبالتالي العالم التي حرمت منه عالم الحرية. لقد قرأت سحر في بداياتها كل حروف مكتبة نابلس طوال 12 سنة وانصرفت الى العناية باسرتها.

بعد ذلك عانت سحر خليفة الكثير من القمع الادبي من قبل زوجها الذي منعها من نشر قصائدها الأولى التي كتبتها بعد حرب حزيران 67، وكانت تنشر دون معرفة زوجها لأنه كان يمزق كل ورقة تحوي كتاباتها الشخصية حين تقع عينه عليها.

 

لكن هذا لم يثنها عن متابعة الكتابة والتي كانت وسيلتها الوحيدة للاحساس بالحرية، فرغم هذه المعاناة الا انها كتبت رواية “لم نعد جواري لكم” التي صدرت في القاهرة وحولت الى مسلسل اذاعي وتلفزيوني. وتحمل هذه الرواية الكثير من تجربتها الشخصية ضمن زواج فشل في الاستمرار فيما بعد.

بعد ذلك كتبت سحر خليفة رواية الصبّار، التي تتحدث فيها عن حياة عائلة فلسطينية تركت الجسر بعد الهزيمة مباشرة. وقد صدرت هذه الرواية بعد طلاقها من زوجها.

ثم نشرت بعدها “عباد الشمس” التي ترجمت الى ست لغات من بينها الروسية.

اما في روايتها “مذكرات امرأة غير واقعية” فهي تطرح باسهاب معاناة المرأة العربية في أسرها النسائي. وفي هذا الصدد فهي ترى ان ضياع الوطن لا يلغي أزمة المرأة العربية، فعفاف في رواية امرأة غير واقعية هي النموذج المستلب الذي يعاني حالة التناقض بين وهم التحرر على المستوى النظري والمعرفي وبين احباط الواقع الاجتماعي. هنا أتساءل:

لماذا كتبت سحر خليفة عن المرأة؟ وغاصت في عالمها؟ ولم تبق فقط في إطار الكتابة عن الثورة والوطن؟  وهي تعلم بان كل الذرائع صالحة للتضييق على حرية التعبير من خلال الخطاب الذي يدعي الدفاع عن القيم، وهو أسهل تلك الذرائع بسبب اعتماده على اختزال حقائق أكثر تعقيدا وتشعبا مما يتصوره او يدعيه احيانا اصحاب القرار!

ذلك يرجع كما تقول الى خصوصية هذه المعاناة والتي هي نفسها عاشتها في مجتمع شرقي. تروي سحر على لسان بطلتها عفاف في مذكرات امرأة غير واقعية:

“اكتشفوا رسالة بين يدي، رسالة غرام، اعتبروها وقاحة، خلال شهرين كانت الدنيا قد انقلبت عليها، حبست في الدار قدمت امتحان التوجيهي كدراسة خاصة، بالكاد نجحت، لم يبقى لدي اي مبرر لرفض الزواج من رجل يملك مال قارون، تزوجت وتعذبت، حملت واجهضت واصبحت عقيما”

 

لقد اتهمت سحر خليفة من قبل البعض بالتراجع، قالوا انها كانت تكتب عن الثورة ثم تحولت الى الكتابة عن النساء.

لكنها ترد على ذلك الاتهام بقولها:

“ان الثورة تبدأ من العام وهي عمل عظيم له روافده، فالمرأة الفلسطينية عاشت مجدها الثوري بالانتفاضة، وكا ن هذا وقتها للمطالبة بحقوقها ومشاركتها في القرار السياسي من اجل الوصول الى المساواة “.

ان الخلط بين النتاج المبتذل الذي يقوم على الرواج لاسباب تسويقية بحتة، والابداع الصرف الذي يوغل في جراح الذات والوطن ويعريهما بحثا عن المجرد المطلق، فرق شاسع لا يمكن له ان يغيب عن ذواتنا، والآخر هو ابداع سحر خليفة بالطبع. كما ان الخلط بين الكتابة الاستهلاكية القائمة على استغلال قهر الانسان وحرمانه وبين الاثر الفني الذي هو نوع من التحليق في فضاءات هذا القهر والحرمان، لا يمكن ان يحصل في عالم مازال متمسكا بمبادئ الحرية والارادة كما في عالم سحر خليفة. تلك الروائية التي كتبت عن احوال المجتمع الفلسطيني في زمن الانتفاضة الاولى في رواية “باب الساحة” التي جاء فيها:

“ان زغاريد الانتفاضة تخفي وراءها امرأة ذبيح، هي رمز لفلسطين”.

ولم يكن في الرواية التي تستنكر تهميش البشر، الا ان تعلن الكاتبة ايمانها بان الموقف من تحرر المرأة هو موقف من الوطن واحتمال تحرره.

لقد كانت المراة في كتابات سحر خليفة موضوعا ثنائي الدلالة.

فهي رمز لفلسطين … وهي في نفس اللحظة كائن انساني … لا يليق به التعسف والقيود… كأنها أرادت ان تقول ان اضطهاد المرأة هو تسفيه للوطن المفقود والأحلام المتجهة اليه.

ودفعت هذه الدلالة المزدوجة بالكاتبة الى رواية قلقة ترمي على المقاتل الفلسطيني الاحترام وتقدر فيه الشجاعة والتضحية …. وفي نفس الوقت تتهم التقليل من شأن المرأة وقيمتها.

لذلك نرى ان الفدائي الذي بين السطور يظهر مضيئا في رواية الصبّار، وفي رواية عبّاد الشمس، تظهر المرأة في مكان غائم، مثقل بالصمت والحرمان.

لكن الكاتبة الثائرة ترفع راية المرأة عاليا بعيدا عن ضجيج الخطاب الوطني، وذلك في رواية “يوميات امرأة غير واقعية”، حيث المرأة المتمردة تتكلم طليقة عن أحلامها ورغباتها المقموعة وأقفاصها المتكاثرة.

تقول عفاف في “امرأة غير واقعية”:

“لم أكن أحبه هذا حكم قاطع، بعد سنة او سنتين من الزواج كان يغازل النسوة امامي ويحاول إغواءهن على مسمع مني وكان في مواقف كهذه يهمل وجودي اهمالا تاما كما لو كنت غير موجودة على الاطلاق، وحين يئست من امكانية تغيير طباعه، ما عدت اقول شيئا لكن خيالاتي باتت تقول الكثير”.

 

أما في روايتها الميراث فان الكاتبة تطلق صرخة الألم عاليا باتجاه الوطن والمرأة المغبون، بعد ان رحلت بقايا التفاؤل مع جموع الاحلام الراحلة، حيث ترى سحر خليفة ان ما ظفر به الفلسطيني بعد عقود من المعاناة والتضحية قريب من الهشيم ومن حصاد الشوك.

وعنوان الرواية يفصح عن انها رواية مزروعة بالألم، وكل طرف يبحث عن نصيبه في الحيلة والخداع، كما لو ان الوطن الموعود بيتا قوضته العاصفة.

لقد كان في المقاتل الفلسطيني زمن الصبار بعض من الالق وبعض من الغبار…

اما في زمن الميراث فقد انحسر الضوء عند سحر خليفة وانتشر الغبار حاجبا نور الشمس.

في الميراث تجعل سحر خليفة المصائر تختلط، وتنتهي جميعا الى وطن دون عدل.

والى امراة منكودة الحظ، اعطت ما استطاعت وحصدت الهشيم.

_ فالغريبة “هدى” التي اضاعت هويتها في المنفى وعادت الى الوطن، تقبض اصابعها على الريح وتعود مجددا الى المنفى.

_ والفلسطينية “فيوليت” التي صقلتها ثقافة جميلة وتمسكت بالأرض الى يوم “الميراث” آثرت السلامة وتهيأت للرحيل.

_ والمعلمة “نهلة” التي افنت شبابها في دعم الوطن واهله وتعليم اطفاله، تنتهي مصلوبة في اقبية رطبة.

هذه هي الاديبة الروائية سحر خليفة التي لم تنس الوطن كما اتهمت لتنشغل بالهم النسائي فقط، انما جعلت الاثنين همها الدائم في كتاباتها الابداعية.

وفي عصرنا الحالي هناك الكثير من الكاتبات العربيات والروائيات والشاعرات المنتشرات على مدى العالم العربي والمهاجرات في وسع الكرة الأرضية، اللواتي استطعن ان يخترقنا الهواء ليتنشقن عبير الحرية من خلال كتاباتهن كما ان منهن صحفيات ومالكات مجلات ومواقع ثقافية لا مجال لذكرهن الآن وقد تناولت بعض اعمالهن في كتابات سابقة وسوف اتناول كتابات جديدة لهن في المستقبل.

اترك رد