الأديبة مريم رعيدي الدويهي تدرس الأقصوصة الثانية للأديب د. جميل الدويهي “سائق القطار”، من مجموعة “صمت الغابة”

 

 

1- النصّ: سائق القطار

كان يجلس على مقعد في الحديقة العامّة، ويغطّي ساقيه بقماش سميك، ناظراً إلى شجرة باسقة تعلو فوقه، فتكاد تحجب نور الشمس… شجرة عالية جدّاً، لو أراد أن يبلغها لاحتاج إلى مركبة فضائيّة، أو هكذا يتصوّر.

لم يكن مهتمّاً كثيراً بصبية يلعبون في الحديقة، وتتعالى أصواتهم، وهم يتركون الأراجيح الفارغة تعلو وتهبط، فيُسمع لها صرير مزعج، بينما يتراكضون بسرعة، وتسبقهم ضحكاتهم إلى البعيد.

تنهّد من أعماق روحه، ونظر مرّة أخرى إلى فوق. هذه المسافة بين الأرض والسماء يمكن اختصارها بالاكتشاف، الصعود، التفوّق، والوصول إلى كوكب جديد، يرتفع به عن التراب الذي التصق به منذ ولادته.

وبينما هو في هواجسه، اقترب منه رجل هزيل، يرتدي ثياباً ملطّخة بسواد، ووجهه أصفر كالح. كان يحمل كيساً في يده تفوح منه رائحة طعام اشتراه للتوّ من مطعم صغير في الجوار…

قال الرجل: هل تسمح لي بالجلوس على هذا المقعد؟

-نعم… نعم… هذا مقعد عامّ، وليس ملكاً لي وحدي… تفضّل… تفضّل…

-شكراً جزيلاً…

وبينما كان الرجل يفتح الكيس لتناول طعامه، تمتم بكلمات قليلة: يا له من يوم متعب! هل تحبّ أن تأكل معي؟

-كلاّ… أقدّر هذا اللطف منك… بصحّة وعافية إن شاء الله… يبدو… يبدو أنّك عائد من العمل…

-أجل… عمل صعب. أشتغل في الأسكلة… محطّة القطار… لا شكّ في أنّك من السكّان المحلّيّين وتعرفها.

-أعرفها بالتأكيد. ولديّ شغف بالقطارات… آه كم أعشق الجسور ودخان العربات القديمة، وهدير المحرّكات!… لا أدري إذا كان جميع البشر مثلي… هناك أشياء مزعجة في نظر الآخرين، لكنّها تروق لي…

-لا… ليست مزعجة… في العالم كلّه أناس يحبّون نشيج القطارات، والمحطّات الرماديّة، ويلتقطون صوراً للجسور والأعمدة، والصفيح الصدئ… كما يسحرهم وجود عاشقَين تحت مظلة على الرصيف… كلّ تلك مشاهد رائعة وموحية…

-لن تصدّق إذا قلت لك، إنّني اشتغلت سائقاً للقطار، لمدّة ثلاث سنوات… هي الأجمل في حياتي. شعور رائع أن تقود الناس إلى أماكن عملهم، وعندما يترجّلون من العربات، تعتقد أنّهم يترجّلون منك، فالقطار وأنت واحد لا يتجزّأ.

بعد أن توقّف برهة عن الكلام، أردف بكثير من الحماس:

ذات مرّة خرج القطار الذي كنت أقوده عن السكّة، وانقلبت العربات… ألم تقرأ في الصحف عن تلك الحادثة؟ لم يمرّ عليها وقت طويل!

-لم أسمع بأيّ حادثة جرت من هذا النوع، ولم أقرأ في الصحف عنها… هل مات أحد؟

-كلاّ… لم يمت أحد… كنت بارعاً في السيطرة على الموقف… عندما شعرت بالخطر الداهم، خفّفت السرعة، وضغطت على المكابح… جُرحت امرأتان في الحادث، وبعد أيّام قليلة خرجتا من المستشفى… وشكرت ربّي لأنّني لم أكن مسؤولاً عن وفاة أحد… من الصعب على أيّ سائق أن يكون مذنباً… سيلاحقه عذاب الضمير طوال حياته… كما في مسرحيّة “قطار منتصف الليل”… ألم تشاهدها؟

-كلاّ. لم أشاهدها… لم أشاهد مسرحيّة في حياتي سوى على شاشة التلفاز…

في تلك اللحظة، ظهرت في الحديقة امرأة ذات شعر أبيض، وبنية ضعيفة، وهي تدفع أمامها بعربة. وما إن اقتربت، حتّى ساد المشهد ارتباك… قالت المرأة وهي ترنو إلى الرجل الذي يلتهم طعامه:

أعتذر منك، إذا كان ابني هذا قد تكلّم كثيراً… فكلّما التقى بأحد يحدّثه عن ولعه بالقطارات، ويروي تصّوراته الطفوليّة بشأنها… لقد أصيب بالشلل في ساقيه منذ كان صغيراً. وهو يشتهي أن تكون له القدرة على الصعود إلى قطار…

ظلّ الوجوم سائداً على تلك اللحظات الثقيلة، فأردفت المرأة:

رجاء… رجاء… هل تساعدني يا سيّدي لأضعه على العربة؟ لقد حان الوقت لأعود به إلى المنزل.

بينما كانت السيّدة تدفع بالعربة في الحديقة، كانت الشمس تغيب وراء غيمة داكنة. طفق ابنها صامتاً، يراقب نافورة تبعث بمائها إلى الفضاء، وتتراقص بعذوبة… لا تختلف قطرات الماء التي تتلاشى في الهواء عن أيّامه التي تتبدّد بسرعة، كأنّها تتزحلق على الحديد… فلا يبقى منها سوى حشرجة روح، وبرق خلّب يومض على حجارة باردة ومبلّلة بمطر الخريف.

2- دراسة الأديبة مريم رعيدي الدويهي:

أودّ أن ألفت أوّلاً إلى أنّ الراعي النقديّ الأكبر لأدبنا المهجريّ د. جوزاف ياغي الجميّل، قد سبقني إلى قراءة هذا النصّ وتحليله، برؤية الناقد الفذّ. فألف شكر له، وتقدير لدوره الرياديّ في مواكبة النهضة الاغترابيّة الثانية التي نعمل معاً من أجل إغنائها. وسنضيف قراءة الدكتور الجميّل إلى كتابي، لأهمّيّتها، وقيمتها النقديّة العالية.

“سائق القطار” هو النصّ الأوّل في مجموعة الدويهي القصصيّة “صمت الغابة”، يحمل سمات محلّيّة، وينطوي على تحليل نفسيّ عميق لشخصيّة رجل مُقعد، يغطّي ساقيه بقماش سميك، ويؤلّف قصصاً من نسج خياله، فيظنّ السامع، ونظنّ نحن أيضاً، أنّها حقيقة، لأنّ الكاتب لا يوحي لنا بأنّ المتكلّم ذو عاهة، إلاّ في النهاية، أي عندما تأتي المرأة – الأمّ لتأخذه من الحديقة.

هذه الأقصوصة تنطلق من متلازمة نفسيّة تدعى “تزوير الحقيقة إلى حين تحقيقها” Fake it till you make it. يقول الدكتور كليفورد لازاروس عنها:

إنّها ظاهرة، تتوجّه عادة نحو سلوك أو نمط سلوك معيّن ينخرط فيه الأشخاص، وهؤلاء  لا تتحقّق مصالحهم الفضلى بشكل عام، ويمكن وصفهم بأنّهم غير قادرين على التكيّف مع الواقع. لذلك غالبًا ما يُقدمون على “تزييف” أفعال محدّدة يرغبون في الشعور بأنّها حقيقيّة في النهاية، وبالتالي يختبرون فعليًا المشاعر الإيجابيّة التي تشكّل جزءًا من “الفعل”.

إذن، هذا هو الهيكل العامّ للأقصوصة الدويهيّة التي تكشف عن ثقافة صاحبها، وعمق تفكيره، وملامسته للواقع البشريّ. وهو يوظّف شخصيّات قليلة، واحدة أساسيّة (البطل)، والشخصيّات الأخرى رديفة (أولاد يلعبون على الأراجيح، رجل يأكل على المَقعد، والمرأة التي تأخذ المُقعد على عربة إلى البيت)، ولا دور لتلك الشخصيّات الرديفة إلاّ مساعدة الكاتب في الكشف عن مخابئ الحبكة، ومجريات السرد المدهش. لكنّ ما يؤكّد قدرة الأديب على الدخول إلى أسرار النفس، هو حديث الرجل المقعد الذي يدور حول محوَرين:

1- الخروج من حالته التي يعتبرها التصاقاً بالتراب إلى فوق،  وتُمثّل الأشجار جزءاً من هذه الرغبة، فـ “لو أراد أن يبلغها لاحتاج إلى مركبة فضائيّة، أو هكذا يتصوّر”. كما أنّ القطار نفسه رمز مهمّ، لأنّه من جهة يعبّر عن شغف البطل بـ”المغادرة” من واقع إلى واقع مختلف، ومن جهة ثانية، هو موضوع قابل لتأليف قصص مختلقة، ترضي ميلاً طفوليّاً إلى تحقيق شيء لم يستطع البطل تحقيقه في عمره الطويل. والجسور هي الحدّ ما بين زمانين، الأمس وما فيه من إحباط وخيبة، والغد وما فيه من فرح.

2- المبالغة في السرد، وهي وضع مألوف لدى الكثيرين ممّن يواجهون مثل هذا الموقف. ولو سألنا طبيباً نفسيّاً عن هذه الحالة، لأكّد لنا أنّها تحدث، حتّى لدى الناس العاديّين الذين لم ينجحوا في حياتهم، لظروف قاهرة، فيلجأون إلى تخيّل روايات تعوّض عن النقص الذي يشعرون به، مقارنة مع مَن نجحوا وتفوّقوا، وتركوا آثاراً باهرة.

واللافت في القصّة الدويهية، تصاعد الحدث من الجذع إلى الرأس، كما تتصاعد الشجرة، فالرواية تبدأ بعشق الجسور والعربات القديمة وهدير المحرّكات. ثمّ تتطوّر إلى : “لن تصدّق إذا قلت لك، إنّني اشتغلت سائقاً للقطار، لمدّة ثلاث سنوات… هي الأجمل في حياتي. شعور رائع أن تقود الناس إلى أماكن عملهم، وعندما يترجّلون من العربات، تعتقد أنّهم يترجّلون منك، فالقطار وأنت واحد لا يتجزّأ”.

هذه المشهديّة التي يرسمها المتكلّم، هي انعكاس لروحيّة متوتّرة، ثائرة، تتمنّى تحطيم القشور، والخروج من شرنقة الجمود إلى الفعل في الوجود. فهل اشتغل المُقعد كسائق قطار؟ وهل كان بارعاً في السيطرة على الموقف عندما وقع حادث ذات مرّة، فانقلبت العربات، وكان هو البطل المنقذ الذي تحكّم بالسرعة، وضغط على المكابح، فلم يصب أحد بأذى سوى امرأتين جرحتا ثمّ خرجتا بعد أيام قليلة من المستشفى؟ وهل علينا أن نقتنع بأنّ هذا السائق السوبرمان نجا من عذاب الضمير الذي كان سيلاحقه طوال حياته، لو أنّ أحداً من الركّاب قد مات؟ وهل يصدّق هو نفسه عندما يسأل الآخرَ عن مسرحيّة بعنوان “قطار منتصف الليل”؟

ترّهات وأحاديث خرافة، يجترحها من أعماق إحساسه بالألم. وقد أبدع الأديب الجميل في رصد ذلك الأحساس، ليس من خلال التوصف العاديّ للمُتلازمة Syndrome، بل من خلال حكاية دمج فيها بين قراءة المشاعر وترجمتها بلغة حيّة، وبين منحى سرديّ يقوم على ركائز القصّة القصيرة وتقنيّاتها، ولعلّ أهمّها في هذا النصّ هو عنصر المفاجأة الذي يتركنا نحن، نحلّل أيضاً، ونكتشف، ونسأل أنفسنا بعض الأسئلة الصعبة في مواجهة المشهد. ومعروف عن الدويهي، في لغته الروائيّة، سواء في القصّة القصيرة أو في النوفيلا، أنّه يتجنّب اللغة التي تقول ولا تقول، فهو من المنظّرين بالقصّة الصحيحة التي تخبر شيئاً للمتلقّي، ولا تكون كلاماً شعريّاً غير مفيد للسياق. وكثراً ما يخبرني عن قصص قرأها، كأنّها شعر منثور، يغطّي المؤلّفون فيها تقصيرهم عن صناعة الحدث، بغطاء من التعابير الإنشائيّة الطويلة التي تخرج عن المسار القصصيّ المفترض. والغريب في نظره، أنّ هؤلاء لديهم كثير من المناصرين والمدّاحين، فبعض أصحاب الرأي – كما يقول- يعتمدون على القراءة الغائبة، وما يسمعونه من الناس عن فلان وفلان، وكذلك يحكمون على  أسماء متداوَلة كثيراً، من غير أن يعرفوا ماذا كتب أصحابها.

ويخدَع الدويهي المتلقّي، عندما يجعله يقتنع بأنّ المتكلّم قد عمل سائقاً للقطار، وأنّ ما يخبره لا غبار عليه، ولا دخان أسود، حتّى تظهر المرأة التي تدفع بالعربة، فتعتذر من الرجل الآخر، وتقول: “أعتذر منك، إذا كان ابني هذا قد تكلّم كثيراً… فكلّما التقى بأحد يحدّثه عن ولعه بالقطارات، ويروي تصّوراته الطفوليّة بشأنها… لقد أصيب بالشلل في ساقيه منذ كان صغيراً. وهو يشتهي أن تكون له القدرة على الصعود إلى قطار”…

هذا المقطع وحده بيت القصيد، وقمّة الشجرة، بل القُطبة المخفيّة التي لم يظهرها الأديب إلاّ في اللحظة المناسبة، كأنّه يمضي في حيلته على المتلقّي، وهي حيلة فنّيّة من مستلزمات العمل الأدبيّ. وكان من الطبيعيّ أن يسود وُجوم في تلك اللحظة، فالابنُ تعرّض للإهانة بعدما فضحته والدته، والرجل الآخر كان مندهشاً لأنّ الكذبة انطلت عليه، وكان يستمع إليها بكلّ جوارحه، فيسأل ويحاور، ويشارك فيها.

ويتابع الدويهي الرسم بالكلمات حتّى آخر قطرة حبر، فبينما كانت المرأة تدفع بالعربة، كان ابنها صامتاً. ويبدو لنا أنّ المرأة ليست صبيّة، بل كبيرة في السنّ، وقد أخذت على عاتقها خدمة ابنها، فيما هو يعاني، ويتمنّى، وتتلاشى أيّامه في الهواء، وتحترق ثوانيه بزفرات الأسى.

مؤثّرة جدّاً هذه القصّة. وقد تكون حدثت أو لم تحدث، غير أنّها ممكنة في حياة الكثيرين منّا، ممّن ساقتهم الأقدار إلى حيث لا يرغبون. ومَن أجدر من الشاعر والأديب المتمكّن في ترصّد هذه الحالات الإنسانيّة، وصياغتها بقلم من نار ونور؟!

***

*الأديبة مريم رعيدي الدويهي: مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي  النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

اترك رد