رُؤَى التَّحَوُّلاتِ على مِبْضَعِ شاعِرَة

 

 

   مُورِيس وَدِيع النَجَّار

 

(قِراءَةٌ في كِتابِ «رُؤَى التَّحَوُّلاتِ: قِراءَةٌ في شِعرِيَّةِ الوَطَنِ

لَدَى الشَّاعِرِ القَرَوِيِّ وخَلِيل حاوِي ومُحَمَّد الماغُوط»، لِلشَّاعِرَةِ والنَّاقِدَةِ دُورِين نَصْر)

 

مُفتَتَح

في مُتَناوَلِنا، اليَومَ، إِصدارٌ سَمِينٌ ثَمِينٌ لِلشَّاعِرَةِ دُورِين نَصْر، يُلَطِّفُ شَيئًا مِن جَفافِ أَجوائِنا الثَّقافِيَّةِ في هذا الزَّمَنِ الأَجوَفِ المَهزُول.

«رُؤَى التَّحَوُّلاتِ: قِراءَةٌ في شِعرِيَّةِ الوَطَنِ لَدَى الشَّاعِرِ القَرَوِيِّ وخَلِيل حاوِي ومُحَمَّد الماغُوط».

حَدَّدَتِ الكاتِبَةُ هَدَفًا رَئِيسًا لِدِراسَتِها: «ارتَأَت هذهِ الدِّراسَةُ تَتَبُّعَ صُورَةِ الوَطَنِ في التَّجرِبَةِ الشِّعرِيَّةِ اللُّبنانِيَّةِ – السُّورِيَّةِ مِن خِلالِ هَؤُلاءِ الشُّعَراء» (ص 17).

على أَنَّها خَصَّصَت ما يُوازِي رُبْعَ الكِتابِ، حَجْمًا، لِدِراسَةٍ أُفُقِيَّةٍ غَيرِ ضامِرَةٍ عَن الشِّعرِ وأَنواعِهِ (عَمُودِيٍّ، حُرٍّ، نَثْرٍ)، فِيها إِغناءٌ لِلمَعرِفَةِ، فَكانَت خَيرَ مُستَهَلٍّ لِتَناوُلِ أَبطالِ الدِّراسَةِ الَّذِينَ تَوَزَّعَ نَشاطُهُمُ الشِّعرِيُّ على أَلوانِ الشِّعرِ كافَّة. إِنَّها الخِطَّةُ الأَكادِيمِيَّةُ، رَسَمَتها المُؤَلِّفَةُ فَأَصابَت الصَّمِيمَ وحازَت قَصَبَ السَّبْقِ في مَعرَكَتِها.

وهي جَمَعَت، في عُنوانِ سِفرِها، بَينَ الشِّعرِ الوَطَنِيِّ والتَّحَوُّلات.

لا غَرْوَ في الأَمرِ فَالشَّاعِرُ مُحَرِّكٌ في القَومِ لا يُستَهانُ بِهِ، وقد لا تَبدُو نافِرَةً آثارُ شِعرِهِ في القَومُ في آنِها، ولكِنَّها هُناكَ في صَمِيمِ الحِسِّ الجَمْعِيِّ، هذا إِذا كانَ الشِّعرُ مِمَّا يُلامِسُ القُلُوبَ ويَحفُرُ في الضَّمائِر.

رُؤَى التَّحَوُّلاتِ تَعنِي استِشرافًا لِآتٍ بَدَت بَعضُ مَلامِحِهِ في إِرهاصاتٍ ناتِئَةٍ مِن حاضِرٍ مُتَخَبِّطٍ في مَشاكِلَ مُتَداخِلَة. وقالَها يَومًا المُفَكِّرُ الكَبِيرُ لايبنِتز (Leibniz): «فِي الحاضِرِ يَتَشابَكُ الماضِي بِالمُستَقبَل».

وهذه الرُّؤَى لا تَتَيَسَّرُ إِلَّا لِمَن أُوتِيَ بَصِيرَةً نَيِّرَةً تَقرَأُ الماضِي بِكُلِّ مَفاصِلِهِ وعَبْرَ تَشَعُّباتِهِ الكَثِيرَةِ، فَتَستَنُّ مِن أَحداثِهِ ونَتائِجِها مَنهَجًا تُسقِطُهُ على الواقِعِ القائِمِ، وتَقطِفُ العِبَرَ الغَوالِي. وهذه المَواهِبُ القِرائِيَّةُ الرُّؤْيَوِيَّةُ تَجَلَّت في الشُّعَراءِ الثَّلاثَةِ الَّذِين تَناوَلَتهُم كاتِبَتُنا بِمَبحَثِها، كُلٌّ بِقَدْر.

فَهَل صَحَّ في رُؤَى مَن انتَقَتهُم لِدِراسَتِها بَعضُ ما تَمَخَّضَ عَنهُ الآتِي في دِيارِنا، ورُبَّما بَعدَ أَن طَواهُمُ الرَّحِيل؟!

وإِمَّا صَحَّ بَعضُ ما استَشرَفُوهُ، فَهَل كانَتِ الشِّعرِيَّةُ في التَّعبِيرِ وافِيَةً، أَم سَفَّ البَيانُ فَهَبَطَ إِلى مُستَوَى النَّظْمِ البَلِيد؟!

مَن يَقرَأُ الكِتابَ، ويَتَمَعَّنُ في النَّماذِجِ الَّتِي أَورَدَتها الكاتِبَةُ، يُدرِكُ أَنَّ هُؤُلاءِ الأَفذاذَ حَلَّقُوا إِلى الذُّرَى، وأَنَّ شاعِرَتَنا لَم تُقَصِّرْ في كَشْفِ جَوانِبِ بَلاغِهِم، فَإِذا النِّقاطُ على الحُرُوفِ تُؤَكِّدُ بِالبَيِّنَةِ أَنَّها ابنَةُ بَجْدَتِها، وأَنَّها فارِسَةُ قَلَمٍ ما نَبا حُسامُها، ولا كَبا جَوادُها، ولا أَعاقَتها عَقَبات.

ويَدُورُ في البالِ تَساؤُل…

هذه الوَطَنِيَّاتُ الهادِفَةُ اللَّاهِبَةُ الَّتِي أَطلَقَها هَؤُلاءِ الشُّعَراءُ، مع رُؤَاهُمُ المَصحُوبَةِ بِالتَّنوِيرِ، تُراها أَتَت أُكْلَها في شُعُوبٍ وَعْيُها السِّياسِيُّ يَشكُو نَقصًا كَثِيرًا، فهي سائِرَةٌ مُسَيَّرَةٌ في رِكابِ قادَةٍ لا يَرَونَ إِلَّا مَصالِحَهُم الخاصَّةَ، وَ «يَأمُرُونَ بِغَيرِ صالِحِ أُمَّتِهِم»(1)، ويَتَكالَبُونَ على جَمْعِ المَنافِعِ، ورَعاياهُم يَتَناطَحُونَ في سَبِيلِهِم عُمْيًا لا يُبصِرُونَ، فَإِذا: «المكارِيّة عَمْ يِتسابَقُوا والحَمِير عَمْ تاكُلْ العُصِي»؟!

أَم تُراها، نِداآتُهُم، قَد صَحَّ فِيها المَثَلُ «ما حَدا سائِل عَن كُحلتِكْ يا عَمّتِي»؟!

ولكِنْ أَنَّى لِلفِكرِ والشِّعرِ أَن يَفعَلا والقَومُ هُمُ الَّذِينَ يُنَصِّبُونَ الطَّواغِيتَ، ويَتَفانَونَ في الدِّفاعِ عَن كَراسِيهِمِ المُذَهَّبَة. أَلَا رَحمَةُ اللهِ على شاعِرِ القُطرَينِ إِذ قال:

ما كانَ كِسْرَى إِذْ طَغَى في قَومِهِ        إِلَّا لِما خَلَقُوا بِهِ فَعَّالا

هُم حَكَّمُوهُ فَاستَبَدَّ تَحَكُّمًا                وَهُمُ أَرادُوا أَنْ يَصُولَ فَصالا

«يُحَكِّمُوهُ»… ومِن ثَمَّ «يَقلِبُ الاستِبدادُ الحَقائِقَ في الأَذهانِ، فَيَسُوقُ النَّاسَ إِلى اعتِقادِ أَنَّ طالِبَ الحَقِّ فاجِرٌ، وتارِكَ حَقِّهِ مُطِيعٌ، والمُشتَكِي المُتَظَلِّمَ مُفسِدٌ، والنَّبِيهَ المُدَقِّقَ مُلحِدٌ، والخامِلَ المِسكِينَ صالِحٌ»، كَما جاءَ في «طَبائِعُ الاستِبدادِ ومَصارِعُ الاستِعباد» لِعَبد الرَّحمن الكَواكِبِيّ.

ظَنُّنَا أَنَّها تَرَكَت أَثَرًا في النُّفُوسِ، وبَثَّت إِرشادًا إِلى التّشَوُّهاتِ، وأَثارَت حَمِيَّةً، وإِن كان ذلك خافِيًا في مَكامِنِ السَّرائِرِ وطَوايا الجَماعات…

سُئِلَ يَومًا المَلِكُ البرُوسِيُّ الكَبِيرُ فردرِيك: أَيَّ مُلُوكِ أُورُوبَّا تَخشَى؟ فَأَجاب: «المَلِكُ فُولتِير». وكانَ فَولتِير قد واجَهَهُ يَومًا بِقَولِه: «لَكَ صَولَجَانٌ، وَلَكِنَّ لِي قَلَمًا»…

وفُولتِير هو مَن هو في عالَمِ الشِّعرِ والفِكرِ والفَلسَفَة. فَلا نَستَهِينَنَّ بِما دَبَّجَ الخالدِونَ مِن مُبدِعِينا، فَهُوَ أَنصَعُ صَفحاتِنا وأَبقاها.

في مُعتَرَكِ هذا الكِتابِ النَّقدِيِّ المَضمُونِ، الجَمالِيِّ البُرْدَةِ، ثَلاثَةُ أَقطابٍ مَرُّوا وتَرَكُوا بَصَماتِهِم، ناصِعَةً، على جِدارِ التَّارِيخ. وهُم، في مُؤَلَّفِ الشَّاعِرَةِ، على مِشرَحَتِها، تَحتَ مِنظارِها، وبِعِنايَةِ مِبضَعِها البَرِيع.

يَقُولُ الأَدِيبُ أَنطُون قازان: «الشِّعْرُ، في قِسْطٍ كَبِيرٍ مِن جَوهَرِهِ، مُتعَةٌ، إِذ إِنَّهُ فَنٌّ بِكُلِّ ما في الكَلِمَةِ مِن تَرَفٍ وَلَذَّة».

في مِعيارِ هذا الأَدِيبِ يَمُرُّ شُعَراؤُنا الثَّلاثَةُ مَرفُوعِي الهاماتِ، فَما مِن قارِئٍ لَبِيبٍ إِلَّا ويَقطِفُ مِن رِياضِهِم – أَنَّى كانَ جَوَلانُهُ فِيها – مُتعَةً وافِيَةً، ولَذَّةً صافِيَة.

إِلَى كَوائِرِ هَؤُلاءِ أَتَت أَدِيبَتُنا دُورِين مُتَدَرِّعَةً بِعُدَّةٍ نَقدِيَّةٍ مُحكَمَةٍ مُوَطَّدَةٍ بِحِسٍّ شاعِرِيٍّ مُرهَفٍ، ولاقِطَةٍ أَدَبِيَّةٍ على مُكنَةٍ تَحَسُّسِيَّةٍ عالِيَة.

وفي مُحاوَلَتِها المُبارَكَةِ، أَثبَتَت أَنَّها تَرصُدُ عُصُورَ أَبطالِها بِحُنكَةٍ، وتَضَعُ كلَّ قَولٍ في مَظِنَّتِهِ الصَّحِيحَةِ، بِدُرْبَةٍ مَشهُودَةٍ، وتَذَوُّقٍ يِنُمُّ عَن رُوحِها الشَّاعِرَةِ الرَّقِيقَة. ناهِيكَ بِوَفرَةِ المَراجِعِ الَّتِي استَندَت إِلَيها، ما يَدُلُّ على مَدَى ثَقافَتِها، وحِرصِها على أَن لا يَظهَرَ في نَسِيجِها خَرْقٌ يُعِيب.

لقد كانَت مِنطَقَتُنا، وشُعُوبُها الضَّائِعَةُ الحائِرَةُ تُنَقِّبُ عَن مَناجِمِ الحَقِيقَةِ الجِيُو ـــــ سِياسِيَّةِ، بَينَ تَيَّاراتٍ مُتَصارِعَةٍ، مِن قَومِيَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، إِلى سُورِيَّةٍ قَومِيَّةٍ اجتِماعِيَّةٍ تَشتَمِلُ دُوَلًا مِنَ المُحِيطِ، إِلى شُيُوعِيَّةٍ أُمَمِيَّةٍ شامِلَةٍ، إِلى دَعوَةٍ إِلى وَحدَةٍ إِسلامِيَّةٍ، إِلى تَشَبُّثٍ بِقَومِيَّاتٍ عِرقِيَّةٍ إِثنِيَّةٍ في بَعضِ دُوَلِنا ومُجتَمَعاتِها.

وتَمُرُّ العُقُودُ الطِّوالُ على دِيارِ العَرَبِ، تَتَوالَى السِّجالاتُ، تَضطَرِمُ الصِّراعاتُ، تَكثُرُ الانقِلاباتُ، تُزهِرُ القَوافِي، ويَتَدَهدَى التَّقَهقُرُ سَعِيدًا وَ ﴿إِلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُور﴾(2)… في هذا الشَّرقِ المَقهُور!

في هذه البِيئَاتِ المُستَعِرَةِ كَتَبَ شُعَراؤُنا، فَنَزَّت مِن أَقلامِهِم رَوائِحُ الثَّورَةِ، والخَيبَةِ، والخِذلانِ، في تَدوِينٍ تَوَزَّعَ بَينَ خَطابِيَّةٍ بَيِّنَةٍ، ورَمزِيَّةٍ بِكِساءِ الأُسطُورَةِ، وسُخرِيَّةٍ سَوداءَ في ابتِساماتِها دُمُوعٌ ودِماء.

وَبَعدَ الدِّيباجَةِ فَلنَرُدْ كُلًّا على حِدَة…

 

الشَّاعِرُ القَرَوِيّ (1887 – 1984)

هو قُطبٌ في الشِّعرِ العَمُودِيِّ الكلاسِيكِيِّ، أَوجَزَت كاتِبَتُنا الخَصائِصَ الوَطَنِيَّةَ في شِعرِهِ بِالعناوِين: «الثَّورَةُ على الاستِعمارِ، والمُطالَبَةُ بِالاستِقلالِ واعتِمادُ القُوَّةِ وَسِيلَةً لِلتَّحَرُّرِ، والقَومِيَّةُ بِاعتِبارِها رِسالَةً إِنسانِيَّةً سامِيَة» (ص 179). وقد وَفَّت هذه المَوضُوعاتِ حَقَّها بِالشَّرحِ المُستَفِيضِ مُرفَدًا بِالشَّواهِدِ المُنتَقاةِ بِدُربَةٍ عالِيَة.

كَتَبَ القَرَوِيُّ على عَمُودِ الخَلِيلِ، وتَنَوَّعَتِ الأَوزانُ والبُحُورُ في شِعرِهِ، وأَجادَ انتِقاءَ الأَلفاظِ الَّتِي تَخدُمُ المَعنَى. والوَزنُ عِندَهُ «لَيسَ مُجَرَّدَ زِينَةٍ تُضافُ إِلى النَّصِّ الشِّعرِيِّ مِنَ الخارِجِ، وإِنَّما هو عُنصُرٌ داخِلِيٌّ يَلتَحِمُ ويَنصَهِرُ مع العَناصِرِ الشِّعرِيَّةِ الأُخرَى، فَيَكُونُ الغَرَضُ مِنهُ تَكثِيفُ الدَّلالات» (ص 136).

جاءَ في الكِتابِ: «ولِلمُوسِيقَى أَهَمِّيَّةٌ في نَقلِ القِيمَةِ التَّعبِيرِيَّةِ والتَّصوِيرِيَّةِ إِلى المُتَلَقِّي، واللُّغَةُ الشِّعرِيَّةُ مِن دُونِ مُوسِيقَى تَظَلُّ دائِرَةً على مِحوَرٍ ثابِت. ولَيسَت مُبالَغَةً القَولُ إِنَّ الوَزنَ هو الرُّوحُ الَّتِي تُنعِشُ المادَّةَ الأَدَبِيَّةَ وتُصَيِّرُها شِعرًا، فَلا شِعرَ مِن دُونِهِ مَهما حَشَدَ الشَّاعِرُ مِن صُوَرٍ وعَواطِفَ، لا بَل، إِنَّ الصُّوَرَ والعَواطِفَ لا تُصبِحُ شِعرِيَّةً بِالمَعنَى الحَقِّ إِلَّا إِذا لَمَسَتها أَصابِعُ المُوسِيقَى ونَبَضَ في عُرُوقِها الوَزْن» (ص 137).

وهذا ما تَوَفَّرَ في شِعرِ القَرَوِيِّ، في لَبُوسٍ فاخِرٍ، وأُبَّهَةِ مُلُوك.

أَجَّجَتِ الغُربَةُ، والحَنِينُ إِلى الوَطَنِ، شُعُورَ القَرَوِيِّ، فَفاضَت قَرِيحَتُهُ شِعرًا وَطَنِيًّا صافِيًا، صَبَغَهُ الحُزنُ والثَّورَةُ والتَّمَرُّد. وكانَ في مَهجَرِهِ صَوتًا مُدَوِّيًا يَدُلُّ على فاعِلِيَّتِهِ لُجُوءُ الانتِدابِ الفَرَنسِيِّ إِلى حِرمانِهِ مِنَ الجِنسِيَّةِ اللُّبنانِيَّةِ – السُّورِيَّةِ، ومِن حَقِّهِ الشَّرعيِّ في الرُّجُوعِ إِلى وَطَنِه.

وَكَم نادَى مِن غُربَتِهِ وصاحَ، فَكانَ مَثَلًا حَيًّا لِما يَراهُ واجِبًا مُقَدَّسًا على الشَّعبِ، «ويَبدُو أَنَّهُ قاطَعَ المَنتُوجاتِ الأَمِيركِيَّةَ والمَلابِسَ الإِنكلِيزِيَّةَ وكُلَّ ما تُنتِجُهُ تِلكَ الدَّولَتنانِ اللَّتانِ انتَهَكَتا فَلَسطِين» (183).

وهو يُخاطِبُ شَعبَهُ بِحُرقَة:

فَكُونُوا النَّارَ تُحرِقُ أَو قَذًى في       عُيُونِ البُطْلِ إِن كُنتُم رَمادَا (ص 183)

فَلَو كانَ الشَّعبُ حَيًّا، مُوَحَّدَ الهَدَفِ، يَتَمَتَّعُ بِالوَعيِ السِّياسِيِّ، وصِدقِ الوَطَنِيَّةِ، واتَّخَذَ وَسِيلَةَ القَرَوِيِّ لانتَصَرَ، كَما فَعَلَ غانِدِي في الهِندِ وتَفَوَّقَ على الامبَراطُورِيَّةِ الَّتِي لا تَغرُبُ عَنها الشَّمسُ، وذلِكَ لِأَنَّهُ وَجَدَ شَعبًا مُستَجِيبًا لِثِقَتِهِ بِقائِدِهِ الصَّادِقِ المُخلِصِ الَّذِي لا يُهادِنُ وَلا يُساوِم.

ولَكَم صَدَقَ أَدُولف هِتلَر حِينَ قال: «إِنَّ مِن حُسنِ حَظِّ الحُكَّامِ أَنَّ النَّاسَ لا يُفَكِّرُون»…

فَهَل بَلَغنا يَومًا، وفِي أَيٍّ مِن أَوطانِنا، الرُّقِيَّ الَّذِي أَشارَ إِلَيهِ بَطَلُ الأَرجَنتِين سان مارتِين: «إِنَّ رُقِيَّ الأُمَمِ يُقاسُ بِعَدَدِ مَن يَغضَبُ فِيها ويَثُورُ على الظُّلم»؟!

هَيهات…

فَإِنَّ مَن يَقُودُونَ شُعُوبَنا غالِبًا ما يَكُونُونَ طَواطِمَ(3) يَخلُقُهُمُ النَّاسُ ويُسَلِّمُونَهُمُ القِيادَ وَهُم دِيماغُوجِيُّونَ(4) مَركَنتِيلِيُّونَ(5) يَنطَبِقُ فِينا وفِيهِم قَولُ أَبِي العَلاءِ المَعَرِّيّ:

تَلَوْا باطِلًا، وَجَلَوْا صارِمًا،     وَقالُوا: صَدَقنا! فَقُلتُمْ: نَعَمْ!

كانَ القَرَوِيُّ عُرُوبِيًّا صَرِيحًا في مُجاهَرَتِهِ بِمَذهَبِه هذا:

إنِّي على دِينِ العُرُوبَةِ واقِفٌ        قَلبِي على سُبُحاتِها ولِسانِي

وهو القائِل: «العُرُوبَةُ هي أَن يَشعُرَ اللُّبنانِيُّ أَنَّ لَهُ زَحلَةَ في الطَّائِف، ويَشعُرَ العِراقِيُّ أَنَّ لَهُ فُراتًا في النِّيلِ. وهِي دَمٌ زَكِيٌّ يَجرِي في عُرُوقِ الجَسَدِ الواحِدِ، وأَعضاؤُهُ الأَقطارُ العَرَبِيَّة».

وأَيضًا: «العُرُوبَةُ شِعارُ الأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ، ورُوحُها وشَمسُ أَوطانِها ومَهوَى أَفئِدَتِها، ومُلتَقَى ما تَعَدَّدَ مِن أَقالِيمِها ولَهَجاتِها. العُرُوبَةُ دِينُ الأُمَّةِ الشَّامِل»     (ص 190).

ولكِنَّهُ لَم يُنكِرِ انتِسابَهُ لِلُبنان:

أَنا القَرَوِيُّ لِلأَرزِ انتِسابِي        ولُبنانِيَّتِي شَرَفٌ ومَجْدُ

وتَعارَضَت عُرُوبَتُهُ مع المَبادِئِ السُّورِيَّةِ القَومِيَّةِ الاجتِماعِيَّةِ فَأَفسَدَت عَلاقَتَهُ بِصَدِيقِهِ أَنطُون سَعادَة مُؤَسِّسِ الحِزبِ السُّورِيِّ القَومِيِّ الاجتِماعِيِّ، ما جَعَلَ هذا الأَخِيرَ يَتَوَجَّهُ إِلَيهِ بِالآتِي: «فَخَرَجَتِ “الأَعاصِيرُ” وغَيرُها مِن شِعرِكَ الجَمِيلِ شِعرًا جَمِيلًا مِن حَيثُ هو مَظهَرٌ فَنِّيٌّ مِن مَظاهِرِ الشُّعُورِ، ولكِنَّهُ شِعرٌ مُؤلِمٌ لِلنَّفسِ السُّورِيَّةِ المُستَفِيقَةِ لِأَنَّهُ شِعرٌ يَصفَعُها ويَرذُلُها ويُحَقِّرُها ويَزِيدُ في إِفقادِها الثِّقَةَ بِنَفسِها»(6).

خَلِيل حاوِي (1919 – 1982)

مِن أَقطابِ شِعرِ التَّفعِيلَةِ، أَبدَعَ فِيهِ، ورَفَعَهُ إِلى ذُرًى تَرَبَّعَ فِيها سامِقُ الشِّعرِ على أَلوانِهِ وأَشكالِه.

هو الشَّاعِرُ ذُو الحِسِّ المُرهَفِ، العَصَبِيُّ المِزاجِ، والَّذِي انعَكَسَ في شِعرِهِ فقراتٍ مُتَوَتِّرَةَ يَثقُلُ هَيكَلُها بِشِحْناتِ الشَّجَنِ والغُربَةِ والإِحباط.

«حَمَلَ هَمَّ أُمَّتِهِ واكتَوَى بِآلامِها، وامتازَ بِحِسٍّ حَضارِيٍّ مُدرِكٍ الواقِعَ في كُلِّ مُستَوَياتِه» (ص 203).

والرُّؤْيا هي في صَمِيمِ شِعرِهِ الَّذِي عَرَّفَهُ بِـــ «رُؤْيا تُنِيرُ تَجرِبَةً، وفَنًّا قادِرًا على تَجسِيدِها» (ص 204).

أَسَّسَ الحاوِي بُنيانَهُ الشِّعرِيَّ على ما اكتَنَزَتهُ طَبِيعَتُهُ الرَّقِيقَةُ مِن طَبِيعَةِ الرِّيفِ اللُّبنانِيِّ ومَرابِعِ طُفُولَتِهِ وصِباهُ، فَكانَ مُعجَمُ الطَّبِيعَةِ مِن عُدَّةِ عَمَلِهِ، ومُكَوِّنًا أَساسًا في مِدادِه. فَــ «الصِّلَةُ بَينَهُ وبَينَ الرِّيفِ (الَّذِي يُمَثِّلُ الوَطَنَ) وَثِيقَة» (ص 208)، وهو «مُتَمَسِّكٌ بِجُذُورِ أَرضِه» (ص 209)، وَ «عاشَ الطَّبِيعَةَ وأَشياءَها وأَسرارَها عَن كَثَبٍ، واختَزَنَ مِنها أُمُورًا كانَت تُوَلِّدُ تَأثِيرًا عَمِيقًا في شِعرِه» (ص 212).

وِمن حِجارَةِ صَرحِهِ المُبدَعِ الصُلبَةِ ما وَظَّفَهُ مِنَ التُّراثِ الدِّينِيِّ وأَساطِيرِ الأَقدَمِينَ والَّتِي كانَت «رافِدًا لِشِعرِه» (ص 213)، طَبعًا مِن غَيرِ تَدَيُّنٍ، لا بَل بِرَفضٍ كُلِّيٍّ لِإِلهٍ تَوراتِيٍّ «مُحِبٍّ لِلدِّماءِ وشَدِيدِ العِقابِ» (ص 213). وقد استَقَى الكَثِيرَ مِن هذا التُّراثِ وَوَظَّفَهُ رُمُوزًا مُؤَاتِيَةً تَكفِيهِ مَؤُونَةَ الاستِطرادِ الطَّويِلِ لِإِيضاحِ فِكرَتِهِ، والرُّمُوزُ، بِحَسَبِ باشلار «كَلِماتُ الرُّوح» (ص 297). 

وَ «تَوظِيفُ التُّراثِ الدِّينِيِّ في شِعرِ حاوِي أَتَى غَنِيًّا ومُتَنَوِّعًا إِذِ استَقاهُ مِن مَصادِرَ مُتَعَدِّدَة» (ص 225).

غاصَ الحاوِي فِي كُنُوزِ العَرَبِيَّةِ الفُصحَى ماتِحًا مِن مَعِينِها الثَّرِّ ما يُماشِي العَصرَ، وَ «لَم يُلغِ ما اكتَسَبَتهُ الأَلفاظُ عَبرَ عُصُورِ اللُّغَةِ، كَما أَنَّهُ في الوَقتِ نَفسِهِ لَم يُبقِ تِلكَ العَلاقاتِ على صُورَتِها الَّتِي نَجِدُها عَلَيها في القَصِيدَةِ التَّقلِيدِيَّة» (ص 240).

تَوالَت الأَزَماتُ الكُبرَى على وَطَنِهِ لُبنانَ، وعلى العَرَبِ عُمُومًا.

فَلُبنانُ عانَى مِن أَحداثٍ دَمَوِيَّةٍ عام 1958، وحَربٍ أَهلِيَّةٍ مُدَمِّرَةٍ عام 1975. وهُنا تَجدُرُ الإِشارَةُ إِلى ما جاءَ في بَحثٍ لِلدَكتُور مِيشال خَلِيل جِحا:

«في قَصِيدَتِهِ “في بِلادِهِم”، المَنشُورَةِ في مَجَلَّةِ “الآداب” في يَنايِر 1957، يَتَناوَلُ الشَّاعِرُ خَلِيل حاوِي حَربَ السُّوَيسِ سَنَةَ 1956 بَينَ مِصرَ مِن جِهَةٍ وإِسرائِيلَ وفَرَنسا وبَرِيطانيا مِن جِهَةٍ أُخرَى، وفِيها يَتَنَبَّأُ بِما سَوفَ يَحُلُّ في لُبنانَ سَنةَ 1975 مِن حَربٍ أَهلِيَّةٍ، فَيَقُول: وَغَدًا يَندَكُّ لُبنانُ، / ويُنفَى شَعبُ لُبنانَ، ويَستَعطِي الشُّعُوبْ / غَيرَ أَنَّ الأَعيُنَ الصَّمَّاءَ لا تَحكِي، / وتَحكِي: أَنتَ مَنبُوذٌ غَرِيبْ / سَوفَ تَستَعطِي الشُّعُوبْ!».

أَمَّا العَرَبُ جَمِيعًا فقد كَساهُمُ الذُّلُّ والهَوانُ إِثْرَ هَزِيمَتِهِمِ النَّكراءِ مع إِسرائِيلَ عام 1967. وهُنا نَستَذكِرُ ما قالَهُ الباحِثُ الدَكتُور مِيشال خَلِيل جِحا: «قَصِيدَةُ “لَعازَر 1962” مِن دِيوانِ “بَيادِر الجُوع” لِلشَّاعِرِ خَلِيل حاوِي رَصَدَت هَزِيمَةَ الأُمَّةِ العَرَبِيَّةِ أَمامَ إِسرائِيلَ في حَربِ الأَيَّامِ السِّتَّةِ سَنَةَ 1967. هذهِ الأُمَّةِ الَّتِي أَرادَها الشَّاعِرُ أَن تَنبَعِثَ، أَن تَقُومَ مِن مَوتِها، كَما قامَ لَعازَرُ، ولكِنَّها آثَرَت أَن تَبقَى جُثَّةً هامِدَة».

أَمَّا الطّامَّةُ الكُبرَى على شاعِرِنا فَكانَت دُخُولَ الجَيشِ الإِسرائِيلِيِّ إِلى بَيرُوتَ عام 1982، فَما احتَمَلَ عِظَمَ الهَزِيمَةِ وخِزْيَ ما أَوصَلَت إِلَيه. «ويَبلُغُ اليَأسُ عِندَهُ مَبلَغَ التَّماهِي مع فِكرَةِ المَوتِ، إِذ يُهَيمِنُ المَشهَدُ الأَسوَدُ وتَنسَدُّ كُلُّ مَنافِذِ الرَّجاءِ» (ص 292)، «فَجاءَ إِقدامُهُ على الانتِحارِ ومُعانَقَةِ حَدِّ السَّيفِ، تَعبِيرًا عَن قَلَقِهِ الوُجُودِيِّ العَمِيق» (ص 301).

كانَ حاوِي رائِيًا مُتَبَصِّرًا «يَدرُسُ حَرَكَةَ الواقِعِ، ويَستَقرِئُ التَّارِيخَ والحَضارَةَ، فَيَتَراءَى لَهُ أَنَّ بَصِيصَ الأَمَلِ مُنعَدِمٌ، ويَتَحَقَّقُ مِن أَنَّ الفَجِيعَةَ حَتمِيَّةٌ» (ص 294)، فَيَصرُخُ «ماذا سِوَى كَهْفٍ يَجُوعُ، فَمٍ يَبُورْ / وَيَدٍ مُجَوَّفَةٍ تَخُطُّ وَتَمسَحُ / الخَطَّ المُجَوَّفَ في فُتُور؟» (ص 293).

«لَقَد باتَ الشَّاعِرُ مُتَأَكِّدًا مِن استِحالَةِ عَودَةِ العَرَبِ إِلى سابِقِ عَهدِهِم لِأَنَّ سُقُوطَهُم لَم يَكُن مُجَرَّدَ كَبوَةٍ بَل كانَ انهِيارًا تامًّا على الأَصعِدَةِ كافَّة» (ص 299).

وهو لَم يَغفُلْ عَن واقِعِ «ما يَخضَعُ لَهُ الشَّرقُ مِن عاداتٍ بالِيَةٍ مُهتَرِئَةٍ تُؤمِنُ بِالخُرافاتِ وتَستَسلِمُ لِلزُّهد. والشَّرقِيُّ هو بِذلكَ تَجسِيدٌ لِلتَّبَعِيَّةِ واللَّافِعلِ أَمامَ التَّحدِّي الحَضارِيّ» (ص 282).

ويُذَكِّرُنا هذا بِقَولِ الشَّاعِرِ الكُوَيتِيِّ عَبد اللَّطِيفِ إبرَاهِيمَ النِّصْف:

بِلادٌ بِهَا سُوقُ الخُرَافَاتِ رَائِجٌ          فَلَم يُمْنَ يَومًا وَاحِدًا بِكَسَادِ.

كُلُّ هذا رَسَّخَ في شاعِرِنا خِذلانًا وَصَلَ إِلَى حَدِّ قَولِه: «عَمِّقِ الحُفرَةَ يا حَفَّار، / عَمِّقْها لِقاعٍ لا قَرار» (ص 294).

كانَ المَوتُ حاضِرًا في ذاتِ شاعِرِنا، جَرْسُهُ في شِعرِهِ كامِنٌ، وأَحيانًا يَبرُزُ إِلى السَّطحِ، فَلنَقرَأْ بِلَفظِه: «كانَ الكَفَنُ الأَبيَضُ دِرْعًا / تَحتَهُ يَختَمِرُ الرَّبِيع» (ص 229). 

أَوَلَيسَت هذهِ رُؤْيا تُجَسِّدُ ما كانَ يَعتَمِلُ في جَوانِحِهِ مِن يَأسٍ وعَبَثٍ وإِحباط؟!

كانَتِ الغُربَةُ صُورَةً فاقِعَةَ اللَّونِ في نِتاجِهِ، وهي لَيسَت فَقَط غُربَةً عَن الوَطَنِ، بَل هي «غُربَةٌ رُوحِيَّةٌ مُقِيمَةٌ وَوَحشَةُ نَفسِيَّةٍ مُهاجِرَة» (ص 263)، وقد عاشَها وهو في أَرضِهِ وبَينَ أَهلِهِ، يَنهَشُهُ اليَأسُ حَتَّى غَدا الزَّمَنُ في عَينَيهِ خَيالًا لِلعَدَمِ الماثِلِ «وعَرَفتُ كَيفَ تَمُطُّ أَرجُلَها الدَّقائِقُ / كَيفَ تَجْمُدُ، تَستَحِيلُ إِلى عُصُورْ / وغَدَوتُ كَهفًا في كُهُوفِ الشَّطِّ / يَدمَغُ جَبهَتِي / لَيلٌ تَحَجَّرَ في الصُّخُور» (ص 263).

وفي تَحَرُّكٍ لِجِهازٍ رُوحِهِ المَعنَوِيِّ يَجِدُ دِفاعًا ذاتِيًّا يَقِيهِ الإِحباطَ، والخَيبَةَ، وعَبَثَ الوُجُودِ، فَيُنشِدُ بِأُسلُوبٍ سَهْلٍ مُمتَنِعٍ يُلامِسُ شَغافَ القَلبِ، ويُحَرِّكُ الحَنايا بِما يَبُثُّ مِن دِفْءٍ في مَكامِنِ الذِّكرَياتِ عِندَ كُلِّ إِنسان. يَقُول: «وكَفانِي أَنَّ ِلي أَطفالَ أَترابِي / ولِي في حُبِّهِم خَمرٌ وزادْ / مِن حَصادِ الحَقلِ عِندِي ما كَفانِي / وَكَفانِي أَنَّ لِي عِيدَ الحَصادْ، / أَنَّ لِي عِيدًا وعِيدْ / كُلَّما ضَوَّأَ فِي القَريَةِ مِصباحٌ جَدِيدْ» (286).

مُحَمَّد الماغُوط (1934 – 2006)

هو واحِدٌ مِن أَربابِ الشِّعرِ الحُرِّ وقَصِيدَةِ النَّثْر. وقد كَتَبَ على هذا النَّمَطِ، شَذَراتٍ مُكَثَّفَةً تَرمُزُ أَبعَدَ مِمَّا تُبدِي، وتَترُكُ القارِئَ في سُرُوحٍ جَمِيل. وقد اكتَسَت شَذَراتُهُ سُخرِيَّةً مُرَّةً، ونَقدًا لاذِعًا، إِذْ كانَ يُؤمِنُ بِأَنَّ «كُلَّ مَن يُجِيدُ الكِتابَةَ السَّاخِرَةَ يُجِيدُ زَعزَعَةَ الظَّلام».

وحَولَ مِنوالِهِ الشِّعرِيِّ ثارَت جِدالاتٌ، ولَمَّا تَزَل، بَينَ مُؤَيِّدٍ ورافض. وقِيل: «تَبقَى شِعرِيَّتُها فَرَضِيَّةً بَحْتَة» (ص 37).

تَقُولُ النَّاقِدَةُ سُوزان بَرنار: «قَصِيدَةُ النَّثرِ هِيَ قِطعَةُ نَثرٍ مُوجَزَةٌ بِمَا فِيهِ الكِفَايَةُ، مُوَحَّدَةٌ، مَضغُوطَةٌ، كَقِطعَةٍ مِن بِلَّوْر… بِحَيثُ تَكُونُ خَلْقًا حُرًّا، لَيسَ لَهُ مِن ضَرُورَةٍ غَير رَغبَةِ المُؤَلِّفِ في البِنَاءِ خَارِجًا عَن كُلِّ تَحدِيدٍ، أَو شَيئًا مُضطَرِبًا، إِيحَاءَاتُهُ لانِهَائِيَّة»(7).

حَولَ هذهِ القَصِيدَةِ «يُجمِعُ شُعَراؤُها على رَفْضِ مُوسِيقَى الشِّعرِ الخارِجِيَّةِ، فَلا يَتَحَدَّثُونَ عَن مُوسِيقَى داخِلِيَّةٍ خاصَّةٍ بِكُلِّ قَصِيدَةٍ، لكِنَّهُم يَختَلِفُونَ حَولَ تَوافُرِ مِثلِ هذا الإِيقاعِ في قَصِيدَةِ النَّثر» (ص 99).

وَيَبقَى الغُمُوضُ، واضطِرابُ التَّحدِيدِ الثَّابِتِ، مُهَيمِنًا على المُنَظِّرِينَ فيها. ومِثالًا نَقرَأُ لِأَحَدِهِم، أَحمَد بَزُّون: «قَصِيدَةُ النَّثرِ شِعرٌ، لا نَثرٌ جَمِيلٌ، إِنَّها قَصِيدَةٌ مُكتَمِلَةٌ، كائِنٌ حَيٌّ مُستَقِلٌّ، مادَّتُها النَّثرُ وغايَتُها الشِّعر» (ص 101). وَنَسأَل: هل تُدرَكُ غايَةٌ إِلَّا إِذا كانَت هُناكَ طَرِيقٌ تُؤَدِّي إِلَيها؟! فَلَيتَ الكاتِبَ بَزُّونَ أَشارَ إلَيها وكَفَى المُؤمِنِينَ القِتال…

وتَغمُرُ الضَّبابِيَّةُ تَعرِيفاتٍ أُخرَى كَالَّتِي جاءَ بِها، مِثالًا، الباحِثُ المِصرِيُّ مُجِيب مُسافِر: «تَبدُو قَصِيدَةُ النَّثرِ مُحاوَلَةٌ لِلتَّواؤُمِ مع إِيقاعِ العَصرِ. فَالسِّياقُ هو المُحَدِّدُ الأَوَّلُ لِلشِّعرِيَّةِ لا القافِيَةُ والوَزْنُ والتَّناغُمُ الدَّاخِلِيّ».

تُورِدُ المُؤَلِّفةَ شاهِدًا على أَهَمِّيَّةِ المُوسِيقَى في الشِّعر: «لِذا فَإِنَّهُ يَتَوَجَّبُ على الكاتِبِ أَن يَختارَ لِمَنظُومَتِهِ الشِّعرِيَّةِ إِيقاعًا يَتَناسَبُ ومَوضُوعَهُ، تِبعًا لانفِعالاتِهِ، لِكَي يُجَسِّدَ مَوقِفَهُ […] وهُناكَ صِلَةٌ حَمِيمَةٌ بَينَ الشِّعرِ والمُوسِيقَى» (ص 135).

وتَقُولُ: «قَد ذَهَبَ بَعضُ النُّقَّادِ المُحدَثِينَ إِلى النَّظَرِ إِلى القَصِيدَةِ على أَنَّها فَنٌ كِتابِيٌّ بِالدَّرَجَةِ الأُولَى، [على أَنَّ] ذلكَ لا يُلغِي جانِبَها المُوسِيقِيَّ الَّذي يُعَدُّ عُنصُرًا أَساسِيًّا مِن عَناصِرِ الشِّعر» (ص 136).

ولا نَنسَيَنَّ أَنَّ المُوسِيقَى هي عَصَبُ الشِّعر، وبِهِ تَتَمَيَّزُ عن النَّثر. وحَتَّى رُوَّادُ قَصِيدَةِ النَّثرِ والشِّعرِ الحُرِّ لا يُنكِرُونَ أَهَمِّيَتَها.

وقد ذَهَبَ الشَّاعِرُ الإِنكلِيزِيُّ أُوسكار وايْلد وهو يُخاطِبُ مُواطِنَهُ الأَدِيبَ دافرِي أَبعَدَ مِن ذلكَ بِكَثِيرٍ إِذ قال: «مُعظَمُ قِيمَةِ القَصِيدَةِ في الشَّكْل… فَإِذا فَقَدَ البَيتُ المُوسِيقَى فَقَد لا يَبقَى شَيء».

ونَستَأنِسُ بِرَأيِ كَبِيرٍ مِن ديارِنا: «لَيسَتِ القَوافِي زَوايا حِصْنٍ مُعَدٍّ لِحَبْسِ الشِّعرِ، ولكِنَّها وَقفَةُ نَغَمٍ على حُدُودِ النِّهايَةِ، وانطِلاقُهُ مع مَوجاتِ الأَثِير…»(8).  

ونُشِيرُ إِلى أَنَّ «النَّاقِدَةَ سُوزان برنار، في دِراسَتِها الرَّائِدَةِ عن قَصِيدَةِ النَّثرِ، أَظهَرَت خُطُورَةَ الخَلطِ بَينَ النَّثرِ والشِّعرِ، كَونُهُ لِكُلِّ نَوعٍ أَدَبِيٍّ خَصائِصُ مُختَلِفَةٌ تُمَيِّزُهُ عن الآخَر» (ص 93).

وقد «أَثنَى الشِّاعِرُ بَدْر شاكِر السَّيَّاب على ضَرُورَةِ أَن نُحافِظَ على انسِجامِ المُوسِيقَى في القَصِيدَةِ رُغمَ اختِلافِ مُوسِيقَى الأَبيات» (ص 87).

ونُذَكِّرُ بِأَنَّ الشَّاعِرَةَ العِراقِيَّةَ نازِك المَلائِكَة، الَّتِي يُقَالُ إِنَّهَا مُنَظِّرَةُ «قَصِيدَةِ النَّثرِ» الأُولَى فِي إِطلاقِهَا قَصِيدَتَهَا «الكَولِيرَا» فِي العَامِ 1947، وَالمُبَشِّرَةُ بِحَسَنَاتِهَا فِي كِتَابِهَا «قَضَايَا الشِّعرِ المُعَاصِرِ»، وكانَت تَرَى «قَواعِدَ الشِّعرِ القَدِيمَةَ سَلاسِلَ وقُيُودًا. وأَنَّ الشِّعرَ الَّذِي يُكتَبُ وَفْقًا لَها، هو أَسِيرُ السَّلَفِيَّةِ، ويَأتِي مَنهُوكًا شاحِبًا» (ص 82). وهِيَ هِيَ، هذهِ الشَّاعِرَةُ، عَادَت لِتَقُولَ، فِي العَامِ 1967، في خَواتِيمِ مَسِيرَةِ العُمرِ: «أَنَا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ تَيَّارَ الشِّعرِ الحُرِّ سَيَتَوَقَّفُ، وَسَيَرجِعُ الشُّعَرَاءُ إِلَى الأَوزَان».

فَهَل نُعَوِّلُ على بِداياتِها، بِما فِيها مِن تَرَجرُجِ أَفكارٍ قَد تَكُونُ فِجَّةً في بَواكِيرِها، وعلى اندِفاعَةٍ غَيرِ مَضبُوطَةٍ، أَم على النِّهاياتِ، وقد اختَمَرَت في الضَّمِيرِ تَجرِبَةٌ طَوِيلَةٌ مع الشِّعرِ، وقِراءَةٌ مُتَّزِنَةٌ مُعَمَّقَةٌ لِما آلَت إِلَيه التَّجارِبُ الجَدِيدَةُ، حَيثُ تَكُونُ خَمرَةُ الفِكرِ قد تَعَتَّقَت في دِنانِها، وتَنَقَّت مِن حُمُوضَةِ البِدايات؟!

وفي هذا المَعرَضِ الشَّائِكِ، نَستَذكِرُ الطُّرْفَةَ الآتِية: سَأَلَ الشَّاعِرُ أَحمَد الصَّافِي النَّجَفِي الأَدِيبَ اللُّبنَانِيَّ رَئِيف خُورِي: «يَقُولُ دُعَاةُ الشِّعرِ الحُرِّ أَنَّ الوَزنَ وَالقَافِيَةَ يُشَكِّلانِ عَائِقًا لِلشَّاعِرِ يَحُولُ دُونَ انطِلاقِهِ مَعَ خَيَالِهِ وَأَفكَارِهِ، فَمَا رَأيُك؟». فَأَجَابَهُ الخُورِي: «العَامِلُ الرَّدِيءُ يَتَّهِمُ الآلَةَ دَومًا»!

تَستَوقِفُنا في الكِتابِ الإِشارَةُ الآتِيَة: «[…] أَكثَرُ ما ناقَشَتهُ مَجَلَّةُ “شِعْر” الَّتِي كانَ الشِّعرُ السَّائِدُ قَبلَها أَسِيرَ النِّظامِ الخَلِيلِيِّ وبَعِيدًا مِنَ اللَّحظَةِ الإِبداعِيَّة» (ص 96). فَنَسأَل: هل قِياسُ مَرحَلَةٍ طَوِيلَةٍ مِنَ الزَّمَنِ يَكُونُ على ما خَلَّفَ دُخَلاءٌ على عائِلَةِ الشِّعر، أَم على رَوائِعِ أَمثالِ أَمِين نَخلَة وسَعِيد عَقْل وعُمَر أَبِي رِيشَة وبَدَوِي الجَبَل وشُعَراءِ المَهاجِرِ وغَيرِهِم مِن أَربابِ الشِّعرِ العَمُودِيّ؟! وهل هَؤُلاءِ، ما كانَ في جَناهُم لَحَظاتٌ إِبداعِيَّة؟! وهل كان ما أَبدَعُوهُ مِن سَقَطِ الكَلام؟!

في مَعمَعَةِ الخِلافِ الدَّائِرِ مُنذُ خَمسِينِيَّاتِ القَرنِ العِشرِينَ حَولَ تَسمِيَةِ الشِّعرِ، وأَحَقِّيَّةِ نَوعٍ كِتابِيٍّ شَعرِيٍّ على نَوعٍ آخَرَ، ودَعَواتٍ مُتَطَرِّفَةٍ إِلى هَدمِ قَدِيمٍ وتَبَنِّي جَدِيدٍ، تُقابِلُها سُخرِيَّةٌ مُرَّةٌ بِجَدِيدٍ لَيسَ في هَيكَلِهِ سُمُوُّ الشِّعرِ، ولا رَنَّاتُهُ العِذابُ، بَل هو تَوَسُّلٌ لِشِعرِيَّةٍ تَعصَى عَلَيه. ما حَدا بِنِزار قَبَّانِي، وهو مَن هو في مَحافِلِ الشِّعرِ، إِلى القَول:

شُعَرَاءُ هَذَا اليَومِ جِنْسٌ ثَالِثٌ          فَالقَولُ فَوضَى، والكَلامُ ضَبَابُ

يَتَكَلَّمُونَ مِنَ الفَرَاغِ.. فَما هُمُ          عَجَمٌ إِذا نَطَقُوا، ولا أَعرَابُ

في هذا الجَوِّ المُستَعِرِ أَبَدًا، نَرَى أَنَّ الجَمالَ، وما يَهُزُّ القارِئَ غِبَّ القِراءَةِ الأُولَى لِلنَّصِّ، ويُحَرِّكُ المَشاعِرَ، ويَتَرَدَّدُ في البالِ خَيالًا شَجِيًّا حُلوًا، هو الَّذي يَفرِضُ نَفسَهُ سَيِّدًا ويُسَلِّمُ الصَّولَجانَ إِلى النَّصِّ المَذكُورِ مَهما كانَ شَكلُهُ ومَهما تَنَوَّعَتِ التَّسمِيات.

فَليَكُنِ الجَمالُ وَسِيلَتَنا في التَّميِيزِ بَينَ مُنتَجاتِ الشِّعر. أَوَلَيسَ «الجَمالُ ما سَوفَ يُنقِذُ العَالَمَ» على قَولِ الأَدِيبِ دُوستُويَفسكِي؟!

والآنَ…

فَلنَتَنَدَّرْ قَلِيلًا، بَعدَ جِدٍّ كَثِير…

يَقُولُ الشِّاعِرُ القَدِيمُ أَبُو صَخْر الهُذَلِيّ:

تَكادُ يَدِي تَــنْــدَى إِذا مـا لَمَـسـتُهـا         ويَـنْـبُـتُ فـي أَطرافِها الوَرَقُ الخُضْرُ

ويَقُولُ شاعِرٌ مِنَ العَصرِ الحَدِيثِ هو الشَّيخُ نَاصِيف اليَازِجِي:

لا تَبكِ مَيتًا، وَلا تَفرَح بِمَولُودِ          فَالمَيْتُ لِلدُّودِ، وَالمَولُودُ لِلدُّودِ

ونَقلًا عَن النَّاقِدِ المِصرِيِّ د. عَبدالقادِر القطّ، نَقرَأُ الأَجزاءَ الآتِيَةَ مِن قَصِيدَةٍ للشَّاعِرِ جَمال القَصَّاص: «غَسَّالَةُ الأَطباقِ مُعَطَّلَهٌ / البَصَلُ حارٌّ يَلسَعُ العَينَينِ / وَالثُّومُ يَستَثِيرُ حَساسِيَّةَ الصَّدرِ / هاملِت تَحتَ الدُّشِّ / لا ماءَ فِي الصُّنبُورِ / […] / هاملِت هاملِت هاملِت أَو لا هاملِت / تِلكَ هِيَ المَسألَة!»

بَعدَ هذهِ النَّماذِجِ نَترُكُ الرَّأيَ لِلقارِئِ اللَّبِيبِ لِيَرَى هل جَمالُ الشِّعرِ يَأتِي مِن قِدَمِهِ أَو مِن جِدَّتِه؟!

ونَسأَلُ بِغَيرِ هَمْزٍ أَو لَمْزٍ: أَلَم يُشَجِّعِ التَّفَلُّتُ مِنَ الوَزْنِ والتَّفعِيلَةِ، أَحيانًا، بَعضَ المُتَطَفِّلِينَ على الشِّعرِ، وقد أَغراهُمُ اللَّقَبُ الذَّهَبِيُّ «شاعِر»، فَأَمطَرُونا بِوابِلِهِمِ المُثقَلِ بِما لا تَتَقَبَّلُهُ الذَّائِقَةُ الصَّحِيحَةُ، والمَنطِقُ السَّلِيم؟!

ثُمَّ نَتَرَحَّمُ على أَمِيرِ الشُّعَراءِ القائِل:

والشِّعرُ في حَيثُ النُّفُوسُ تَلَذُّهُ      لا في القَدِيمِ ولا الجَدِيدِ العادِي

ونَختِمُ فِكرَتَنا بِهذا الخَيالِ «السُّورِيالِيِّ» حَيثُ نَرَى الشِّعرَ، في أُبَّهَتِهِ وجَلالِهِ وبُرجِهِ العالِي، يُرَدِّدُ الآيَةَ الكَرِيمَة: ﴿إِنَّ إِلَينَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَينَا حِسَابَهُم﴾(9)!

أَمَّا بِالنِّسبَةِ إِلى كاتِبَتِنا دُورِين فَإِنَّها لَم تُخفِي انحِيازِها إِلى قَصِيدَةِ النَّثرِ «الَّتِي بَعَثَت رُوحَ التَّجدِيدِ في القَصِيدَةِ العَرَبِيَّةِ إِذ عُدَّت أَداةً مُهِمَّةً لِخَلقٍ شِعرِيٍّ بِلا قُيُودِ الوَزْنِ والقافِيَة» (ص 17).

ونَحنُ نَقُولُ إِنَّ شاعِرَتَنا حَقِيقَةٌ بِاللَّقَبِ المُغرِي لِأَنَّها كَتَبَت قَصِيدَةَ النَّثرِ فَما أَبدَت تَقصِيرًا، بَل أَبدَعَت بَيانًا وصُورَةً وخَيالًا.

ونَعُودُ إِلى شاعِرِنا الماغُوط، فَنَجِدُهُ مَغلُوبًا على أَمرِهِ، «لا يَملِكُ مِن أَسلِحَةِ التَّغيِيرِ إلَّا الشِّعر» (ص 318)، وهو شِعرٌ «بِدَفَقاتٍ شُعُورِيَّةٍ مُكَثَّفَةٍ ذاتِ بُعْدٍ رَمزِيٍّ أَحيانًا، ونَبرَةٍ خَطابِيَّةٍ أَحيانًا أُخرَى، لكِنَّها في الحالَتَينِ تَتَجاوَزُ التَّعبِيرَ عن البُعْدِ الفَردِيِّ إِلى التَّعبِيرِ عَن البُعدِ الجَماعِيّ» (ص 318).

وقد بَلَغَ حَدًّا كَبِيرًا مِنَ اليَأسِ فَصَرَخ: «عَلَيكَ أَن تَفهَمَ أَنَّ في وَطَنِي تَمتَلِئُ صُدُورُ الأَبطالِ بِالرَّصاصِ وتَمتَلِئُ بُطُونُ الخَوَنَةِ بِالأَموال… ويَمُوتُ مَن لا يَستَحِقُّ المَوتَ على يَدِ مَن لا يَستَحِقُّ الحَياة».

 كانَت نَشأَتُهُ قاسِيَةً فَقَد «عاشَ في البَردِ والوَحلِ وبَينَ المَقابِر» (ص 321). وعَن قَريَتِهِ السَلمِيَّة يَقُول: «يُحُدُّها مِنَ الشَّمالِ الرُّعب / ومِنَ الجَنُوبِ الحُزن / ومِنَ الشَّرقِ الغُبار / ومِنَ الغَربِ… الأَطلالُ والغِربان» (ص 322).

ويَقُول: «أَنا لا أَنامُ / حَياتِي سَوادٌ وعُبُودِيَّةٌ وانتِظار / فَأَعطِنِي طُفُولَتِي..» (ص 327). والشَّوقُ إِلى الطُّفُولَةِ يَجِيشُ حِينَما تُخَيِّمُ الشَّيخُوخَةُ على المَرءِ، أَو حِينَما تُحاصِرُهُ المَصاعِبُ وتَفُوقُ قُدرَتَهُ على الفَكاكِ مِن قَبضَتِها المُفَولَذَة… هذا وَلَو كانَت طُفُولَتُهُ شائِكَةً مُظلِمَةً كَطُفُولَةِ شاعِرِنا المُفرِطِ الحِسّ.

قالَ النَّاقِدُ عَبدُه وازِن: «تَجرِبَةُ الماغُوطِ الشِّعرِيَّةُ تَجرِبَةٌ سَهلَةٌ وغَيرُ مُعَقَّدَةٍ، وأَسرارُهُ الجَمِيلَةُ غَيرُ مُغلَقَةٍ ولُغَتُهُ بَسِيطَةٌ ولكِنْ مُمتَنِعَةٌ طَبعًا، لِأَنَّها لُغَتُهُ هو، لُغَتُهُ الشِّخصِيَّةُ النَّابِعَةُ مِن مِزاجِهِ الحادِّ، ومِن جَسَدِهِ ورُوحِهِ، مِن إِحساسِهِ الدَّائِمِ بِخَيبَةِ الضَّحِيَّةِ في عالَمٍ بِلا رَحمَةٍ، وفي حَياةٍ بِلا عَزاء».

وهكَذا فَلِكُلِّ شاعِرٍ شاعِرٍ لُغَتُهُ الخاصَّةُ وتَعبِيرُهُ النَّابِعُ مِن رُوحِهِ وجَسَدِهِ، وهذه فِكرَةٌ وَرَدَت عِندَ الشَّاعِرِ الياس فَرحات إِذ قال:

إِذَا تَأَمَّلتَ شِعْرِي رُحتَ مُكتَشِفًا          فِيهِ مَلامِحَ مِن رُوحِي وَمِن بَدَنِي

تَلفَحُنا في بَيانِ الماغُوطِ، أَحيانًا، نَفحَةٌ شُعُورِيَّةٌ كامِنَةٌ تُلامِسُ أَحاسِيسَنا بِخَدَرٍ يَلوِي أَجفانَنا إِلى رَحِيلٍ في حُلُمٍ لَذٍّ ساهِمِ الصُّوَر. يَقُول:

«مُدِّي ذِراعَيكِ يا أُمِّي / أَيَّتُها العَجُوزُ البَعِيدَةُ ذاتُ القَمِيصِ الرَّمادِيِّ / دَعِينِي أَلمُسُ حِزامَكِ المُصَدَّف…» (ص 333).

يَكتُبُ الماغُوطُ بِحُرقَةٍ حَيثُ «أَنَّ الفَنَّانَ عِندَما يَكتُبُ قَصِيدَةً فَإِنَّ ذاكِرَةَ اللَّاوَعيِ الجَماعِيِّ تُلِحُّ عَلَيهِ، ويَختَصِرُها في قَصِيدَتِه» (ص 323).

ويَنضَحُ التَّمَزُّقُ في نَفسِ الماغُوطِ في قَولِه: «في دَمِي رَقصَةُ الڤَالْسِ، وفي عِظامِي عَوِيلُ كَربَلاء». فَهُوَ، هُنا، في صِراعٍ داخِلِيٍّ مَرِيرٍ مَكتُومٍ بَينَ مَورُوثٍ قابِعٍ في «جِيناتِهِ» وفي عِظامِهِ، يُثقِلُهُ ويَنطَبِعُ فِيهِ، وبَينَ الانصِياعِ إِلى الحَواسِّ تَنشُدُ العَصرَ، وإِلى الدِّماءِ تَتُوقُ إِلى دِفْءِ الرَّغَدِ المَطرُوح. وما يَنطَبِقُ عَلَيهِ في هذهِ الحالِ يَسرِي على شَرائِحَ واسِعَةٍ مَدَى هذا الشَّرقِ الوَسِيع. فَمِنَحُ العَصرِ يَقِفُ دُونَها إِرْثٌ ثَقِيلٌ يَرزَحُ على الجَوارِحِ، تَناهَى إِلَيها مع الأَيَّام.

وهُنا يَثِبُ الشَّاعِرُ رافِضًا، مُحَطِّمًا، ثائِرًا، فَإِذا نَفحَةُ الوَطَنِيَّةِ في شِعرِهِ على طَعْمِ النَّجِيعِ ولَسعَةِ الجَمْر.

ويَبلُغُ بِهِ الإِحباطُ حَدَّ الكُفرِ بِالشِّعرِ وهو الَّذِي يَجرِي في عُرُوقِهِ، ويَطِنُّ في النَّبَضات. يَقُول: «أَيُّها العَرَبُ، يا جَبَلًا مِنَ الطَّحِينِ واللَّذَّةِ / يا حُقُولَ الرَّصاصِ الأَعمَى / تُرِيدُونَ قَصِيدَةً عَن فَلَسطِين / عَنِ الفَتْحِ والدِّماء؟ / […] / وانتَهَت لَيالِي الشِّعرِ والتَّسَكُّع / سَأُطلِقُ الرَّصاصَ على حَنجَرَتِي» (ص 344).

كانَ الماغُوطُ رائِيًا مُدرِكًا مَآلَ الأُمُورِ، إِذ قَرَأَ في الواقِعِ المُهتَرِئِ بَوادِرَ الانهِيارِ العامّ. وقد وَصَفَ المُفَكِّرُ البَحرَيْنِيُّ الدّكتُور حَسَن مَدَن رُؤَى الرِّاحِلِ مُحَمَّد الماغُوط، بِأَنَّها بِمَثابَةِ «نُبُوءَةُ شاعِر»، مُضِيفًا «الكَثِيرُ مِمَّا حَذَّرَ مِنهُ الماغُوطُ، في وَقتٍ مُبكِرٍ، أَصبَحَ هو ما آلَت إِلَيهِ الأُمُورُ في ما بَعْدُ، لِأَنَّ الأَمرَ كانَ يَتَعَلَّقُ بِنُبُوءَةِ شاعِرٍ مُبدِع».

وِجدانُ شاعِرِنا في شِعرِهِ بَيِّنٌ، والأَلفاظُ المُعَبِّرَةُ عَنهُ تَأخُذُ القارِئَ في انزِياحاتٍ بَعِيدَةِ المَدَى، دَفِيئَةِ الوَقْعِ، حَزِينَةِ المَرْمَى. والشِّعرِيَّةُ في نَصِّهِ تَستَقِي نُسغَها مِن غِنَى أَلفاظِهِ بِالمَعانِي، وصَلابَةِ تَراكِيبِهِ المُوائِمَةِ لِمَرامِيهِ، واتِّساقِ مُفرَداتِهِ في رَفعِ بِناءٍ سَلِيمٍ مُتَوازِنٍ مُحَرِّكٍ لِلمَشاعِرِ مِن دُونِ أَن يَتَوَكَّأَ على مُوسِيقَى وَزْنٍ أَو تَفعِيلَة. ومِن هُنا تَظهَرُ بَراعَتُهُ في مَلءِ فَراغٍ تَأَتَّى مِن غِيابِ المُؤَثِّراتِ السَّمعِيَّةِ المَعهُودَة، وذلكَ بِدَفْقٍ وِجدانِيٍّ مُجَسَّدٍ في كَلِمٍ مَرصُوفٍ كَلُؤْلُؤٍ مَنضُود.

مُختَتَم

كاتِبَتُنا وشاعِرَتُنا وناقِدَتُنا الحَصِيفَة….

كَتَبَت ما يَبقَى لِأَنَّ فِيهِ نُسْغَ الحَياةِ، وإِكسِيرَ الدَّيمُومَةِ، ولَسَوفَ يَكُونُ قِبلَةً لِمَن يَوَدُّ استِزادَةً حَولَ مَوضُوعَةِ الكِتابِ، ولَن يَكُونَ أَبَدًا نَسْيًا مَنسِيًّا فَـــ «حامِلُ المِسْكِ لا تُخفَى رَوائِحُه».

طافَت مَلِيًّا في مَغانِي ثَلاثَةٍ كِبارٍ، ثُمَّ عادَت مِن تَطوافِها بِسِلالِ الخَيرِ عارِمَةِ الجَنَى، تَطرَحُها أَمامَنا مُنَسَّقَةً مُبَوَّبَةً مُصَنَّفَةً وَضِيئَةَ النَّسِيجِ، تُرِيحُ الباحِثَ وتُرضِي لَهفَتَهُ المَعرِفِيَّة. ولَقَد بَرَعَت في ما نَدَبَت نَفسَها إِلَيهِ، وأَرسَت سَفِينَتَها على بَرِّها المَأمُول، فَإِذا هي «تَعرِفُ جَيِّدًا كَيفَ تُورَدُ الإِبِل»!

دُورِين… طُوباكِ.

لَقَد استَطَعتِ، بِبَراعَةٍ تُغبَطِينَ عَلَيها، أَن تُحِيطِي بِكُلِّ تَفاصِيلِ فُرسانِكِ، لَكَأَنَّكِ دَخَلتِ في مَسامِّهِم، وكَشَفتِ دَواخِلَهُم، وتَنَشَّقتِ عَرَقَهُم واللَّهاثَ، وعِشتِ هَواجِسَهُم وصِراعَهُمُ المُستَمِيتَ لِلوُصُولِ إِلى قِبلَةٍ رَسَمَها كُلٌّ مِنهُم لِنَفسِهِ، فَكانَت على ذُروَةٍ يَصعُبُ التَّوَقُّلُ فِيها، لِما يَحُفُّ سُبُلَها مِن عَوائِقَ، ويَملَأُ فَضاءَها بِرائِحَةِ الدُّخانِ والغُبارِ ولَمْعِ الحَرائِق.

كَتَبتِ فَأَنَرتِ حُلكَةً في مَخزُونِنا المَعرِفِيّ…

تَباشِيرُكِ تُنبِئُ بِمَواسِمَ يَطفَحُ خَيرُها، ويَحلُو جَناها.

أَلَا سَلِمَ قَلَمُكِ لِيُكمِلَ ما أَنجَزَ على طَرِيقِ النَّجاحِ، وتَيَقَّنِي أَنَّهُ، مَهما تَعاقَبَت حِقَبٌ، سَيَبقَى سِفْرُكِ هذا زادًا لِطالِبٍ غادٍ إِلى تَعَمُّقٍ في الثَّقافَةِ، مُكَرَّمًا على الرُّفُوفِ، تَنهَدُ إِلَيهِ أَجيالٌ تَتَعاقَب…

وأَطالَ اللهُ مَسِيرَتَكِ لِنَرَى الثِّمارَ تَقطُرُ شَهدًا، والأَفنانَ تُلاعِبُ النَّسِيم!

***

(1): مُلَّ المُقامُ فَكَم أُعاشِرُ أُمَّةً         أَمَرَت بِغَيرِ صَلاحِها أُمَراؤُها

   ظَلَموا الرَعيَّةَ وَاِستَجازوا كَيدَها       فَعَدَوا مَصالِحَها وَهُم أُجَراؤُها   (أَبُو العَلاء المَعَرِّيّ)

(2): ﴿أَلَا إِلى اللهِ تَصِيرُ الأُمُور﴾   (القُرآنُ الكَرِيمُ، سُورَةُ الشُّورَى، الآية 53)

(3): الطَّوْطَم (Totem): الطَّوْطَمِيَّةُ هي مَيْلٌ نَشَأَ عِندَ الشُّعُوبِ الفِطرِيَّةِ لاعتِبارِ حَيَوانٍ ما، أَو نَباتٍ ما، أَو مادَّةٍ ما، مُمَثِّلًا شَخصِيَّةَ القَبِيلَةِ ورامِزًا لِنَفسِيَّتِها فَيَكُونُ مُقَدَّسًا عِندَها. والطَّوطَم هو الرَّمزُ المُعتَمَد.

                                                      (أَنطُون سَعادَة، كِتابُ «نُشُوءُ الأُمَم»)

(4): الدِّيماغُوجِي: هي كَلِمَةٌ يُونانِيَّةٌ شَرحُها ما يَأتِي: «ألزَّعِيمُ السِّياسِيُّ الَّذي يَتَوَسَّلُ التَّأيِيدَ بِمُخاطَبَةِ الرَّغَباتِ وَالتَّحامُلاتِ الشَّعبِيَّةِ بَدَلَ اللُّجُوءِ إِلى الجَدَلِ العَقلِيّ».

(5): المَركَنتِيلِيَّة: مَذهَبُ التِّجارِيِّينَ أَو المَركَنتِيلِيَّة (Mercantilism)، وتَرجَمَتُها بِالعَرَبِيَّةِ «الاتجارِيَّة» الَّتِي يُعَرِّفُها المُعجَمُ المُنجِدُ في اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ المُعاصِرَةِ بِأَنَّها «نَزعَةٌ لِلمُتاجَرَةِ مِن غَيرِ اهتِمامٍ بِأَيِّ شَيءٍ آخَر».

(6): «الأَعاصِيرُ»: دِيوانٌ لِلشَّاعِرِ القَرَوِيّ / (مِن رِسالَةِ أَنطُون سَعادَة إِلى القَرَوِيِّ في 16/8/1939).

(7): (سُوزَان برنَار، تَرجَمَة د. مُحَمَّد الشَّحَّات، مَجَلَّةُ العَرَبِيّ، العَدَد 653، ص 93)

(8): (مارُون عَبُّود، المَجمُوعَة الكامِلَة، المُجَلَّد 5، «نَقَداتُ عابِرٍ»، ص 68)

(9): (القُرآن الكَرِيم، سُورَةُ الغَاشِيَة 25، 26)

اترك رد