قراءة الأديبة مريم رعيدي الدويهي النقدية لقصص قصيرة من مجموعة الأديب د. جميل الدويهي “صمت الغابة”

 

 

1- نصّ من مجموعة “صمت الغابة” لجميل الدويهي

إبرة في القشّ

أفقتُ ذات صباح من نوم عميق، فوجدت ثقباً في حياتي، ثقباً كبيراً يمكن أن تعبر فيه شاحنه نقل.

خفت كثيراً، فقد سمعت منذ صغري أنّ الإنسان الذي يتعرّض لثقب في حياته، يصبح في خطر… وربّما يتحوّل إلى حصان، أو شجرة… أو يصبح وحشاً يكره الناس، ويمقت وجودهم.

أسرعت لأشتري إبرة، فأرتُق حياتي، وكم كانت دهشتي عظيمة، عندما رفض البائعون أن يعطوني إبرة!

قالوا: إنّ الابن الصغير للملك قد ابتلع إبرة ومات، فمنعت السلطات بيع الإبر، وكلّ من يمتلك إبرة ولا يسلّمها إلى الشرطة يحكمون عليه بالإعدام.

أسقط في يدي، ويئست، واحترت في ما أفعله. وقلت في سرّي: أين

أعثر على إبرة في هذا العصر الكئيب؟

مررت عند طرف الغابة، فأبصرت امرأة عجوزاً أمام كوخ قديم، فشكوت لها أمري، وسألتها عن إبرة. فقالت: من أين يا ولدي؟ لقد كانت عندي إبرة واحدة، أضعتها في كومة من القشّ، بينما كنت أطعم أغنامي.

قلت: الحمد لله… الحمد لله… وجدتها… لنبحث عن الإبرة في كومة القشّ!

ضحكتْ العجوز منّي بسخرية، وقالت: من الصعب أن نفعل ذلك، قد يستغرق الأمر أعواماً ولا ننجح…

لاحظت تلك المرأة حزناً عميقاً يسيطر على وجهي، بينما كنت أدير ظهري للرحيل، فخاطبتني:

حسناً.. حسناً… لا تذهب. لنبحث عن الإبرة، ولكن لا يجب أن يعلم الملك بما فعلناه. ولا تذكره أمام أصدقائك… هل سمعت؟

-سمعت… سمعت… لا تخافي. سيكون سرّاً في بئر سحيقة.

مضت ستّة أشهر، وما زلنا نقلّب القشّ، مرّة بعد مرّة، فلا نعثر على الإبرة. ولمّا يئسنا، اقترحتْ عليّ العجوز أن نمزج بعضاً من القشّ في طين وماء، ونضعه في الثقب.

كانت تلك فكرة صائبة، فليس أمامي حلّ آخر.

وبعد أن أصلحنا ما أفسده الدهر، جلست في الشمس أيّاماً، لكي يجفّ الطين. ومنذ تلك الحقبة من الزمان، أعيش حياة غير عاديّة، فارغة في وسطها، ومحشوّة بطين وقشّ كثير…

أصبحت الآن في السبعين من عمري… وقد وجدت إبرة، لكنّ الطين الذي صنعناه، وأقفلنا به الثقب، هو من نوع لا ينكسر.

2- قراءة مريم رعيدي الدويهي:

لماذا يحتاج المتكلّم في نصّ “إبرة في القشّ” إلى إبرة أصلاً؟ هل ليرتق ثيابه التي تمزّقت في البحر والإعصار؟

لا. هو يريد إبرة لأنّ في حياته “ثقباً كبيراً يمكن أن تعبر فيه شاحنة نقل”.

البداية من هنا سورياليّة، غير منطقيّة في الفهم البشريّ، فهل رأيتم حياة مثقوبة من قبل؟ وهل رأيتم شاحنة تعبر في ثقب الحياة كما تعبر في نفق؟

والأهمّ الأهمّ: ما هو السبب لوجود ثقب في حياة إنسان؟

خاف البطل، ليس من الثقب وحده، بل لأنّ من تتعرّض حياته لهذه الكارثة قد يتطوّر نزولاً، من إنسان إلى حصان أو شجرة أو وحش يكره الناس ويمقت وجودهم. ولم ترد في العِلم كلّه ظاهرة من هذا النوع، أي تحوّل إنسان إلى حيوان أو إلى شيء. تحوّلٌ لم يحدث إلاّ في الأساطير، ويسمّى اصطلاحاً “التحوّل الأسطوريّ”.

هناك عقدة أخرى تبدو في المشاهد الأولى للنصّ: وجود الإبرة… فعلى بساطتها، تكون غير متوافرة له، لأنّ ابن الملك ابتلع إبرة ومات، فمنعت السلطات بيع الإبر. يا الله! هذه الأداة الأرخص ثمناً، والأقلّ قيمة لا وجود لها، ولو كانت المسألة تتعلّق بالخياطة لما كانت خطيرة إلى هذا الحدّ، لكنّها تتعلّق بـ “خياطة حياة” بكاملها. حياة مهدّدة في بيئة عجيبة وغريبة، لعلّها إحدى الجزر النائية التي تسكنها أرواح.

نحن في الأسطر الأولى من الأقصوصة الدويهيّة، وما زلنا نحكّ رؤوسنا، وندخل في قلب المعضلة، فنصبح جزءاً منها، ونشفق على البطل، وربّما نبحث له عن حلّ، ونساعده على الخروج من ورطته، وكم يغيظنا أن تكون حياته مثقوبة، وننظر إلى داخلها، فنرى أنّها مجوّفة كأنّها فتحة بئر!

ويشكر المتكلّم الله، لأنّه وجد امرأة عجوزاً أمام بيتها، فيسألها عن إبرة… ولا شكّ في أنّ العجائز لهنّ باع طويل في الرتق، والتقطيب، وإصلاح الأقمشة الممزّقة. غير أنّ الخيبة تطرق على رأسه مرّة أخرى، فالمرأة – المخلّصة قد أضاعت إبرتها في كومة من القشّ بينما كانت تطعم أغنامها: “لقد كانت عندي إبرة واحدة، أضعتها في كومة من القشّ، بينما كنت أطعم أغنامي.”

وعلى الرغم من صعوبة البحث عن تلك الإبرة، فإنّه كان يأمل في العثور عليها، مهما طال الزمن. أليس ذلك أفضل من أن يعيش حياة “مثقوبة”؟

وعبّرت المرأة عن تلك الصعوبة، كأنّها لا تبالي بما يحدث له من إحباط، بيد أنّها عطفت عليه، ورضيت  بعد تردّد، أن ينبش في كومة القشّ، وإن كان الأمر سيستغرق أعواماً… هنا التخبّط بين الأمل واليأس. وتصوير دراميّ لحالة البطل المرتبكة، وشعوره بأنّه بين نارين: إمّا أن يعيش منكوباً، وإمّا أن يقامر، فيرمي بنرده في الليل، فلعلّه يجد قبساً من ضوء.

“وجدتها”. ليست كلمة صحيحة، ولا تعكس ما سيحدث لاحقاً، لكنّ الانفعال يقود إلى هذيان من هذا النوع. فالذي وجدَه ليس الأداة، بل هو بصيص يلوح في الأفق.

ولماذا تشترط العجوز أن لا يعلم الملك “بما فعلناه”، وأن لا يذكره أمام أصدقائه؟

الملك لا يُسامح في هذه الحال، والإعدام ينتظر كلّ من لديه إبرة. والأصدقاء – ليس كلّهم بالطبع- سيكونون أوّل من ينقل الخبر إلى الملك انتقاماً من صديقهم – العدوّ. هذا على الأقلّ في نظر المرأة المسنّة التي خبرت الحياة، وعرفت كثيراً من الأصدقاء الممثّلين، ومرتدي الأقنعة، وأصحاب المصالح.

استغرق التنقيب في القشّ ستّة أشهر، أي نصف عام، وتكرّرت المحاولة مرّات ومرّات، لكنّ برجَ حظّه بعيد عن النجاة. ولمّا تبيّن أنّ العمليّة كلّها عبث، اقترحت العجوز أن “نمزج بعضاً من القشّ في طين وماء، ونضعه في الثقب”.

هذا هو المخرج الأخير، في أقصوصة سورياليّة حتّى العظم. لا شيء فيها ممكن الحدوث، لكنّها رامزة بعمق، وصورة عن واقع إنسان، أو مجتمع، أو وطن، أو عالم منكوب. ولا خروج من نكبته إلاّ بالسخريّة، والسخرية نفسها دواء مسكّن لا يدوم مفعوله، ولا يشفي مريضاً.

ستّة أشهر مضت من عمره، لعلّها دهر بكامله. وأخيراً  أقفل الثقب بطين وماء (أصل المخلوقات)، وجلس في الشمس أيّاماً لكي يجفّ الطين.

نشفق عليه نحن. نتعاطف معه. نبكي من أجله. يدهشنا وضعه غير الطبيعيّ تحت السماء، وفوق أرض حامية. ومن حوله أناس لهم وجوه وأجساد وحيوات عاديّة ليس فيها ثقب واحد. فتصوّروا معي كم يتألّم هذا الرجل الذي يعيش “حياة غير عاديّة، فارغة في وسطها، ومحشوّة بطين وقشّ كثير”!…

درجات درجات، نصعد مع الحدث الذي يكتبه العبقريّ بخيال غريب، فكأنّه يزور عبقر في الليل، ويشتري من شياطينها أفكاره، فيرميها علينا في النهار، ويدهشنا. فكم طبقة هي أزمته، وكم طابقاً هي بناية معاناته؟

لقد كبر، وصار في السبعين من عمره، وعندما وجد إبرة، كان من المفترض أن تنقشع الرؤية، وينتهي التردّي، ولو بعد فوات الأوان. ويا للخيبة! لقد بدا أنّ الطين الذي سدّ به الثقب هو من نوع لا ينكسر.

وبعد، ماذا يريد منّا هذا الساحر في سورياليّته، العميد في تألّقه، الرائد في قيمة أعماله؟

ببساطة، يريدنا أن نتخدّر، ونسير معه إلى حيث يريد، فنكاد نصرخ: هل أنت أيّها الدويهي تكتب النصّ، أم نحن نكتبه؟

***

*مريم رعيدي الدويهي – مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد