١- نصّ الدويهي: الوردة الصباحيّة (النوع الرابع – نثر أو شعر)
الوردة الصباحيّة تعلّمني…
بأقلام الأرجوان
وإيماء الشغف…
كنت أظنّ أنّ المعلّمة
تجلس عند جدار المدرسة
وفي يديها صنّارتان وخيطان
لصنع كنزة…
تراقبنا عندما نتشيطن
وأنا واحد من الشياطين الصغار…
تضربني على يدي
بمسطرة ليست من كحل
ولا من همس الأشواق
كما أنتِ…
معلّمة الموسيقى تغنّي
فنركض وراءها
جوقة من الناشزين…
البنات إلى اليمين
(كلّ واحدة أجمل من فيروز…)
والصبيان لصوص الشمال
كورَس حضاريّ
بثيابهم الممزّقة
ونعالهم المفتوحة على الأفق الأغبر
أعشاشٌ للغربان…
يَغُصّ واحد منّا بالنغمة…
نطْرق على ظهره بشدّة
فتطول قامته…
ويصيح بفخر واعتزاز
من تحت قبّعة الصوف:
“بلَدي… يا ذهب السنابل…”
فترتجّ الحيطان…
نخاف على البلد أن ينهار
أو يسرقوا خزينته…
وتتحوّل الأغنية إلى بكاء
على الفقراء والفلاّحين
بينما اللصوص يحملون أكياسهم
ويهربون…
في تلك اللحظة الحاسمة دائماً
نخشى أن نجوع
ونحن طعامنا خبز وزيتون
ولباسنا برد كانون…
وردتك الصباحيّة
تختلف عن كلّ هذه الكوميديا البشريّة…
أنيقة… مرتّبة
كصوتك المرمر
لا تتّسع لها مزهريّة…
ولا حديقة…
أزرعها في قلبي
وهو من حجر…
وفي رأسي المتمرّد على الخرافات…
أطبق عليها بأجفان خيبتي
وانتظاري
لأناس لا يجيئون…
***
٢- المألوف أن ترقّم الغرف والسيّارات، والشوارع.. . أمّا ترقيم الأنواع الشعريّة، فلأول مرّة في تاريخ العرب يحدث ذلك، من المحيط إلى الخليج… في أستراليا يحدث وليس في بلادنا العربيّة…
وماذا تعني الأرقام عند الدويهي؟
هو يحفظها عن ظهر قلب، فعندما تقول النوع الأوّل، يجيبك إنّه الشعر العموديّ، وإذا قلت النوع السابع، يجيبك من غير أن يفكر: المدوّر العامّي. وهكذا. وله في كلّ نوع قصائد معلّقات، يعرضها دائماً لأنّه يؤمن بالبرهان، والميزان. ولذلك ثابت من غير أدنى شكّ، أنّ الدويهي عميد الأنواع السبعة، في الأدب العربيّ قديماً وحديثاً.
لا أعرف كيف يصنّفون في عالم الشعر، وعلى أيّ أساس يقيمون الرتب والألقاب والمواقع، وهل من يكتب الأنواع جميعاً هو جزء من التصنيف؟
ربّما يعتقد البعض أنّ التعدّد يُفقد الشعر قيمته، وهم يجاهرون بذلك لكي يقلّلوا من أهمّيّة التنوّع الدويهي، لكنّه يقول: أضع أنواعي السبعة أمام الناس، وليحكموا أيّاً منها فقدَ قيمته.
وفي “الوردة الصباحيّة” يكشف عن إبداع مختلف، متفرّع، غير محصور في سياق واحد، ففي حين أنّ العنوان المدخل موضوعه الوردة، فالنصّ يتفرع إلى صور، وحكايات، ونصوص في قلب النصّ، فتطالعنا مشهديّة المعلّمة التي تصنع كنزة من الصوف وتراقب، ثم مشهديّة التلاميذ، فمشهديّة معلّمة الموسيقى، وما يلحق بها من مواقف طريفة، وصولاً الى ربط الاغنية بحالة البلد والانهيار والسرقات والجوع. كلّ ذلك في قالب لا يتجزّأ، تميّزه لغة رشيقة، تتنقل بخفّة وذكاء من صورة إلى صورة من غير تكلّف، فيمتزج الفرح بالحزن، والغناء بالبكاء، والطفولة البريئة بغضب الحاضر ولعنة السياسة… فأين هي الوردة إذن، وما دورها؟
إنّها المعلّمة التي أعطته دروساً، وجعلته يقارن ويحلّل، ويميّز بين حالة وحالة، بين صديق وصديق… لينتهي إلى تقديم صورة عن قلبه المن حجر، وعقله الذي لا يؤمن بالخرافات، في نهج دادائيّ ساخر من كلّ شيء، ومتمرّد على الأشكال المألوفة في الأدب. والدويهي واحد من كبار المشتغلين بالدادائيّة ووريثتها السورياليّة في القارّة البعيدة، ونجدهما في “حاولت أن أتبع النهر… النهر لا يذهب إلى مكان”، وفي العديد من نصوصه النثريّة. وهما تعبّران أصدق تعبير عن شخصيّته، وموقفه من المجتمع والحياة، وثقافته العميقة في الاتّجاهات والمدارس الأدبيّة المختلفة، التي تنعكس في تجاربه وحضوره الإبداعيّ الرفيع.
***
*مريم رعيدي الدويهي – مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي – سيدني