منيرة مصباح
في خضم الأزمان وفي زحام الشرعيات المختلفة وفي المنعطفات التاريخية من سقوط امبراطوريات ومن حروب واكتشافات، أرى أن هناك في أعماق التاريخ ما يزال شيء من النبض وكثير من الشوق في الادب والفن الذي أبْدِع رغم ما قطِّع من نسيج اجتماعي وثقافي للسكان الأصليين في القارة الامريكية التي احتلها الأوروبيون لتصبح رمزا للعالم الجديد وموطنا للحداثة بكل تفرعاتها.
كما نكتشف الحياة الأخرى بوصفها امتداد لهذا القائم الاصلي. ونكتشف ان القدرة على بلورة لغة جديدة هي جزء من القدرة على حياة جديدة تقاوم ثقافة سلطوية تحاصر العقول.
_ (خوليو كورتزار Julio Cortazar)
من هنا تتبدى ثقافة (خليو كورتزار Julio Cortazar) بتلك الافكار التي غرست قسرا في فضاء اوروبا البارد، لكنها قاومت وتقاوم ثقافة مفروضة لتعطي العالم كل احتياطيها من الدفئ والصخب الغامض والمشتعل في عقل هذا الكاتب الارجنتيني الاصل البلجيكي المولد والفرنسي الجنسية.
كورتزار الارجنتيني كغيره من كتاب اميركا الّاتينية، نبعت كلماته من فن مواجهة الواقع السائد بقوة ووضوح، كشف عن الحقائق المخيفة التي تخلفها الحروب يوميا في العالم وفي امريكا اللاتينية بالذات. لذلك فهو يؤمن بان على الانسان ان يكون واقعيا، محبا للحياة وللسلام بعيدا عن الاوهام، فهو يقول :”ان الانساق الفكرية التي لا تاخذ بعين الاعتبار مسألة حاجة الانسان الى اللعب والفرح والتفتح العقلي والعاطفي، هي أنساق كتب لها الجمود والموت، وبالتالي هو يرفض ان تنتهي تلك الانساق الفكرية سواء كانت سياسية أو اجتماعية الى وثائق وملفات تافهة همها التمجيد الذي لا طائل منه”. لذلك فهو لم يتجاوز العاشرة من العمر طوال حياته التي عاشها كما يقول ابدا وبقي ككاتب يمارس اللعب بشكل دائم واستراتيجي. فالكتابة كانت لديه لعب لكنه جاد ومميت..
وبما ان اللعب مرتبط بالطفل وبالطفولة، فنحن نراهما في كتاباته مغامرة في الزمن وعدم استجابة لاي ثابت، وفي توجهه هذا لم تتحول الطفولة والطفل لديه الى تلك الدمية الصغيرة التي يكونها الكبار عندما يعتقدون انهم يحسنون الكلام عنها.
ففي معظم رواياته وقصصه من ( ماريل الى مانويل الى الاسلحة السرية الى البيت المحتل وغيرها..) نراه يتجه الى عدم تقبل الاشياء كما هي معروفة ومقبولة ومحتمة، مما يضفي على ادبه ككل طابع الشمولية الهادئة.
خوليو كورتازار الذي توفي بعد منتصف القرن الماضي، تجلت السريالية في حياته اكثر مما اثرت في ادبه، فقد كان مهتما بالكتابة الالية اهتماما غير ادبي، لكن جاء اهتمامه بها من زاوية العلم الذي يحرر الخيال ويطلقه بالصور التي امامه.
وكان رفضه الدائم قد ادى الى نوع من الوجودية الصوفية الخاصة في تفكيره. حتى اصبح يحس بالتعب لكونه مجرد كائن انساني بيولوجي، وقد كان هذا الجدل قائم فيه وصادر عنه، ويعود ذلك لثنائية الثقافة اللتي تملّكها مما جعله يقبض على العالم بعمق كالأفكار المتمردة الراسخة الجذور.
_ (جورجي ايكازا Jorge Ikaza)
انه رواية التاريخ المأساوي للهنود الحمر سكان القارة الامريكية الأصليين Native American، هؤلاء الذين استفاقو صبيحة يوم من ايام حزيران عام 1492 على مذبحة وحشية، ظلت تمتد فصولها الدامية في أعماق أجيال كثيرة، وبطرق عديدة نابعة من توالي المتضاضات بين شرائع تبحث عن دمار ومحو المختلف.
للكاتب الروائي جورجي ايكازا العديد من الرويات التي تتناول هذا الموضوع، لكن اهمها رواية “Huasipungo، القرويون the Villagers” وهي كلمة مأخوذة من لغة “الكيتشي” التي يتكلم بها شعب (الأنكا Inka) الذي عاش في الاكوادور قبل السيطرة الاسبانية على هذه البلاد. ومعنى هذه الكلمة عنوان الرواية والمكونة من مقطعين هما:
هواسي ومعناها الارض او البيت وبونغو ومعناها الأجر.
وتستعمل هذه الكلمة لتدل على الأرض التي يعمل عليها الهندي بتكليف من الرجل الابيض الذي يستعبده ويستغله ابشع استغلال، ويعامله بطريقة مأساوية.
بطل الرواية يدعى “اندريا” وهو الاسم الذي اطلقه عليه مالكه، فهو رقيق لرجل اسباني يدعى الفونسو بيريرا. ولان اندريا بنظر المالك كائن غريب بعيد عن الانسان، فهو لا يعامل بانسانية ولا يحصل على القوت الكافي الّا متى شاء مالكه ومتى اذن له بذلك، تلك الحالة تدفع به للثورة على واقعه المر، فيقود حملة تمرد على ملاّك الاراضي، لكن بيريرا سرعان ما يقمعها ويبيدها عن طريق استنجاده بحلفائه.
تكشف الرواية عن ذلك التحالف الرهيب بين ملاّك الاراضي والسلطة الدينية في الاكوادور، من اجل استغلال السكان الاصليين في القارة الامريكية، حيث يُنظر اليهم ويُعاملون كانهم كائنات غامضة لا معنى لها، يحل قتلها دون وازع من ضمير او انسانية.
هكذا تفتح لنا رواية “هواسينغو” نوافذ المعرفة على همجية الانسان المتخفي برداء الحضارة، وتكشف لنا الشكل الحقيقي للسيطرة على حياة السكان الاصليين في القارة في زمن سمي بناء العالم الجديد، ولرفع الستارة عن الوجه الحقيقي لفظائع الانسان وجرائمه، واختلال القيم والمبادئ الانسانية من اجل السيطرة على القارة المكتشفة.
_ (مذكرات دوميتيلا دوشنغارا (Domitila De Chungara
عندما وجهت لها الدعوة الرسمية ممثلة عن لجنة ربات البيوت في بوليفيا للمشاركة في “محكمة السنة العالمية للمرأة، قالت تلك المرأة امام العالم: “دعوني اتكلم”. وجاءت كلماتها شهادة امراة قادمة من المناجم البوليفية. عندها نضحت ذاكرتها بكل سنوات نضالها، لتصبح صرخة شعب، وتاريخ وطن عاشت احداثه وكونته بنضالها واعتقالها ومعاناتها، التي تمثل كل معانات نساء عمال المناجم.
انها دومتلا باريوس دوشنغارا Domitila De Chungara، امرأة من جبال الانديز البوليفية، زوجة لعامل منجم، وام لسبعة اطفال، ومناضلة سياسية، عاشت وانصهرت في بوتقة التغيرات في وطنها، فواجهت الهزائم والانتصارات، التعذيب والاعتقال، الفقر والحاجة، لذلك لم تستطع ذاكرتها الا ان تدون تلك التجربة الغنية في كتاب، ليس بالرواية او القصة، انما مذكرات عنونتها بشهادة امرأة “دعوني أتكلم let me Speak””، وهو الكتاب الذي كشفت فيه عن سر حياة عمال المناجم في رحلتهم السوداء مع البارود، باتجاه القوت اليومي، لتضع القارئ امام صرخة مجتمع باكمله، يتنفس برئات عمال المناجم في كل انحاء العالم.
دعوني اتكلم كتاب عن واقع قاس وخطر، على رجال ونساء واطفال يمضون معظم حياتهم تحت الارض، داخل الانفاق المعرضة للسقوط فوق اجسادهم في كل لحظة. لقد جاءت ذاكرة تلك المرأة، شهادة لحياة عمال المناجم وعائلاتهم، ومأساة لشعب يعاني من الاستغلال، ويؤكد على ان تحرير المرأة فيه مرتبط بالتحرير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. ولان هذا الكتاب لم يكن تجربة شخصية فقط، انما مجموعة من تجارب الناس، من خلال ما استطاعت ان تكتشفه الكاتبة في عملها اليومي الشاق، في منطقة الحفر والتصنيع. وحين رأت ان العامل ليس وحده المستغل انما العائلة بأسرها، انخرطت بالعمل الفعلي في محاولة منها لتحريرالمجتمع من القيود التي يرسخ تحتها الانسان. ان ذاكرة “دوميتلا”هي تاريخ شعب بوليفيا، بكل ما فيه من دم هندي، واجه أداة القتل والتدمير التي ادت الى سحقه تقول دوميتلا:
“انا فخورة بالدم الهندي الذي يجري في عروقي، وانا فخورة لانني ايضا زوجة عامل منجم، اتمنى ان يكون الجميع فخورين بما هم عليه، وبما عندهم وبثقافتهم، وبلغتهم، وبموسيقاهم، وبأسلوب حياتهم، وان لا يتقبلوا التأثير الخارجي كثيرا”.