أقصوصة “عصفور” للأديب المهجريّ د. جميل الدويهي

 

 

 

بعد أن درست الأديبة مريم رعيدي الدويهي نخبة من قصص الأديب د. جميل الدويهي: “وطن من رماد”، “الخير فقط”، “أناهيد”، “إبرة في القشّ”،  “صمت الغابة”، “الخائفون”… أنشر هنا واحدة من أجمل القصص الرمزيّة التي تحتويها مجموعة “صمت الغابة”، بعنوان “عصفور”، وتنشر مريم غداً مطالعتها لهذه الأقصوصة.

 

عصفور

كان السائحون والغرباء يتجوّلون في ساحة البلدة القديمة، ويجذب اهتمامهم تمثال رائع من الحجر الأسمر، يمثّل رجلاً عجوزاً يستند إلى درّاجة ذات ثلاث عجلات، وتخرجُ نافورتا مياه من عينيه.

وكان شابّ في مقتبل العمر يجلس قرب التمثال، ويشرح للعابرين عنه، ويروي حكايته. وكان يفعل ذلك في كلّ يوم تقريباً، فأصبحت الكلمات تتدحرج على لسانه من غير تكلّف وعناء، ولا يبدو عليه كثير من الانفعال، بل ابتسامة طيّبة ترتسم على محيّاه.

ولمّا كثر عدد الزائرين الذين تحلّقوا عند التمثال، وجد الشابّ فرصته للبدء بالحديث، بينما كانوا يفتحون آذانهم وعيونهم، ويسلّطون آلات التصوير على المشهد، فتلتمع الأضواء مبهرة وفاقعة.

قال الشابّ: هذا الرجل الذي ترونه في التمثال هو جدّي، اسمه عصفور. كان بائعاً متجوّلاً، يبيع الخضار والفواكه على هذه الدرّاجة. كان فقير الحال. وفي كثير من الأيّام لم يجد لقمة لأطفاله الصغار، ومن بينهم والدي.

أبدى الحاضرون اهتماماً متزايداً بالرواية، وحدّقوا مرّة أخرى بالتمثال، فلاحظوا أنّ على العربة صناديق، تظهر منها حبّات العنب والتفّاح والرمّان، وقد أبرزَها النحّات بدقّة ومهارة.

تابع الشابّ كلامه، فقال:

وذات يوم، بينما كان جدّي يدفع عربته، ويصيح بأعلى صوته، لكي يشتري أهل البلدة منه، اقترب منه خمسة من الأغنياء والسماسرة الذين يعملون في بيع الذهب، فسخروا منه، وأسمعوه كلاماً قبيحاً، وقالوا له:

كيف ترضى أن تعيش في هذا الفقر، وأنت رجل متزوّج وعندك أولاد؟! ألم تفكّر أن تكون ثريّاً مثلنا؟

تعجّب من كلامهم، وخطر في باله أنّهم أشرار، ولا ينبغي عليه أن يصغي إليهم، فتابع سيره، فلحق به أحدهم، وهمس في أذنه:

نعطيك مالاً كثيراً إذا وافقت على بيع وطنك… مال لا تقطعه النيران، فيصبح لك بيت كبير… قصر فيه خدم. ويرتدي أبناؤك الخزّ بدلاً من الأسمال البالية. صدّقني. لن تخسر شيئاً، فالدنيا واسعة، والحرّيّة في كلّ مكان.

انفعل عصفور، وتصوّر نفسه بهيئة أخرى، إنساناً مختلفاً عمّا هو عليه، فيتخلّى عن الدرّاجة التي هي تجارته، ويصير من الأثرياء الكبار… ولِمَ لا؟ فقد عاش طويلاً في الفاقة، وذاق مرّ العيش. وكان يسأل نفسه دائماً: ماذا أعطاني الوطن لأعطيه؟

ولم يتصوّر أنّ الغنيّ الذي يطارده، ويزيّن له الإثم، هو شيطان حقّاً. وظلّ أولئك الرجال يتبعونه ويثرثرون له، حتّى أقنعوه بفكرتهم، فوافق على بيع وطنه.

دفع المسكين بدرّاجته إلى غابة قريبة، وتركها وحيدة هناك، وهو لا يصدّق أنّ حياته تغيّرت من حال إلى حال، فاغتبط في سرّه، وكاد يقفز من شدّة السعادة.

كان عصفور لا يعرف القراءة والكتابة، فدفع إليه الرجال بوثيقة ليوقّعها، ففعل ذلك، ولم يعرف أنّه باع وطنه من غير مقابل. وعندما طالبهم بما وعدوا به، قطّبوا وجوههم، ونهَروه قائلين:

هل نحن وعدناك بشيء؟

صرخ من الهلع: قاتلكم الله… هل نسيتم ما تعهّدتم به منذ قليل؟ ولماذا تركت درّاجتي، وأتيت معكم إلى هنا؟ ومن أين أعرفكم؟ وهل كنت أوقّع تلك الوثيقة التي بين أيديكم، من دون مقابل؟

أراد أن يهجم عليهم، ويتشاجر معهم، لكنّهم أكثر عدداً، وأقوى عوداً… فتركوه وحده يهذي ويضرب أخماساً بأسداس، ولمّا أراد أن يعود إلى عربته، منعوه، قائلين:

لن تدوس قدماك تلك الأرض التي بعتها، وهي حقّ لنا.

أجهش بالبكاء، وكانت تلك من المرّات القليلة التي يبكي فيها. كان بكاؤه علقماً، ودموعه تحفر التراب عند قدميه.

عطف عليه أحدهم، وقال:

لا بأس… لا بأس… سنعيد إليك الدرّاجة، رأفة بزوجتك وأبنائك!

بقي واجماً في مكانه، بينما توجّه واحد منهم إلى الغابة، فجاءه بالدرّاجة، ثمّ مضوا في طريقهم، وهم يقهقهون من سذاجته.

كان عصفور يبكي ويبكي، وهو مستند إلى عربته، كما ترون في التمثال، وبينما هو كذلك، مرّ به مسافر غريب، فرقّ لحاله، وسأله ماذا جرى له، فقصّ عليه ما حدث، وكيف أنّ الأشقياء خدعوه وكذبوا عليه، فباع وطنه، ولم يبق له وطن يلجأ إليه.

كان المسافر مندهشاً، يفتّش عن كلمات يمكنها أن تخفّف عن عصفور عبء اللحظة القاسية، فلم يجد.

كانت آخر الكلمات التي قالها جدّي:

أستودعك هذه الدرّاجة، فخذها إلى زوجتي وأولادي، وقل لهم: لقد رحل عصفور إلى غير رجعة، وتشرّد في الأصقاع… فلن يراه أحد بعد الآن.

وختم الشابّ حكايته بالقول:

اختفى جدّي منذ تلك الساعة، ولم يعثر عليه أحد بعد ذلك، ولو بقي حيّاً، لكان عمره الآن مئة وعشرين سنة. أمّا ذلك المسافر النبيل، فكان يعمل نحّاتاً، وقد ظلّ شهوراً يصنع هذا التمثال لجدّي، وعربته، والنافورتين اللتين تخرجان من عينيه. وأصبح هذا التمثال من عجائب البلاد… تحفة من التحف التي تنطق بالمأساة، وتخبر عن واقعة مدهشة، لا تحدث كثيراً في الزمان.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد