منيرة مصباح
ما بين لحظة الرؤيا ولحظة الابداع الفعلي..
لا دم يعادل دما..
لا موت يعادل الشهادة
لأن الدم يعود للمنبع.. فتزداد الذكرى توهجا..
هكذا يواجه الانسان الموت ليبقى في ذاكرة الوطن كشفرة المحراث في الأرض
في شوارع غزة، في طرقات القدس وأزقة الخليل.
لا دم يعادل دما..في غابة الوحوش والتوحش
تلك التي يسكنها ألائك الذين لم يدركوا أن هذا الدم عائد للجسد الفلسطيني
ينزرع في الأرض وينبت ورودا وأزهارا حمراء
أن هذا الدم لا بد عائد للقلب كما تعود البوصلة الى الشمال.
في مذاق الكلمات لا دم يعادل دما..
انما ألوانا من عذاب المشردين والمنسيين في حصارهم.
هكذا الفلسطيني ما دمه الا تساميا في مشكلة النفي وسط كل المجازر والابادة الجماعية للأطفال والنساء في عالم العميان والصامتين.
هل يكون للكتابة معنى؟
نعم يكون حين يتحتم على الكاتب ان يؤمن بجدوى الكتابة أو لا يؤمن،
أن يدافع عن قضية هي مصيره أو لا يدافع.
هنا في هذا الحد الفاصل يبرز التمايز ما بين نص وأخر ويعطيه قيمته الإنسانية ويبعدنا عن مقولة المسرحي “يوجين يونسكو” (سيأتي يوم لن يكون فيه للكتابة معنى) وهو الذي استمر في الكتابة حتى روايته “المتوحد” التي لم تضف شيئا الى عالمه انما اكدت على شخوصه المسرحية التي تضع الانسان أمام مصيره بصفته كائنا فريدا ومتميزا في حريته.
لا دم يعادل دما.. لا موت يعادل الشهادة..
حين يتوحد الدم بالأرض بلا ضجة.. بلا مرايا.. بلا أضواء في زمن العمى
لا موت يعادل الشهادة.. عند أطفال يدوسون في مربع السماء، في ذلك الاختناق الذي يحل محل نسيم الفجر وعبير البحر.. محل حفيف الأشجار وهي تستقبل الليل، محل رائحة الوطن وحليب الأم… الكتابة هنا قاموس جرح داخل اللغة، بمعنى ان الكتابة هي رحلة مضرجة بالدم في خارطة الجرح، والجرح هنا هو ارتباط الجسد بالأرض واهبة النسغ والحياة، انه الالتصاق ما بين مكونات الهوية ومرتكزات ثباتها، وبين الواقع المعاش وما يعتريه من تشويه بعيد عن منابع الحقيقة والصفاء.
الجرح هو دائما ذلك الألم الأليف الذي يطبع صوت الفلسطيني والفلسطينية، يطبع وجه فرحته وضحكته بمسحة الحزن السعيد، ففلسطين بالنسبة لهما هي الحنان الجريح، الذي لا يحمل معنى الضعف بل درجات من الصحو والعنفوان، انه جدلية الوهن والقوة التي حفرتها فلسطين في الذاكرة.
فلسطين عشق له طعم اليقين والمستحيل، فبها ينتهي الحب ليحل محله العشق.
حين اكتب وفلسطين ماثلة في عينيّ وقلبي وجذري الممتد، تخرج اللوعة لتنصهر وتتوحد بالأرض.. بالوطنوبالشعب المبشر بالمستقبل، انه العشق الفلسطيني النابع من الاقتلاع الدائم والتهجير، من التوق للمفقود للحرية للعدل للسلام وللحب. هذا العشق بأبعاده وثقله ومذاقه هو الوشم الذي تحفره كل مدن وقرى فلسطين بحد توهج القلب والعقل، لذلك لا يمكن الا ان تتأصل في الذاكرة الجماعية، ولا يمكن الا أن تفعل بعمق في تشكيل الرؤية للعالم ولكل من يريد القضية العادلة. وبهذا الحضور القوي للشعب المقاوم في غزة رغم الإبادة الجماعية، تصبح الصرخة العادلة وشما محفورا بالأنامل والأصابع أمام الفناء الذي خرج من الاساطير ليتجول بين روافد الاستشهاد. هذا الفناء الذي ينتج الحياة، أدركه الشعب الفلسطيني عبر الزمن فتحرر منه ومن كل ما يقف عائقا في وجه الابداع الحر في حياته رغم كل الطلاسم وقناصة النور الذين يزرعون السراب في وجه اشعاع الحرية والثورة والاخلاق.
المقاومة في فلسطين أفرزت النور من الانعكاس الوهمي البارد، وأعادت انتاج جوهرها على أرض الواقع الذي تحمله المرأة والطفل والشاب والكهل. فلسطين المذبحة ما زالت قائمة وصداها يجد صوته في هذا الشعور الجمعي والفردي الذي ينطلق من السجناء والسجينات، رغم كل ما يتمنطق به العدومن آلات الدمار. وفي غزة لم يعد هناك متسع للأسئلة المجمدة أو القابلة للتأويل، أصبحت الذاكرة لدى أطفال فلسطين استمرارا للنضال والكفاح والثورة في مواجهة مباشرة وصدام مستمر، هذا الفعل القائم الان والذي يتحدىالاحتلال بكل ما يحمله من قوة عاتية هو الفعل القادر على تغيير الوضع المهترئ والمتمثل بالموت المجاني، لذلك نرى الذين يواجهون هم الذين يصمدون ويقاومون في ثبات، فلا شيء أمامهم الا استرجاع الحق مع الكرامة.
أما في الجانب الإنساني الذي حول الصورة الدموية والشعور الجمعي الى رفض من قبل معظم شعوب العالم وردود افعالهم بالمظاهرات التي قاموا بها مطالبين بتحرير فلسطين وإيقاف المجازر بحق الأطفال والنساء ما هي الا كشف عن اجرام ما يقوم به المحتل منذ أكثر من 70 عاما.لذلك أقول ليس من السهل إبادة الذاكرة الفلسطينية، واغماض الأعين عن استباحة الضمائر، ان اتخاذ موقف امام ما يحصل في غزة يعتبر مسؤولية أخلاقية أمام تحرر شعب تجاوز كل المغالطات القائمة لقلب الحقائق وتزوير التاريخ،ومثول الفعل الفلسطيني بصفته المعلنة يثبّت ارادته في الحرية وفي تحرير الأطفال والنساء والامهات من براثن الاحتلال، هذا الفعل اختصر العلاقة الأساسية بين الانسان والوطن، بين الانسان والحق السليب، بين الانسان والقهر المفروض.
في ضوء ذلك لا دم يعادل الشهادة…
انما ظلالا لافحة للحق تشهد على كل البلاد لتعلن تضحيات شعب بوسع السهول وحقول القمح وحجارة البيوت، وبلون لحن عميق لشعب بوسع أرض فلسطين آمن بان الحياة أقوى من الموت فواجهه بقوة وعزيمة وبأرواح لا تنطفئ.
وهنا لا يسعني الا ان اذكر ما قاله يوما قبل رحيله الشاعر توفيق زياد:
“كثيرون هم الشعراء ورجال الفكر الذين قدموا للبشرية أعمالا ضخمة، وكان انتاجهم قمما شاهقة في الثقافة الإنسانية، لكن في كل الثقافة البشرية ذات المميزات الخاصة بشعب من الشعوب، توجد قمم لم يستطع ولن يستطيع الوصول اليها أي شاعر أو فنان فرد، وشاعر هذه القمم وصانعها هو جموع الشعب”.
***
* الأعمال الفنية للفنان سليمان منصور
والقصيدة التي في اللوحة للشاعر الفلسطيني عبد الرحيم محمود