إيمان ريدان
لا تنقص دلال قنديل الجرأة ولا حرفيّة القصّ والخيال لتُظهٍّر شطوبَ مرآتها، كما نحن لا نفعل أو نعترف.
من الغلاف المعبّر تستطيع أن تتكهّن أنّ بطل الرّواية امرأة، وهي قد تتخطّى الجندر لتكون روحًا حرّة تكره القيود، وتتمرّد على واقعها، تتعلّم وتحلم، ولكنّ سلاسل الواقع الثّقيلة والجيوسياسيّة والأيديولوجيّات تُحكم الخناق عليها وتسقطها. وكان من الممكن ألّا تسقط لو أراد لها السّرد أن تفلت من جينات والدتها المرضيّة.
لا تحتاج الرّوائيّة إلى العودة إلى وثائق الحروب اللّبنانيّة (على أنواعها الدّاخليّة منها والحدوديّة ومنعطفاتها ومؤثّراتها) لتخطّ مفاصل سرد ذلك التّاريخ القاسي، وإنْ تزيّا في كلّ منعطف بعباءة، في الشّكل، متباينة.
هي ابنة الحرب، وكذلك بطلتُها مريم الّتي تراقب من بعيد، وتمرّ الأحداث من أمام عتبتها، ولكنّها ليست على الحياد، إنّها الذّاتُ الفاعلة في السّرد والشّخصيّة المركزيّة المتغيّرة من فتاة أميّة إلى قدوة لبنات مجتمعها، تفرض مكانتها في بيئتها الجنوبيّة.
ماذا تريد هذه الرّواية، الّتي إطارُها الحرب، ولكنّها أيضا تعاين المجتمع وتشكّلاته، أن تقول:
_إحدى الرّسائل ، كما قرأتُها، الحبّ هو فعلًا صمغ هذا العالم وسحره في أيّ مكان وفي كلّ زمان…عندما مسّ قلبَ مريم طوّرها وأنار عقلها ووعيها، وحين استولى على قلب عامر المتعلّم جعله أكثر رقة وعفويّة، ولم يكن قلب الشّيخ خضر المنيع محصّنًا تمامًا أمام حبّ مريم، فأعاده إنسانًا منفتحًا على المشاعر الإنسانيّة، يحبّ الحياة ولا يكتم حبّه لامرأة.
_ وبعد عقود من الحروب في لبنان وعليه، تظهر إدانة واضحة لدهاليز السّياسة وغطاء التّنظيمات المحليّة، وبعضها يتزيّا بلباس الدّين أو الأيديولوجيا، وهما غير متضاربَين في الحسابات والمصالح بل متوافقان، وعليه كان نقد لدور التّنظيم، وإنْ بقي من دون تسمية، كما لدور الشّيوعيّ الّذي يغضّ الطّرف حتّى التّواطؤ حين تستدعي المصالح، ولتجاوزات الفدائيّين،( وأحيانا تدعوهم باللّاجئين)، كما لتوارث البيكيّة والإقطاعيّة،
وللدّولة أيضًا من خلال سلطة المختار ومطامعه وطموحاته.
الكلّ مشارك في الفساد.. والنّاس وقود جهلهِم وانصياعهم.
في السّرد والأسلوب:
إنّ الوصف الداخليّ، الّذي افتتح السّتارة، ولكنّه لم يكن مفتتِحًا كرونولوجيّة القصّ، رافق الشّخصيّة الرّئيسيّة مريم بشكل خاصّ، وأحيانًا بعض الشّخصيّات.
وهنا لا بدّ من رسم مزدوجَين حين التّساؤل عن مطابقة مواصفات شخصيّة مريم مثلًا مع سلوكها، كما في استعجال بعض النّهايات للشّخصيّات، وهو ما كان يشدّد عليه النّاقد الأدبيّ المعروف د.جورج جحا من ضرورة الانتقال المتدرّج في تطوّر الشّخصيّات ومصائرها.
فهل تقصّدت الكاتبة أن تُبرز تمايز المرأة ووعيها المجتمعيّ حتّى ولو كانت أميّة، وتهميش دور العلم في تنمية الوعي الذّاتيّ ؟
كيف يمكن لمريم أن تكون بتلك الجرأة والاستقلاليّة، حتّى بعد تعلّمها القراءة، فهل في خلال سنة تستطيع أن تتكلّم عن كتاب سبينوزا الفلسفيّ مثلًا؟ أم هي خلفية الرّوائيّة الثّقافيّة الّتي استساغت إسقاط هذه الصّفات على بطلتها؟
لقد كان تمرّدها وجرأتها في التّحرّر من سجن اللّياقات وأدبيّات المجتمع المحافظ مؤشّرًا على شخصيّة قويّة وواثقة. وقد كانت الأكثر محوريّة وتأثيرًا وإليها تعود معظم خيوط السّرد..وهو ما قد يدفع إلى السّؤال أيضًا عن المبرّر الرّوائيّ لأن يتركها عامر بعد الحبّ الكبير الّذي غمرهما؟ أم أنّه حكم مطلق من الرّواية على الرّجل وأهوائه ونزواته الّتي تؤثّر على قراراته غير الثّابتة، من خلال عامر الذّي غالبًا ما يترك أناسه ومحبّيه (تركه زوجته لاحقّا).
يَظهر تركيب الفصول النّهائيّة وكأنّه استدراك، فما فات من التّفاصيل الأولى، ولم تتّسع له الرّواية، ذُكر في الفصول الأخيرة، وهي تقنية جيّدة قد تخفّف ربّما من صدمة القارىء ازاء غياب الأبطال الرّئيسيّين ومصائرهم البائسة، والتي لم تترفّق بهم الرواية، أو أنّ الخطاب الروائيّ الّذي انفلش على سنوات طويلة استدعى تلك النّهايات الحاسمة؟
ومع ذلك، فإنّ تلك الفصول تتيح التقاط الأنفاس وامتصاص قتامة المصائر الّتي تقصّدتها الرّواية، فنشعر معها وكأنّها اللّقطة الأخيرة، (زووم) نهائيّ لمصوّر انتهى لتوّه من حكاية “عين الجبل”، واضعًا الرّتوش على الصّورة الكاملة المنجزة بلغة تصويريّة متناسلة تتقن التّفاصيل، فتصلح لفيلم سينمائيّ.
ختامًا، قد نتعجّب أنّها الرّواية الأولى لغة وسردًا ورسائل ووصفًا عميقًا، ولكنّ المتابع لتجربة الكاتبة الأدبيّة، والتصاقها بقضايا المجتمع والسّياسة لن يتفاجأ بتمايز الرّواية وحبكتها المحكمة، والآفاق الّتي تقصّدت الوصول إليها.
يُتوقّع الكثير من كاتبتنا، علّها كلّما تمعّنت في مراياها تجد حكايتها الخاصّة، وهي حكاياتنا الصّامتة المفتقِدة صوتًا يجيد البوحَ، ويعالج الشّطوب كما تفعل دلال قنديل.
دلال ياغي، شطوب في المرآة ، (ط.١)، بغداد: دار الرافدين، 2023.