القراءة الثالثة في مجموعة صمت الغابة للأديبة مريم رعيدي الدويهي “صمت الغابة صرخة الدويهي في برّيّة الإنسان”

 

 

 

 كتاب يصدر عن أفكار اغترابية في العام 2024.

 

 

1- النصّ من كتاب “صمت الغابة”

الخائفون

انتشر وباء غريب في القبيلة لم يكن لنا عهد به من قبل. فصار أهلها جميعهم يخافون منّي. أمُرّ بجانبهم فيجفلون، ويبتعدون عنّي في غمضة عين، كما يبتعدون عن وحش مفترس. وإذا كلّمتهم ينظرون يميناً وشمالاً، كأنّ أحداً يراقبهم، ثمّ ينصرفون متمتمين، لاعنين، ولا يلوون على شيء. وأصدقائي جميعهم أصبحوا يرتعبون منّي، ومن وجهي الذي يرونه أكثر الوجوه قباحة، ويطلبون منّي أن أخفيه تحت قناع.

كنت أعود إلى بيتي، وأنظر إلى المرآة، فأجد أنّني لا أشكو من علّة، وعلى الرغم من أنّني لست كثير الوسامة، فإنّني لست قبيحاً إلى الحدّ الذي يجعل النساء والرجال يكرهونني.

انتشر الوباء بسرعة، فلم يعد أحد يطيقني، وانقلبت الدنيا عليّ. استنجدت بالأطبّاء، فقلّبوا شفاههم، وقالوا: لسنا نعلم من أين جاء هذا  المرض الملعون، وكيف تفشّى بهذه السرعة… قد يكون من القرود، أو من صائدي الرؤوس. وسألت المنجمّين فاحتاروا هم أيضاً، وضربوا بالرمل، فظهرت لهم أشكال عجيبة، وعيون كبيرة تثقب الحياة.

ولم أعد أستطيع أن أتحمّل ما حدث لي. وكانت الأسئلة تدور في رأسي: لماذا يخافون منّي وحدي ولا يخافون من بعضهم؟ وهل إذا ذهبت إلى قبيلة أخرى، سيعاملني أهلها مثلما عاملني أهلي وصحبي؟… وماذا سيحدث لي لو أنّ الوباء نفسه أصابني؟

ظللت أمضغ هذه الأسئلة أيّاماً، حتّى وصل الوباء إليّ. وعلى الرغم من بشاعته، قلت في نفسي:

أشكر الله على نعمة المساواة. لقد حدثت فعلاً، وأصبح بإمكاني أن أعاملهم بالمثل، فكلّما التقيت بأحدهم سأولّي الأدبار، مثلما يفعلون هم عندما يلتقون بي… لكنّ ذلك لم يحدث، فظلّ الجميع يهربون من أمامي، كما الغزلان التي تنفر من الصيّادين. فعدت إلى منزلي، ونظرت إلى المرآة مرّة أخرى. وكم كانت صدمتي كبيرة، عندما خفت من نفسي! هرعت إلى الباب، وفتحته بقوّة فانخلع، وركضت إلى الغابة، وأنا أنظر إلى الوراء بذعر. كنت أتوجّس أن  تلاحقني صورتي التي تركتها على المرآة… وكانت ساقاي الهزيلتان تسابقان الريح.

2- قراءة الأديبة مريم رعيدي الدويهي

“قبيلة” خائفة من وبائه

قد نعرف المتكلّم أو نجهله. في الغالب هو إنسان يعاني مشكلة ما في مجتمعه. فالوباء ليس صحيحاً، بل هو تصوير لحالة جماعيّة حدثت في بيئة ما هي “القبيلة”. وهذه الكلمة الأساسيّة في النصّ تعني طائفة من الناس، لهم بطون، يسكنون في بقعة يسمّونها وطناً في العرف، ولهم عصبيّة وتضامن مشترك ضدّ العناصر الخارجيّة.

وإذا نظرنا مليّاً في العبارة “تضامن مشترك ضدّ العناصر الخارجيّة” يمكن الفهم أنّ هناك تعارضاً بين الأكثريّة والأقلّيّة – الفرد، كما كان الأمر عليه في زمن طرفة بن العبد، حيث أفردته قبيلته بكر بن وائل، “إفراد البعير الأجرب”، لخروجه على تقاليد العشيرة، وولعه بـ”ثلاث هنّ من لذّة الفتى”.

وقبيلة المتكلّم في حكاية الدويهي، لا تختلف عن بكر بن وائل، ما عدا أنّ الأسباب تغيّرت بتغيّر العصر، فطرفة بن العبد لم يعاقبه قومه لأنّه كان شاعراً، أو لأنّ قصيدته عُلّقت على أستار الكعبة. أمّا المتكلّم في أقصوصة “الخائفون”، فلا يخبر عن السبب الذي جعل قومه ينفرون منه، فبعضهم يبتعدون عنه كما يبتعدون عن وحش مفترس، ويحترسون من المراقبة، حتّى أنّ أصدقاءه باتوا يرتعبون من وجهه الذي هو أكثر الوجوه قباحة.

مشكلة انفصام يشكو منها البطل. فيمضي إلى بيته لينظر في المرآة ويتأكّد من أنّ هيئته ليست مرعبة. فما هو السرّ يا ترى في ابتعاد الناس عنه؟ ولماذا يطلبون منه أن يخبّئ وجهه تحت قناع، إذا كانوا هم يخفون وجوههم تحت أقنعة؟ ومن نصدّق نحن؟ ومن هو الذي يخاف ممّن؟ وما هي الهواجس التي تصيب المرء إذا وجد أنّ الاقتراب منه وباء خطير؟

أسقط في يد المسكين، وراح يشكو أمره إلى الأطبّاء: “انتشر الوباء بسرعة، فلم يعد أحد يطيقني، وانقلبت الدنيا عليّ. استنجدت بالأطبّاء، فقلّبوا شفاههم، وقالوا: لسنا نعلم من أين جاء هذا  المرض الملعون، وكيف تفشّى بهذه السرعة… قد يكون من القرود، أو من صائدي الرؤوس. وسألت المنجمّين فاحتاروا هم أيضاً، وضربوا بالرمل، فظهرت لهم أشكال عجيبة، وعيون كبيرة تثقب الحياة”.

العناصر المتتالية التي تفرض نفسها على المتلقّي في هذا المقطع، هي: الوباء، الأطبّاء، القرود، صائدو الرؤوس، المنجّمون، الأشكال العجيبة، وعيون تثقب الحياة.

لكلّ لفظة من هذه الألفاظ المفاتيح دور، فالوباء هو جوهر المشكلة، والأطبّاء هم المنقذون المفترضون، والقرود هم فئة البشر الذين يحتقرون بشراً آخرين بغضّ النظر عن العوامل الكامنة وراء فعل الاحتقار، وصائدو الرؤوس هم الذين ينقضّون عليه في كلّ مناسبة لتصيّده، والمنجّمون هم الملاذ الأخير بعد الأطبّاء… واللجوء إليهم يكون عادة بعد يأس من قدرة الطبّ على تحقيق الشفاء، والأشكال العجيبة هي ما يظهر للمنجّمين من مخلوقات وحشيّة رهيبة، والعيون الكبيرة التي تثقب الحياة هي تلك التي ثقبت حياته فعلاً، ليس بفعل خرافيّ، بل بطرق عملانيّة، مدروسة، متسلسلة، ومتعوب عليها في المختبرات – الأقبية.

وصل البطل إلى ذروة الحيرة، فإذا كان الوباء قد انتشر فعلاً، فهذا يعني أنّ كلّ واحد يخاف من الآخر، وليس معناه أن يخاف كلّ أبناء القبيلة من فرد واحد فقط. ولذلك سأل نفسه: “هل إذا ذهبت إلى قبيلة أخرى، سيعاملني أهلها مثلما عاملني أهلي وصحبي؟… وماذا سيحدث لي لو أنّ الوباء نفسه أصابني؟”

يمكن إدراج هذه الأسئلة تحت عنوان “التجريب والاختبار”، خصوصاً أنّ الوباء الذي أصاب الأكثريّة لم يصبه هو، إلاّ بعد أيّام، فصار ممكناً أن يجرّب كلّ وسيلة ممكنة للخروج من حال إلى حال. وكان عليه أن يعاملهم بالمثل. أفليست المساواة بأيّ ثمن هي ما يريدونه؟ إذن فليهرب منهم كلّما التقى بأحدهم… لكنّ الغريب أنّ ذلك لم يحدث، فظلّوا يبتعدون عنه، وهو لا يبتعد عنهم، حتّى نظر في المرآة مرّة أخرى، فخاف وهرب من نفسه.

فكرة طريفة، بيد أنّها مريرة… وقد تحدث لكثير من المنبوذين في المجتمعات، وهم نوعان: نوع منبوذ لأنّه ارتكب الشرور، ونوع منبوذ لأنّه صنع الخير لأعداء الخير، والمتربّصين بكلّ جميل.

ها هو الآن، يفرّ من صورة وجهه في المرآة، ويفتح الباب بقوّة فيخلعه، راكضاً إلى الغابة، حيث لا بشر يعرفونه، ولا وباء يلاحقه، ولا مَن يخشون رؤيته والحديث معه، أو أخذ صورة إلى جانبه. فالقانون في الغابة لا يطبّق على البشر، وقانون غابة البشر قاسٍ، يفرضه آلهة الأرض الذين عيونهم من زجاج، وقلوبهم من عتمة الهيكل.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابية” للأدب الراقي

النهضة الاغترابية الثانية

اترك رد