منيرة مصباح
منذ بدء الخليقة والمراة تلعب دورا كبيرا في تطور المجتمع وتقدمه. وهي بطبيعتها الفطرية التي وجدت عليها، تمتلك الكثير من الطاقات التي تستطيع من خلالها ان تبدع في كافة المجالات، إذا ما اتيحت لها الفرص للانطلاق والعطاء.
ورغم القيود التي أحاطت بالمرأة عبر العصور من اجل تحجيمها، ووضعها في قالب واحد صمم خصيصا للحد من انطلاقها وتفاعلها مع حركة الحياة، الا انها استطاعت ولو بنسب متفاوتة بين شعوب العالم، ان تخرج من الحصار لتعطي وتبدع وتقود في اتجاهات عديدة، علمية وادبية وفنية وسياسية واجتماعية … والامثلة على ذلك كثيرة.
*على الصعيد العلمي:
عالميا لا نستطيع ان ننسى العالمة البولونية ماري كوري التي تركت بلدها لظروف سياسية واجتماعية قاسية واقامت في باريس وعملت كباحثة في احدى المختبرات العلمية الكيميائية، واستطاعت بطاقاتها الفكرية العلمية ان تكتشف اليورانيوم…
كما ان المرأة في القرن الماضي خاضت وما زالت في ابحاث الفضاء وفي الابحاث الطبية كما انها اصبحت رائدة فضاء ووصلت بعلمها الى الكواكب واختراق الغلاف الجوي للأرض لاكتشاف ما يحيط بها من نجوم وشموس .وهناك الكثيرات اللواتي يعملن في الجامعات وفي مراكز البحث العلمي.
*على الصعيد السياسي:
لعبت المراة دورا مهما في العالم العربي وفي العالم اجمع.
فاذا نظرنا من نافذة التاريخ نرى العديد من النساء اللواتي استطعن ممارسة الحكم بجدارة وادارة شؤون الدولة بنجاح رغم نهايتهن المؤلمة احيانا..
*امثلة تاريخية:
شجرة الدر زوجة الملك الصالح….. زنوبيا ملكة تدمر.. كليوبرا التي حكمت مصر القديمة..
اما الان وفي هذا العصر فهناك العديد من الوزيرات والنائبات في الحكومات والبرلمانات العالمية والعربية.
رئيسة وزراء الهند سابقا انديرا غاندي ورئيسة وزراء سيلان بندرانايكا. رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر، هذا الى جانب العديدات من النائبات والوزيرات في البرلمانات العربية.
*الابداع الادبي
في الجانب الادبي فان العدد لا يحصى ….
حيث ان المراة العربية خاضت في بحر الادب واستطاعت ان تتجاوز صخب الامواج فيه… بالكلمة المبدعة والاحساس الصادق بالحياة والكون والواقع..
ونحن لا نستطيع ان ننسى في التاريخ العربي اشعار الخنساء وليلى الاخيلية وولادة بنت المستكفي، كما الناقدة والاديبة سكينة بنت الحسين وغيرهن العديدات.
*العصر الحديث
لكن اذا نظرنا الى التاريخ القريب وفي القرن الماضي فقط، وهذا ما سوف نتحدث عنه الان وبالتفصيل لنرى عبر التجارب المدونة لبعض النساء المبدعات، كيف استطعن ان يخرجن من عصور العبودية والقمع. انهن نساء عربيات خرجن بجرأة صارخة…
نساء استطعن ان ينطلقن من عصر الصمت الاخرس، ليقلن كل الحقائق… ليكشفن كم هي عميقة ومؤلمة تلك المعانات التي واجهتها المرأة المثقفة في مجتمعنا.
ففي عالم المرأة المسدل بستائره، المغلق تحت ثقل التقاليد والممنوعات خرجت منذ منتصف القرن الماضي اصوات جريئة مبدعة لتكتب، عبر القصيدة والرواية والقصة، بعض معاناة المرأة في مجتمع يكاد يحرمها ابسط حقوقها الإنسانية والاجتماعية.
*فهل تمكنت المرأة بفضل انطلاقها من تحقيق مكتسبات عامة للنساء؟
*أم بقيت مكتسباتها فردية وفي اطارها الشخصي؟
هذا التساؤل ربما بحاجة لبحث طويل، لكنني هنا سوف اخوض في تجربة بعضهن، وبالاحرى كاتبات عربيات استطعن ان يكسرن حاجز التقاليد الاجتماعية، ليس فقط عبر الرواية والقصة والشعر. انما ايضا عبر سيرتهن الذاتية التي تكشف عن الواقع دون خوف او وجل، حيث يقلن تجربتهن الذاتية النابعة من عمق المعاناة الشخصية.
*الشاعرة فدوى طوقان
في سيرتها الذاتية “رحلة جبلية.. رحلة صعبة” تتحدث فدوى طوقان المولودة سنة 1917 _ 2003 في نابلس، من أسرة عريقة، غنية ومحافظة جدا ووطنية في زمن شهد نهوض القومية العربية، عن القمع الاجتماعي الذي مورس عليها وهي طفلة، حيث كانت امها تزجرها وهي تلعب بالدمى، لذلك لم تكن ظروفها الحياتية التي عاشتها مع الاسرة لتلبي حاجاتها النفسية. وكانت دائما تتلهف للحصول على شيء غير الطعام، كالفستان الجميل او سوار من الذهب، لكن كل هذا لم يكن ليتحقق في اسرتها. وكانت تتمنى لو انها تنتمي لعائلة اقل غنى وأكثر حرية من عائلتها.
فدوى طوقان تكشف نظرة المجتمع لكل عفوية تعيشها الفتاة مبكرا، فتذكر كيف منعت من الدراسة عندما كانت في سن المراهقة، حيث اخرجت من المدرسة لاسباب اجتماعية قاسية، جعلتها تتلقى اول ضربة في حياتها عندما القى القدر في طريقها لزيارة خالتها بفتى صغير، رماها بوردة فل تعبيرا عن اعجابه بها وهو يكلمها، ولسوء حظها رآها شقيقها الاكبر الذي كان يراقب تحركاتها، فراى ما حدث واوقفها وانهال عليها ضربا، ومنعها من الذهاب الى المدرسة وفرض عليها الاقامة الجبرية في البيت حتى مماتها. ذلك البيت العتيق المحافظ الذي تصفه بانه حظيرة كبيرة تملأها الطيور الداجنة. تقول:
*”البيت أثري كبير من بيوت نابلس القديمة التي تذكرك بقصور الحريم والحرمان، والتي هندست بحيث تتلاءم وضرورات النظام الاجتماعي السائد…. في هذا البيت وبين جدرانه العالية التي تحجب كل العالم الخارجي عن جماعة الحريم الموؤودة فيه، انسحقت طفولتي وصباي وجزء غير قليل من شبابي”.
في هذا البيت بدأ يتكشف لفدوى طوقان الشعور الساحق بالظلم، وكان الانتحار هو الشيء الوحيد الذي يمكنها ان تمارس حريتها الشخصية المسلوبة من خلاله… وبفكرة الانتحار كانت تعبر عن تمردها عليهم تقول:
*”الانتحار هو الوسيلة الوحيدة.. هو امكانيتي الوحيدة للانتقام من ظلم الاهل”.
لكنها رغم هذا التفكير الا انها من ناحية اخرى قد تعودت على الانكفاء على النفس والغياب داخل الذات، كما انها راحت تتحصن بالعزلة، وتبني لنفسها عالمها الخاص الذي لا يتثنى لاحد ان يقتحمه. ولقد ظل هذا العالم موصدا امام عائلتها ولم تسمح لاحد باكتشافه تقول:
*”كنت مع العائلة ولكن حضوري كان في الواقع غيابا الى ابعد حدود الغياب”.
تتحدث فدوى طوقان عن قسوة الواقع الاجتماعي الذي قذف بها بعيدا بين جدران البيت السماوي في البلدة القديمة من مدينة نابلس، تنظر الى نفسها بشيء من الخجل والاتهام، لقد فقدت أحب شيء الى نفسها (المدرسة) التي كانت تحلم بان تحقق ذاتها من خلالها، وحرمت منها وهي بأمسّ الحاجة لها تقول:
*” رضخت لامر حكمه القاضي بالاقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي، كما هددت بالقتل إذا ما تخطيت عتبة المنزل، ثم خرج اخي لتاديب الغلام. بقيت داخل الحدود الجغرافية التي حددها لي اخي ذاهلة، لا اكاد اصدق ما حدث.
هل هناك ضرر أكثر من هذا يصيب المرأة في أعمق اعماقها بفعل سوء الفهم؟
وتصف فدوى طوقان موقف ابيها منها، وهو الذي لا يخاطبها مباشرة على عادة الرجال في ذلك الوقت، وانما يخاطب امها إذا اراد ان يبلغها شيئا، ثم تقوم امها بعد ذلك بتوصيل ما يريده ابوها منها، وهذا يدل بالطبع على التقليل من اهمية وجود البنت في العائلة والغائها، تقول:
“عاد ابي ذات صباح الى البيت لبعض شانه وكنت اساعد امي في ترتيب اسرة النوم، وحين رآني سأل امي: لماذا لا تذهب البنت الى المدرسة؟؟ قالت له:
تكثر في هذه الايام القصص حول البنات، فمن الافضل وقد بلغت هذه السن ان تبقى في البيت. قال ابي: حسنا وخرج!
كنت اتلهف للحصول على حب ابوي واهتمام خاص، وتحقيق رغبات لم يحققها لي في يوم من الايام. كان احيانا إذا اراد ان يبلغني امرا يستعمل صيغة الغائب ولو كنت حاضرة بين عينيه” وهذا يظهر مدى الاهانة التي كانت تلحق بالفتاة لدرجة تغييبها وهي موجودة امام نظر والدها.
*الشعر:
في شعرها وضعت فدوى طوقان اساسيات قوية للتجارب الانثوية في الحب والثورة والوطن، كما كرست احتجاج المراة على عادات المجتمع الظالمة بحق بني جنسها. كل ذلك من خلال ما كتبته من الشعرالذي كان يعتمل في فكرها ووجدانها. حيث تركت لنا المجموعات الشعرية التالية:
-وحدي مع الايام _ وجدتها _ أعطنا حبا_ امام الباب المغلق_ الليل والفرسان _ على قمة الدنيا وحيدا_ تموز والشيء الاخر _اللحن الاخير. وقد ترجم شعرها الى لغات عديدة منها الانكليزية والالمانبة والفرنسية والايطالية والفارسية والعبرية.
كما صدر لها الاعمال النثرية التالية:
اخي ابراهيم _ رحلة جبلية رحلة صعبة وهي سيرة ذاتية_ الرحلة الاصعب وهي الجزء الثاني من السيرة الذاتية. كما حصلت على العديد من الجوائز العربية والعالمية. وكتبت عنها العديد من الدراسات والابحاث.
لم تيأس فدوى طوقان من بقائها في البيت واستمرت تدرس على يد شقيقها الآخر ابراهيم طوقان الشاعر والمثقف، الذي رحمها وانصاع لرغبتها في ان يعلمها الشعر الجاهلي، فحفظت منه الكثير حتى ظهرت طاقاتها الابداعية المبكرة.
ورغم ذلك لم يتوقف القمع العائلي، بل استمر وعانت منه كثيرا بعد وفاة شقيقها ابراهيم.
وتصف الشاعرة الكبيرة فدوى طوقان، التناقضات الكبيرة التي كانت تعيشها اسرتها، وتنتقد كل تصرفاتهم الاجتماعية الكاذبة والمصطنعة والتي تشكل ازدواجية في الشخصية العربية، فتقول:
“لقد كانوا يرتدون الزي الاوروبي ويتكلمون التركية والفرنسية والانكليزية، وياكلون بالشوكة والسكين ويقعون في الحب، ثم يقفون بالمرصاد كلما حاولت احدانا تحقيق انسانيتها، عن طريق التطور الطبيعي او التطلع الى الافضل والاحسن. كانوا يمثلون خير تمثيل جمود الانسان العربي وعجزه الكلي عن الاحتفاظ بشخصية واحدة غير مشطورة”.
هكذا عاشت الشاعرة على امل الحصول على حريتها. وظل عالم كتبها وشعرها واوراقها يمدها بالقوة ويساعدها على التماسك وتثبيت القدمين على الارض.
ومع تماسكها ظلت احلامها تخطط لقطع صلتها بكل ما يرمز للسلطة في العائلة، ومن ثم للحكم الظالم في كل المؤسسات الاجتماعية. وهي في سيرتها الذاتية تفتح الباب على مصراعين: كما يقول الناقد فيصل دراج
مصراع الحياة الشخصية للكاتبة، ومفتاح الحياة العامة.
فهي شهادة على حقبة تاريخية عانت فيها المرأة من ازدواجية بفعل بداية الانفتاح العلمي والثقافي من جهة، والاحتباس الحسي والعاطفي من جهة اخرى.
لذلك نرى الشاعرة قد بقيت اسيرة ايديولوجية عصور العبودية والاقطاع الكابحة والمقيدة..
فالبحث عن الحرية عاشته وتعيشه المرأة في شكله الحاد والقاهر.. لذلك نرى فدوى طوقان تصور ادق تفاصيل البنت المقموعة اجتماعيا.. والتي منعت حتى من الدراسة وكرست لخدمة البيت فتقول: كنت اقوم باعمال المنزل وبجيبي قصيدة دائما للحفظ، اكوي قمصان اخوتي وانا احفظ الشعر… أرتّب الاسرة وانا احفظ الشعر”.
وكانت الشاعرة تخاف في بداياتها ان توقع قصائدها المنشورة باسمها الحقيقي، تلك التي كانت ترسلها الى مجلة “الاماني” ومجلة “الرسالة” القاهرية لكنها كانت تضع توقيعها باسم مستعار هو دنانير.
لكن احلام اليقظة عند فدوى طوقان قد تحققت كلها بعد ان بلغت الاربعين من العمر وكبرت ومات الرقباء في الاسرة.. فسافرت الى انكلترا:
*” ليس هناك أجمل من الشعور بالحرية والتحرر من المنغصات المحيطة، تلك المنغصات التي يستحيل الفكاك منها ومن براثنها الا بالبعد الجغرافي”.
فدوى طوقان في سيرتها الذاتية تتحدث كثيرا لتذكرنا بالعديد من العادات والتقاليد التي ربما لم تعد قائمة كما كانت عليه.
وهي باصرارها وصمودها استطاعت ان تكسر القيود، واتخذت الابداع الشعري طريقا، ومن اللجوء الى كتابته مظهرا من مظاهر التمرد على النظام البطريركي، وحالة انعتاق في الاساس، حيث ندرك من هذه السياقات في سيرتها عملية نهوض المرأة، والتي تأخذ صفة مؤشرات كبرى دالة على طبيعة المحيط النفسي والشعوري والتربوي، فكيف اذن بالمحيط الاجتماعي والسياسي الذي تحرك فيه نص فدوى طوقان الشعري منذ ديوانها الاول وحدي مع الايام الى ديوان أعطنا حبا، وصولا الى مرحلة ما بعد حرب حزيران والمجموعات اللاحقة….. لتكون رمزا للمراة في مجتمع اصبحت هي شاهدة عليه، من خلال نصوص شعرية كتبها شاعرة عاشت اجواء محافظة، وخضعت لشروط نفسية تدميرية، وصودر وجدانها مرارا.
وفي اعتقادي ان اندماج التمرد الوجداني بالتمرد الشكلي في شعر فدوى طوقان، كان اسهاما كبيرا منها في الدور الريادي الذي شغلته في حركة التجديد الشعري، خاصة ضمن حركة الشاعرات العربيات والذي أطلق عليها محمود درويش اسم (المثلّث الشعري النسائي): نازك الملائكة وفدوى طوقان وسلمى الخضراء الجيوسي. وذلك لما أرساه من استقرار على صعيد الوجدان والشكل أدّى بالتالي الى ترسيخ مفهوم ناضج للعاطفة النسوية، ومضادا من جانب آخر للمفهوم المائع الاستسلامي.
***
*”يتبع في الجزء الثاني”