1- الأقصوصة
في زمان سحيق، كانت الشمس لا تغيب عن واحدة من المدن الكبيرة، وكان أهل تلك المدينة لا يعرفون النوم أبداً، فلم تكن لهم أجساد، بل أرواح هائمة، خالية من الألم والمعاناة.
وكان سكّان المدن الأخرى يحسدون أقرانهم في تلك المدينة، فاشتكوا إلى الملك، فبعث على الفور باثنين من رسله، وطلب منهما أن يجدا شرّيراً واحداً فيها، لكي يستطيع أن يجعلها تتساوى مع جميع المدن في المملكة.
غاب الرسولان مدّة، ثمّ عادا، وأخبرا الملك بأنّهما لم يجدا شرّيراً، لا رجلاً ولا امرأة. فأمرهما بأن يكرّرا المحاولة. لكنّهما فشلا أيضاً، ثمّ حاولا مرّات من غير جدوى. فغضب الملك وقال لهما بلهجة صارمة:
لو جئتما إليّ بعد الآن، وقلتما أمامي إنّكما لم تعثرا على شرّير، لقتلتُكما قتلاً فظيعاً.
مضى الرسولان، وقرّرا أن يفعلا المستحيل لتحقيق المهمّة المقدّسة التي كلّفهما بها الملك. وبينما هما في الطريق لمحا امرأة رائعة الجمال، لم يعرفا امرأة أجمل منها من قبل. فاقتربا منها، وسألاها عن اسمها، فقالت بصوت رقيق:
أناهيد.
-أناهيد… اسم جميل. هل تعرفين الخطيئة يا امرأة؟
“خطيئة؟”
لم أسمع بهذه الكلمة من قبل. هل تشرحان لي ماذا تعني؟
-آه… يا لك من امرأة خاسرة! إذا لم تعرفي الخطيئة، فليست لك حياة… الخطيئة هي اللذّة، والسعادة، والمتعة، والشهوة… وكلّ شيء طيّب ترغبه النفس.
-ولماذا نحن لا نعرف هذه؟
-صدقاً نقول لك إنّ قومك يعيشون خارج الزمان. فما هو المعنى من حياتهم إذا كانت كلّها نهاراً، وإذا كانت أجسادهم من أثير لا شعور لها؟
-ابتعدا عنّي يا شيطانان!
-نحن شيطانان؟! لماذا تقولين ذلك؟… إنّنا مصلحان، ونسعى إلى خلاص العالم. لولا الشرّ لما كانت تجارة وصناعة وعلم. والذين يدافعون عن الله أنفسهم لو لم يكن هناك إثم لتعطّلت مصلحتهم، وكسدَت بضاعتهم.
-لا أصدّق. أنتما تكذبان…
أخرجَ أحدهما من حقيبة صغيرة كان يحملها، تفّاحة من الذهب الخالص، وعرضها أمام المرأة، قائلاً:
أنظري إلى هذه التحفة التي لا مثيل لها في الوجود… لقد جئنا بها من حديقة السحر والخيال. ورأينا أن تكون هديّة لك.
وأخرج الثاني سلسالاً فيه جواهر نادرة، وهمس لها:
وهل رأيت هذه؟… لم تحصل عليها سيّدة من قبل. إنّ حوّاء في مجدها لم يكن لها مثلها.
دهشت المرأة، وتغيّرت ملامحها، وشعّ نور غريب في مقلتيها الكبيرتين. سألت الرجلين:
من أين هذه الجواهر كلّها؟
أجابا: أما سمعتِ بالقول: “كنت في عدن جنّة الله، كلّ حجر كريم ستارتك، عقيق أحمر، وياقوت أصفر، وعقيق أبيض، وزبرجد، وجزع، ويشب، وياقوت أزرق، وبهرمان، وزمرّد، وذهب. أنشؤوا فيك صنعة صيغة الفصوص وترصيعها يوم خلقت”؟
-تقصدان هي لي؟
“نعم لك”، قالا، “إن رافقت أحدنا إلى تلك الخيمة المهجورة عند النهر”.
مضت المرأة معهما إلى الخيمة، بعد أن أخذت التفّاحة المن ذهب، والسلسال الذي فيه كلّ نوع عجيب من الأحجار الكريمة. ومضت ساعتان، فتوجّه الرسولان إلى الملك، وهما في فرح عظيم، فأخبراه بما حدث مع المرأة أناهيد. فأمر الملك بأن يكون نهار وليل، وأن يتحوّل أهل تلك المدينة إلى أجساد تشعر، وأصبحوا يبيعون ويشترون، ويصنعون الآلات، ويزرعون الحقول. وتطوّروا بالعلم، وافتخروا أيّما فخر بالمعرفة الناقصة.
2- قراءة الأديبة مريم رعيدي الدويهي
عدت إلى المراجع لأعرف مَن هي أناهيد. ورد اسمها في أسطورة قديمة، فارسيّة الأصل، كان العرب يروونها في عصر ما قبل الإسلام، ومفادها أنّ أناهيد كانت امرأة خليعة، فأرسل الله إليها ملاكين، هما هاروت وماروت لكي يصلحاها، فأغوتهما، وأخذت منهما السرّ لتصعد إلى السماء، فرماهما الله في بئر ببابل لا يصلان إلى قعرها، ويجوعان ويعطشان إلى أن تقوم القيامة، أمّا هي فقد صعدت إلى السماء، وصارت كوكب الزهرة.
الأسطورة تفسيريّة، أي إنّ الناس أرادوا أن يفسّروا لماذا وُجد كوكب الزهرة في السماء، فاخترعوا له قصّة بسيطة وساذجة، فصارت حيّة في الضمير الجماعيّ، طبعاً في تلك الأيّام.
يستخدم الكاتب الدويهي أناهيد نفسها، وبطريقة مختلفة. فقد طوّر الأسطورة من خياله، وجعلها تحدث في مدينة لا تغيب عنها الشمس، فليس فيها نهار وليل، وكانت أجساد الناس في تلك المدينة من روح فقط. فيرسل الملك إليها رسولين – ملاكين (قد يكونان هاروت وماروت أيضاً)، ويطلب منهما أن يجدا شرّيراً في المدينة، فحاولا أكثر من مرّة وفشلا، فغضب الملك وأصرّ على أن يكون هناك إنسان واحد شرّير.
السؤال هنا: لماذا يريد الملك أن يعثر على الشرّ، ولماذا هو مقتنع باستحالة وجود الخير وحده؟ أوليس لهذا علاقة بقيمة فلسفيّة دويهيّة، تقوم على التوازن الدقيق بين الروح والجسد، الخير والشرّ، الليل والنهار؟ يقول الدويهي في كتابه “تأمّلات من صفاء الروح” (ص 66): “ليس من إنسان يخلو من الخير والشرّ، لكنّهما يتصارعان في نفسه، فتارة يغلب الخير وتارة يغلب الشرّ. صدقاً أقول لك إنّ اللصّ الذي سرق أموال المعبد سيُطعم أبناءه الجياع، وقد يصادف رجلاً فقيراً مُعدماً يشحذ على الرصيف فيعطيه قليلاً من الدراهم”.
إذن هو يؤمن بأنّ الشرّ والخير يتكاملان، فحتّى الشرّير الذي يسرق أموال المعبد، سيفعل شيئاً من الخير بعد ذلك لأبنائه، وربّما لفقير يشحذ على الرصيف.
الملك رمز، والملاكان أداتان، والهدف هو: العثور على الشرّ.
ويلتقي الملاكان بأناهيد، فيغريانها. وفي الأسطورة الأصلية هي تغريهما. لذلك كتب الدويهي في عنوان الأقصوصة “حكاية قديمة بأسلوب جديد”، فالعصر يتطلّب رواية معدّلة، والزمان اختلف، والبشر تغيّروا كثيراً خلال تطوّرهم في الفكر والحضارة. وعندما سألتْ أناهيد: لماذا لا نعرف هذه (الخطيئة)؟ أجابها الرسولان: “صدقاً نقول لك إنّ قومك يعيشون خارج الزمان. فما هو المعنى من حياتهم إذا كانت كلّها نهاراً، وإذا كانت أجسادهم من أثير لا شعور لها؟”
يريد الملاكان الخلاص من عقاب الموت الذي هدّدهما الملك بأنّه سيكون لهما إذا فشلا في إيجاد خاطئ. ويرفض الملاكان أن يكونا شيطانين: “نحن شيطانان؟! لماذا تقولين ذلك؟… إنّنا مصلحان، ونسعى إلى خلاص العالم. لولا الشرّ لما كانت تجارة وصناعة وعلم. والذين يدافعون عن الله أنفسهم لو لم يكن هناك إثم لتعطّلت مصلحتهم، وكسدَت بضاعتهم”.
منتهى الصدق الذي يجرح، طبعاً على لسان الرسولين. فهما يعتبران أنّ الشرّ هو السبب وراء التجارة والصناعة والعلم، وكذلك التجارة بالدين.
وقد وجدتُ عند الدويهي ما يناقض هذه النظريّة، في العديد من نصوصه الفلسفيّة، ففي “تأمّلات من صفاء الروح” (ص 67)، يجادل أديبنا مَن يعتبر أنّ الشيطان وراء تطوّر البشريّة، فيقول الدويهي: “ إنّ الله وضع في كلّ واحد منّا عقلاً، لا ليمشي إلى الوراء، ولا ليتحجّر في شرنقة الجمود… نحن المسؤولون عن التقدّم والتأخّر”.
في ظنّي أنّ الرسولين يمعنان في الكذب، لكي يحقّقا الغاية التي يطمحان إليها، وينجوَا من العاقبة، لذلك يقدّمان الهدايا لأناهيد العصر الجديد، تفّاحة من الذهب الخالص، جاءا بها من حديقة السحر والخيال، وسلسال فيه جواهر نادرة، لم تحصل عليها سيّدة من قبل. وحوّاء في مجدها لم يكن لها مثلها.
الإغراء من أجل الخطيئة يتكرّر، وأناهيد هي حوّاء أخرى، لكن بشخصيّة متطوّرة، وليس غريباً أن يلجأ الرسولان إلى نصّ من التوراة (حزقيال 28): “كنت في عدن جنّة الله، كلّ حجر كريم ستارتك، عقيق أحمر، وياقوت أصفر، وعقيق أبيض، وزبرجد، وجزع، ويشب، وياقوت أزرق، وبهرمان، وزمرّد، وذهب. أنشؤوا فيك صنعة صيغة الفصوص وترصيعها يوم خلقت”.
هذا النصّ التوراتيّ موجّه إلى الشيطان أصلاً، ويصف حالته قبل أن يهبط إلى الأرض – بحسب الرواية الدينيّة، التي ترى أنّ الله قد خلق إبليس كائنًا روحيًا طاهراً عظيم الحكمة والبهاء. لكنّه تكبّر على الله، وخسر الفردوس، وكان سقوطه وراء المحن التي تعانى منها البشريّة… وقد كان الشيطان من الكاروبيم حاملي العرش المليئين جمالاً. وكانت له جنّة عدن وما فيها من أحجار كريمة رُصّعت له منذ خُلق.
يحوّل أديبنا هذا النصّ من المذكّر (الشيطان) إلى المؤنّث (أناهيد)، لتكتمل حلقة الشرور وتطغى على فعل الخير. وبالمادّة وحدها مضت المرأة مع الرسولين إلى الخيمة. وحدث ما حدث. فأمرَ بعد ذلك الملك بأن يكون نهار وليل، وأن يتحوّل أهل تلك المدينة إلى أجساد تشعر، وأصبحوا يبيعون ويشترون، ويصنعون الآلات، ويزرعون الحقول. وتطوّروا بالعلم، وافتخروا كثيراً بالمعرفة الناقصة.
تغيّر أهل المدينة من أرواح، إلى ازدواجيّة الروح والجسد، وتغيّر النهار المتواصل، إلى ازدواجيّة الليل والنهار، وأصبح في المدينة توازن بين الموجب والسالب. وهذا أقنوم من أقانيم الفلسفة الدويهيّة، أمّا “المعرفة الناقصة”، فهي أقنوم آخر يمكن أن نعثر عليه في جميع كتبه، إذ يتّهم الذين يدّعون المعرفة بالغرور. يقول في كتابه “في معبد الروح” (ص 79): “يقولون لكم إنَّهم يعرفون، أو إنّ المعرفة موجودة في مكان ما، فقولوا لهم: إنَّ المعرفة التي تتحدَّثون عنها ما هي إلاَّ البعض القليل الذي لا يكفي. أمَّا المعرفة الكاملة فهي الحلم الذي لا يتحقَّق مهما طال الزمن، فلا الفلسفة ولا العلم قادران على الوصول إليها. الحقيقة هي الفضاء الذي لا يبلغه الطائر مهما علا جناحه، وهي البحر الذي لا يمسك به الملاَّح من كلِّ جوانبه مهما كان عتيّاً. فلا تخجلوا من القول إنَّكم لا تعرفون، لأنَّكم تظهرون تواضعكم للناس ولا تتكبَّرون، ولا تخافوا أن تقولوا لمن يدَّعي المعرفة إنَّه لا يعرف إلاَّ القليل القليل، أمَّا الكثير فليس ملكاً لأحد، ولا سطوة لأحد عليه”.
تندرج أقصوصة “أناهيد الدويهية” في سياق فهم الدويهي لمعادلة “الخير والشرّ”، و”المعرفة الناقصة”… وقد حوّر أسطورة قديمة، وغيّر في مسارها، لكي يرمز إلى فكرتين أساسيّتين في فلسفته. ونلاحظ أنّه أفرد حيّزاً كبيراً للفكرة الأولى، وأكتفى من الفكرة الثانية بآخر كلمتين فقط “المعرفة الناقصة”، وكأنّي به يجعل الفكرتين متلازمتين، لا تنفصل إحداهما عن الأخرى.
***
*الأديبة مريم رعيدي الدويهي: مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع