تنشر قراءات الأديبة مريم رعيدي الدويهي في كتاب نقديّ من خزنة أفكار اغترابية، بعنوان “صمت الغابة صرخة الدويهي في برّيّة الإنسان”
1- النصّ: من أجل آمنة
لا يحبّ وجهه المستطيل، كإجاصة عضّها الزمن.
كلّ صباح ينظر إليه في المرآة، يحيّيه ويتحدّث إليه، ويطلب منه أن يبقى في مكانه ولا يغادر. وبينما هو يتمعّن في تفاصيله، يتراءى له جبين قاحل تركت فيه العواصف خطوطاً متناقضة، وعينان غائرتان مهجورتان، وفم أصفر مزموم على أسى.
بعد أن يغسل ذلك الوجه القديم، يدخل ساقيه الضعيفتين في سروال أجرد، ويحمل وعصاه. وما إن ترتفع الشمس من وراء الجبل، حتّى يسير ببطء إلى حديقة كبيرة، فيجلس إلى طاولة من خشب مع وحدته. الحديقة عالمه الواسع. امرأة في ثياب العيد. شيء من العطر والظلال، وأطيار تتهادى فوق أشجار عصفت بها رياح، فانهمرت أوراقها حوله كصلاة مبعثرة في الفضاء.
إنّه يشعر بأمان تحت السماء، ويستطيع أن يتحدّث إلى نفسه ويعبّر عنها بصوت عجوز، فيه بحّة القصب، وشكوى الأيّام المتساقطة.
بين الشجر والعشب هناك، يجد أغلى ما يشتهيه. قصر من غناء العصافير، وخزائن من رائحة الصباح وقطر الندى. أمّا وليمته فمائدة فارغة ينظر إليها نظره صامتة كأنّها الخيبة.
لديه حريق في أعماق روحه. ولعلّه الآن يفكّر كيف أنّ زوجته آمنة قد تركته كإناء فارغ. كان ذلك منذ سنوات، ولكنّه ما زال يحزّ في نفسه.
حزين جدّاً، بيد أنّه لا يريد أن ينتهي الوقت، وتتوقّف عقارب الساعة عن دورانها البطيء، فكلّ لحظة من الحياة هي حياة بكاملها.
لقد كان غنيّاً في الماضي القريب، وعندما هجرته آمنه كان لديه بيت وأراض مزروعة، فتنازل عنها لابنه الوحيد، ولم تمضِ أشهر قليلة، حتّى تنكّر له ولده، ورمى به في الشارع رمية الشحّاذين، كما يهمس لنفسه وتهمس له… ثمّ يرتفع صوته وتعلو نبرته، ويلوّح بالعصا كأنّه يتشاجر مع أحد.
“تبّاً للحظّ!” هتف وابتلع ريقه بمرارة. كانت مشاهد تعذّبه، فهو لا ينسى كيف تخلّت عنه آمنة، فبات وحيداً في عالم وحيد، وكيف أنّها اتّفقت مع الولد، وتنعّمت بثروته كبنات الملوك، وهي الفلاّحة التي جاء بها من قريه نائية، وكانت لا تعرف إلاّ الزرع وثغاء الجديان… وهكذا تغيّرت حياته من الغنى إلى الفقر المدقع.
“قاتلك الله يا آمنة، ويا صالح ابني، يا أبعد الناس عن الأبرار والصالحين!” قال ذلك وهو يرفع ببصره نحو السماء. ثمّ يعود إلى الأرض من رحلة قصيرة وذات معنى. كانت الحديقة واسعة تحت سلطته، وخالية من أيّ بشر غيره. إنّها كلّ ما يملكه الآن، وفيها يمضي نهاره. وفي الليل يأوي إلى غرفة صغيرة، بقيت له من ثروته الضائعة.
فجأة سمع أصواتاً حمقاء، فالتفت يمنة ويسرة، فرأى ثلاثة من الفتيان يتوجّهون إليه. كانوا يرتدون سراويل ممزّقة، وقمصاناً مفتوحه عند الصدر، ويتزيّنون بسلاسل فضّيّة عريضة. سمعهم يثرثرون ويمزحون فيما بينهم، ويشيرون إلى العجوز الذي يسيطر على الحديقة. وكان زعيمهم حليق الرأس، عريض الجسم، مفتول العضلات، وذا ملامح قاسية ولئيمة. وكان يتكلّم مع رفيقيه بصوت أجشّ كصوت البحّارة…
قال الزعيم وهو يكشف عن أسنان متكسّرة:
لننظّف الحديقة من المتسوّلين والمتعفّنين، ونطردهم كما نطرد البعوض!
ضحك رفيقاه بصخب مقيت، ومدّ أحدهما يده إلى الرجل، فسحبه عن
المقعد كما يسحب ريشة، وألقى به على الأديم، وهو يصيح:
عندي فكرة أخرى… لماذا لا نطعم المتسكّعين عشباً وتراباّ؟ أسمعتَني أيّها الحيزبون الأخرق؟
شعر العجوز بأنّ روحه على كفّ عفريت، وذاق التراب يدخل إلى فمه من يد الشابّ، فكاد يختنق، فيما كان آخر يدفع إلى فمه عشباً رطباً، ويحشوه حشواً، فيكاد يصل إلى حلقه.
اقشعرّ بدنه، وكاد يبكي من اليأس. وكان الثلاثة الأشرار يقهقهون كالمجانين، ويضربونه على ظهره ورجليه بقضيب رمان، فينتفض كطائر جريح. لمح العصا على الطاولة، فأراد أن يستجمع قواه للوصول إليها… وكيف يستطيع أن يفعل ذلك، وهم يطبقون عليه، ويمنعون عنه الهواء؟ تلمّس الأرض بأصابعه النحيلة، فعثر على حجر. شدّ عليه بقوّة وضرب أحدهم على رأسه ففار منه الدم، وأخذ يترنّح وينهار. انشغل الآخران به، فنهض العجوز ببطء، وتوجّه إلى شابّ آخر، فضربه بين عينيه. انقضّ عليه الزعيم كوحش كاسر، غاضباً، منفعلاً، ومصمّماً على الثأر لرفيقيه، فأمسكه العجوز بين فخذيه، وضغط بقوّة، ثمّ تركه يتخبّط من الألم.
لم يعرف كيف وصل إلى العصا، فتشبّث بها، ولوّح بها نحو الزعيم
الذي كان جامداً في مكانه، وحاول أن يناور لكي يستولي على العصا، فكان نصيبه ضربة حادّة على فمه، أسقطت أسنانه الباقية، وانهمرت قطرات دم.
وقف العجوز كمارد في مكانه، والشبّان يلملمون هزيمتهم، ويتهيّؤون للفرار من ساحة المعركة. صاح إليهم بصوته الأعرج: إيّاكم أن تعودوا إلى حديقتي مرّة أخرى. الخزي والعار لكم، والنصر للضعفاء يا أولاد الشياطين!
لم يعد مهتمّاً بألمه، وظلّ دقيقة يبصق تراباً وعشباً من فمه، بينما كان يسمع الشبّان يندبون حظّهم، ويبتعدون رويداً رويداً. كان مزهوّاً بنفسه، وبسيطرته المطلقة على المساحة التي يعتبرها حقّاً له، وبتغلّبه على أولئك الرعاع، وأيضاً على آمنه وابنها صالح… والناس الآخرين.
2- قراءة الأديبة مريم رعيدي الدويهي
يعود هذا النصّ إلى التسعينات من القرن الماضي، وهو من بواكير القصص القصيرة الدويهيّة، وجده في أرشيفه المتنقّل بحكم الأسفار، وأعاد صياغته، مع تعديلات طفيفة، لكنّ البنية الأساسيّة – الصراع بين الضعيف والقويّ، لم تتغيّر.
بدأ الدويهي القصّة بتركيزه على الضعيف، فهو محور الحدث، أمّا الأقوياء فيظهرون بعد فترة، ليكملوا المناخ الدراميّ. والمألوف أنّ القويّ ينتصر على الضعيف، بحكم المنطق. أمّا الدويهي فأراد انتصار الضعيف على القويّ، متسلّحاً بالعزيمة والأمل والرغبة في الحياة.
جزء من الدويهي نفسه، في نضاله الإنسانيّ، اللاإستسلاميّ، المواجه للعواصف بصدر مكشوف وجبين عال، يظهر في شخصيّة البطل العجوز، ما يشدّنا إلى العلاقة اللغويّة بين العجز بمعنى التقدّم في السنّ، والعجز بمعنى الهزال والانكسار. فليس من الضروري أن يكون العاجز سنّاً، عاجزاً في المواجهة، وإنْ كان في لحظة ما، يعتقد أنّه غير قادر على المقاومة. والعجوز صاحبنا له صفات متواضعة، تدلّ على الركاكة، فإضافة إلى سنّه الكبيرة، هو فقير الحال، وشبه معدم. واستخدم الأديب من بداية النصّ تعابير ترمز إلى الشحوب: جبين قاحل، عينان غائرتان مهجورتان، فم أصفر مزموم على أسى، ساقاه الضعيفتان، سروال أجرد، عصا يتّكئ عليها…
ولو نظرنا إلى هذه الصفات، من غير أن نقرأ النصّ، يمكننا أن نكوّن فكرة عامّة عن وضع الرجل الاجتماعيّ. متشرّد من المتشرّدين، عصفت به رياح الزمن، والأقدار الصعبة، فحوّلته إلى كتلة من المعاناة في هيئة آدميّة.
ويبدو لنا أيضاً أنّ الحديقة عالمه، يمضي إليه. وهذه المشهديّة كلاسيكيّة، ومألوفة، وطبيعيّة لدى العجائز فكثيراً ما يتوجّهون إلى الحدائق العامّة، حيث يصرفون وقتهم في التأمّل والصمت، وربّما يتحدّثون إلى أنفسهم.
وصاحبنا لديه حريق في أعماق روحه. وهذه الجملة مفتاح للتعرّف أكثر بوضعيّته، فزوجته آمنة تركته، وكان غنيّاً، لديه بيت وأراض مزروعة، فتنازل عنها لابنه الوحيد، وخانه الابن، صالح اللاصالح، فأخذ كلّ شيء ورمى بوالده في الشارع… ولم يترك له سوى غرفة صغيرة يأوي إليها…
قصّة من بين آلاف القصص التي تحدث كلّ يوم، ونسمعها من أفواه كثيرين، تغيّرت حياتهم من الثراء إلى الفقر المدقع، وورثوا الدمع ممّن أورثوهم المال.
مَن هم الشبّان الثلاثة الذين ظهروا في الحديقة على حين غرّة؟ زمرة من الرعاع الفوضويّين الباحثين عن ضعيف ليؤذوه. أشكالهم تدلّ على غوغائيّتهم: يرتدون سراويل ممزّقة، وقمصاناً مفتوحه عند الصدر، ويتزيّنون بسلاسل فضّيّة عريضة… زعيمهم حليق الرأس، عريض الجسم، مفتول العضلات، وذو ملامح قاسية ولئيمة. وكان يتكلّم مع رفيقيه بصوت أجشّ كصوت البحّارة…
إن هؤلاء الأوباش الفارغين من الحسّ الإنسانيّ يمثّلون مجتمعاً بكامله، وسياسات أمم بحالها. ويريدون أن ينظّفوا المجتمعات من أهل الطيبة والبراءة، لتحلّ الشرور ويحكم العالم أهل الظلام… لقد نكّلوا بالرجل المسكين تنكيلاً، ولا يردعهم ضمير أو قانون. وأطعموه تراباً وعشباً، وهما مأكل المقهورين في كلّ مكان. وكانوا يضربونه بقضيب رمّان، كما تضرب الأنظمة بالبارود والنابالم… ومن المأساة التي كان يتخبّط بها، استطاع أن يصل إلى الحجر والعصا، ونجح في التخلّص من الأشقياء، وكانت خاتمة المعركة صيحته كنسر عتيق: “الخزي والعار لكم، والنصر للضعفاء يا أولاد الشياطين!”
هكذا انتصرت العين على المخرز، وعادت الأرض – الحديقة إلى صاحبها، وهي حقّ له – بحسب تعبير الدويهي… واستعاد العاجز كرامته، بعد أن ثأرَ من آمنة وابنه صالح، والناس الآخرين.
ومَن هم هؤلاء الآخرون؟ هل هم حقّاً حفنة من الناس؟ أم دول وشعوب وعسكر مجر، قدرهم أن يخسروا الحروب في النهاية، عندما يعود الضحايا إلى ذواتهم، ويكتشفون مقدار القوّة التي فيهم، وهي تستطيع أن تغيّر وجه الأرض؟
***
*مريم رعيدي الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع