يقول النحات: “البرتو جياكوميتي” : (انا لا اتردد في انقاذ قطة من الحريق لو خيرت بينها وبين لوحة للفنان “فان كوخ” لأن الكائن الحي أثمن من العمل الفني مهما بلغ من الجمال والابداع. فالكائن الحي يقيم في الزمن بينما العمل الفني يقيم في التاريخ. والزمن شرط التاريخ).
والكتابة المعاصرة أو البحث في الحداثة ليس تفحص معنى زمن حاضر أو تاريخ، انما لفهم مستقبل تلك المعاني الزمنية التي من خلالها نفهم مصير وسيرورة عالمنا. من هذا المنطلق أبدأ الكتابة عن تاريخ الفن والفكر وارتباطهما في الزمن المتحول من الماضي والحاضر والمستقبل أو كما يقول الفيلسوف الاغريقي “هرقليطس الزمن اللعوب”، لقد كان عبر التاريخ الفني وتطوره وبموازاته كتابات وآراء تعتبر نقدية ظهرت بموازاة كافة الفنون الكتابية الفكرية والبصرية وما يرتبط بهما.
لكن نقد الفن الادبي الذي بني على تحليل النصوص الابداعية الحديثة والقديمة، حمل في طياته العديد من المناهج والأسس التي يتبع كل منها توجها يختلف عن الاخر في الذائقة وفي الرؤية الفكرية للنص الابداعي. فهناك من يُدخل المقارنة منهجا للنقد، كما يُستعمل في العلوم، دون ان يوجد وصفا دقيقا داخل مجريات البحث الادبي. ان المقارنة الشكلية بين الفنون الادبية تعني غياب الفكرة المركزية لتاريخ الادب، كما تدخلنا للمقارنة بين ادب امة واخرى حيث يتشعب التطور بينهما. ان منهج الادب المقارن في النقد، وهو واحد من اهم التيارات النقدية الحديثة، يحمل في مدلوله ثلاثة مفاهيم عملية تبدأ :
بدراسة الادب الشفهي المرتبط بقضايا القصص الشعبي ودخوله حقل (الفن الادبي) والذي يعتبر الاكثر تطورا ونموا. وفن الادب الشعبي فرع هام من ادب الشعوب، حيث انه لا ينشغل بحقائق الجماليات الا قليلا ونادرا، لانه يتناول مجموع مدنية الشعب ونموه بكل عاداته وتقاليده، وازيائه وخرافاته وادواته وفنونه. ولذلك لا نستطيع الفصل بين ادب شفهي وادب مكتوب في سيرورة التطور الانساني وتشعبه، لان التفاعل بين الاثنين جزء متمم لكل بحث او نقد.
لكننا اذا اخذنا برأي بعض المختصين من امثال (هانز نومان Hans Nawman) الذي يعتبر معظم الأدب الشفهي المتأخر، تراثا ثقافيا منهارا، وهو يقرّ بان الادب المدون هو الارفع درجة والأرقى وأكثر تأثيرا وتأثرا بالادب الشفهي. هذا الى جانب الافتراض بوجود ادب شعبي لعديد من الموضوعات الادبية والفنية، مضافا اليها قصص الفروسية واغاني الشعراء الجوالين، كمثل فن غناء وشعر “التروبادور” الذي أثّر على الشعر العربي في الاندلس، ثم الاوروبي فيما بعد. وما اناشيد وقصائد لوركا الشاعر الاسباني الّا امتدادا لذلك الفن الذي اصبح فنا فولكلوريا. ولا يسعني هنا الا أن أذكر الدكتورة الاسبانية “منتسرات ربضان” المتخصصة بالادب الفلسطيني المحكي غير المكتوب وهي من الباحثين القلائل الذين اهتموا بالقصص الشعبي المحكي فقط.
ان عدم دراسة الادب الشفهي تعود لانشغال الباحثين بدراسة الموضوعات وتشعبها وهجراتها من مكان لآخر، بحثا عن المواد الخام للادب الحديث، مما جعل من البحث والنقد الادبي مشكلة ارتبطت بالنقل والاطار الاجتماعي. لكن المشتغلين في النقد المقارن، حين ادركو اهمية التركيز على الفلكلور ومشكلاته، من الرواية والرواة ومستمعي الحكاية، مهدوا الى تكامل النقد مع المفهوم العام للفن الادبي، تكاملا وثيقا.
هناك نظرية اخرى للادب المقارن ترتبط بدراسة الصلات بين ادبين او اكثر، لكن مفهوم هذه النظرية يحمل الكثير من الصعوبات الخاصة به، كون المقارنة بين الاداب اذا كانت معزولة عن الاهتمام بمجمل الاداب القومية، تصبح مقتصرة على المشكلات والتاثيرات الخارجية، دون اتاحة المجال للناقد ان يحلل ويحكم على عمل فني بعينه، او ان ياخذه ككل معقد.
كذلك تصبح المقارنة ايضا بدلا للدراسة، فتوفر نفسها بالدرجة الاولى على اصداء فنية معينة فيما يخص ترجماتها وهجراتها، وانتشار افكارها واشكالها في اقلام بعض الكتاب.
ان الادب المقارن بهذه الصورة النقدية او بهذا المفهوم المنصب على القضايا الشكلية فقط يؤدي الى تدهور هذا النمط وانصرافه عن الاهتمام بالوقائع والمصادر والتأثيرات.
ومهما تكن الصعوبات التي يعاني منها مفهوم الادب كفن يدخل نظام المجموع، يبقى النقد يتابع نموه وتقدمه دون اعتبار للفوارق اللغوية. فليس بامكان الانسان ان يشك باستمرارية الفنون بين اليونان والرومان، وعالم الغرب وامتداده للشرق، وصولا للاداب الرئيسية الحديثة، دون التقليل من اهمية التأثيرات الشرقية والتي تحوي الادب العربي والاسيوي بما فيه الهندي.
لذلك يصبح لزاما الاعتراف بالوحدة الصميمية التي تضم آداب اوروبا كلها مع آداب روسيا واميركا اللاتينية والولايات المتحدة، علما بان علماء الفلكلور هم اول من مارس الادب المقارن، ومعهم علماء السلالات البشرية الذين درسوا بتأثير من “هربرت سبنسر” اصول الادب وتشعباته في اشكال الادب الشفهي وظهوره في الملاحم الاولى والدراما والقصائد الغنائية. ويعتبر كتاب “المحاكاة ” Mimesis للمؤرخ (أريك أورباخ Erich Averbach ” هو تاريخ الواقعية الموثقة من هوميروس الى جيمس جويس، ومن جلجامش وايزيس، الى كل ملاحم العصور الحديثة، حيث يعتمد على تحليل اسلوبي يبين شكل وحدة الحضارة وحيوية التراث في القديم والحديث. اما تأثير المذهب التطوري في الادب والذي اتبعه الاخوين شليغل، وباوترويك، فقد ادى بتزايد النمو الى زيادة التضييق على مجال البحث بدراسة الادب ومقارنته بالاداب الاخرى.
يتساءل “رينيه ويلك “Rene Wellek في حديث له عن الادب : “هل من الممكن ان نكتب تاريخ الادب ونعزل البنية الجمالية عنه؟”. بمعنى انه هل باستطاعتنا ان نكتب ما سيكون ادبيا وتاريخيا معا؟ هذا التساؤل يجعلنا نحدد علاقة الادب كفن تاريخيا، وكيفية تطوره بالمقارنة مع تطور الفنون الاخرى، مثل الرسم والموسيقى.
فاذا رجعنا الى تاريخ الادب سنرى انه اما تواريخ اجتماعية، او تواريخ للافكار، او انطباعات واحكام على اعمال معينة رتبت حسب التسلسل الزمني. فمعظم الدارسين لتاريخ الادب يرجعون اهتمامهم بذلك الى تسجيل ملامح العصور بصدق، للحفاظ على أزهى مفاهيم للاخلاق وأكثرها تعبيرا، الى جانب نقله تصويرا صحيحا للحياة.
ورغم الابحاث الكثيرة عن تاريخ الادب وعلاقته بالواقع الاجتماعي للانسان الا ان ذلك لم يؤدّ بالادب الشفهي الى مقارنته بتاريخ الأداب المكتوبة،(فلسلي ستيفنسين، (Leslei Stevens
يعتبره وظيفة ذاتية لكل العضوية الاجتماعية، وهو نوع من النتاج الثانوي للتغيير الاجتماعي. بينما التاريخ الوحيد للشعر الذي يقوم على المفهوم الموحد لتطوره قد عرّف دراسته على انها دراسة النمو المستمر للمؤسسات القومية، تلك التي برزت في العديد من الاداب، كما انه بحث عن وحدة الموضوع تلك التي يتخذها المؤرخ السياسي في حياة الأمة ككل.
وربما ترجع العوائق الى ان التحليل للاعمال الفنية، لم يتم بطريقة متواصلة ومنهجية، بسبب من قناعة البعض بالمعايير البلاغية والتي تعتبر غير مقبولة من حيث انشغالها المسبق بالصنعة الظاهرة والشكلية، وبسبب اخر يرجع الى لغة لا تستطيع التفاعل العملي مع العمل الفني وتأثيره على الانسان. ايضا من العوائق التي تظهر حول هذا الموضوع، بعض الاراء التي تقول بعدم امكانية وضع تاريخ للادب الا من خلال تفسير مأخوذ من فعالية انسانية أخرى. والاهم هو مجمل المفهوم السائد حول تطور فن الادب، الذي يجد امامه مشكلة في تقصي تاريخه كفن منعزل نسبيا عن تاريخه الاجتماعي.
ولو قورن العمل الادبي الرفيع بالرسم، الذي يمكن ان يُرى بلمحة، لوجدنا ان العمل الادبي لا يمكن تناوله الا من خلال تسلسل زمني، ولهذا السبب فان تحققه ككل متماسك امر اكثر صعوبة. اما اذا شبهنا الفن الادبي بالموسيقى، فهذا ممكن حتى لو لم نستطع التقاطه الا من خلال تواتر زمني.
لذلك نقول ان هناك قلة من الذين يشكون في امكانية وضع تاريخ داخلي للرسم او الموسيقى. ويكفينا ان نشاهد مجموعة من المعارض الفنية مرتبة حسب نظام التسلسل الزمني، او حسب التيارات، لنرى ان هناك تاريخا لفن الرسم متميزا تماما عن كل من تاريخ الرسامين، او عن الحكم والتقدير لاية لوحة من اللوحات.
كما يكفي ايضا ان ننصت لعزف موسيقي، تقدم فيه المؤلفات حسب تسلسلها الزمني، لنرى ان هناك تاريخا للموسيقى، قلّ ان تكون له صلة مع سير المؤلفين ومع الشروط الاجتماعية التي أُنْتجت الاعمال في ظلها، او مع تقدير كل قطعة موسيقية على حدة. فتواريخ الرسم والنحت قد تمت متابعتها منذ ان قدم “كلمان Kelman” بحثه حول هذا الموضوع، كما ان تاريخ الاشكال الموسيقية قد ثبتت، منذ تحديدها من قبل الباحثين الموسيقيين.
أما الادب فنجد ان له انتقالا تدريجيا، من التقارير البسيطة الى أعمال فنية رفيعة التنظيم، على اعتبار ان اللغة هي اداة الادب، وهي ايضا اداة الاتصال اليومي، كما انها اداة العلوم. وربما لهذا السبب كان عزل البنية الجمالية للعمل الفني اكثر صعوبة من الفن الادبي. وربما يظهر ان للفنون الاخرى المغايرة للادب، حالاتها الجدية والصلبة، وان الصعوبات القائمة في التمييز بين ما هو فن وما هو غير فن، من خلال اللفظ اللغوي، لا تتفاوت الا من الناحية الكمية .
ويبقى مجرد تغير الوضع الادبي في زمن معين، بالمقارنة مع ما كان عليه قبل قرن من الزمن، يظل اساسا كاف لتثبيت عملية التطور التاريخي، ذلك الذي يعني شيئا غير التغير، وشيئا أكثر منه قابل للتنبؤ مستقبلا.