وقائع الجلسة الحواريّة حول كتاب الأديب د. جميل الدويهي “المتقدّم في النور” (20)

 

د. عماد يونس فغالي

 

1- النصّ من الكتاب:

 

إنّ الوجوديّة فكرة عميقة، لكنّها تطمح إلى حرّيّة الإنسان. فإلى أيّ مدى يستطيع البشريّ أن يكون حرّاً؟ هل يمكنه أن يحدّد سنوات عمره ويبعد الموت عنه؟ هل يستطيع أن يمنع العاصفة أن تهبّ لأنّه يريد أن يذهب في نزهة إلى الحقل؟

إنّ الحرّيّة التي تطالب بها الحكمة هي حرّيّة معقولة لا تؤدّي إلى خراب المجتمعات، وهلاك البشر، وتمنع الاعتداء والفوضى. أمّا حرّيّة سارتر فغير مقيّدة بحدود مرسومة. وهي تعني من دون شكّ الفوضى وانهيار القيَم. وإذا كان الخيار بين أن نكون أحراراً بالمطلق ونرتكب الفظائع، وبين أن نتمتّع بحرّيّة تحرسها الدولة والقوانين والأخلاق، فالخيار الثاني أكثر وعياً وفائدة.

 

2- مطالعة د. عماد يونس فغالي:

 

الحريّة، فلسفةٌ وجوديّة في ملء إنسان، الفكر الدويهيّ أنموذجًا!

يطرح الدكتور جميل الدويهي إشكاليّتَه منذ الجملة الأولى، وهي إشكاليّةُ الإنسان في هويّته: وجودُ الإنسان وحرّيّته. وترافقت فكرةُ حرّيّة الإنسان إشكاليّةَ وجوده الأولى.

يبدأ النصّ بطرحٍ فكريّ يطالُ الوجوديّة لا واقعًا، بل دعوةً إلى بحثٍ في عمق. كأنْ ينحى إلى فكرٍ وجوديٍّ يؤسّس لوجودٍ فكريّ، حدّ تفكيريّ! ويربطُ صاحبُ النصّ الوجوديّة مباشرةً بحريّةِ الإنسان. “الوجوديّة… تطمح إلى حرّيّة الإنسان”، ويسأل “فإلى أيّ مدى يستطيع البشريّ أن يكون حرّاً؟” مفصّلاً بعده تساؤلاتِه: “هل يمكنه أن يحدّد سنوات عمره ويبعد الموت عنه؟ هل يستطيع أن يمنع العاصفة أن تهبّ لأنّه يريد أن يذهب في نزهة إلى الحقل؟”

يكتبُ الدويهيّ هويّتَه الفكريّة، كأنْ يبدو منتميًا إلى الفلسفة الوجوديّة، الباحثة في ارتباط الإنسان بأساس وجوده وبوجوده أساسًا لكلّ هويّةٍ تحدّده! ويقوده سيرُه إلى العمق نحو الإشكاليّة الكبرى: الوجود البشريّ حرٌّ في تكوّنه وطبيعته؟وكيفيّة قياس حريّةِ الوجود البشريّ. أو في أضعف الإيمان، مدى ارتباط الوجود بالحريّة. الإنسان في تكوّنه، تميّزَ بالعقل المعرفيّ، الأعطاه رؤيةً اختياريّة شاملة. هكذا تشكّل كائنًا حرًّا في شخصه.

يقول الفيلسوف الفرنسيّ جان بول سارتر: “الحرّيّة هي جوهر الإنسان وماهيته في هذا الوجود… لأنه هو الحرّيّة ذاتها…. لا يمكن للإنسان أحياناً أن يكون عبدًا، وأحياناً أخرى حرًّا. فهو إمّا أن يكون حرًّا تمامًا وإلى الأبد، أو ليس حرًّا على الإطلاق. والحقيقة أنّ الإنسان كائن حرّ، وما يقوم به من أفعال هو تأكيد هذه الحرية…”

أعطت الفلسفةُ الوجوديّة مفاهيمَ للفرد خصّتْ حريّتَه، راحت حدَّ العقيدة، كم فعلتْ في المجتمعات فعلَ ما اعتُبرَ فضيحةً، لِما استباح روّادُها التسمّى مسلّماتٍ مجتمعيّة ودينيّة وغيرها.

على الصعيد الجماعيّ، التزم الإنسانُ حدودًا تصوّرتْ عامّةً، هي في الحقيقةِ وقوفٌ عند مساحاتٍ، إتاحةَ مجالٍ للآخر في ممارسة “حريّته”. لكن من افترضَ أنّ في هذا اقتصاصٌ من حرّيةِ الفرد؟!

في عَودٍ إلى النصّ الدويهيّ، يطرحُ أديبُنا حدودًا طبيعيّة للحريّة الإنسانيّة. الطبيعةُ، المناخ، ليسا تحت سيطرة المرء متى أراد تغييرًا لصالحه. هذا يُخضعُ حريّةَ الناس ويقيّد إرادتهم ويحدّ من تدبيراتهم. المجتمعُ أيضًا، الجماعة الينتمي إليها الفردُ تلزمه بمعاييرها، قوانينَ وتقاليد وممارسات. يلتزم الفرد بمسار الجماعة عمومًا. هذا لا يعني عدم تميّزه، أو عدم نضاله للتعبير عن نفسه وتطلّعاته وفقَ إرادته النابعة من فيضِ حرّيّةٍ رافقته هويّةً.

يقول الدويهي “بحرّيّة تحرسها الدولة والقوانين والأخلاق”، ويعتبرها “أكثر وعيًا وفائدة”، في مقارنةٍ مع حرّية “الفوضى وانهيار القيَم… تؤدّي إلى خراب المجتمعات”. طبعًا لا نقاش في خيار الدويهي، إذا كنّا على صراط الإنسانيّة ودعاة الخير، هذا اليتطلّبُ منذ البدء نشأةً وتنشئة وفق منظومة قيَميّة تؤسّس لمجتمعاتٍ تتآخى مع ارتقاء يطال الساميات. المصطادون في الماء العكر لن يوافقوا على مقولتنا أعلاه، لِما تضرّ منافعَهم الدنيا!

نصّ الدويهي، إن نقرأْه مَرًّا سريعًا، نشعرْه بديهًا… قاربْه في المضمون، تغُصْ في كينونة الإنسان، لكن تتلقَّ دعوةً إلى سلوكيّاتٍ تكتسبها، بل يجب، لأنّ الحريّةَ انتظامٌ ومسار. هكذا فقط تحيا حرّيّتك بحرّيّة…

جميل الدويهي اختار ما دعاه في ختام نصّه “الخيار الثاني”، لأنّه في قراءةٍ سريعة، عانى الفوضى والاعتداءات. لكن في الحقيقة لم يكن خيارُه انزياحًا، بل حرّيّةً بناها على سلّمٍ أخلاقيّ نشأ عليه وصقله. بناه على محبّةٍ أرادها بوعيٍ قاده إلى عيشها. يعرف الدويهي كم مكلفةٌ مساراتُ الخير وشائكةٌ دروبه. لكنّه اختارها بحرّيّته يعيشها من دون شعورٍ بقيدٍ يحول دون جمالاتٍ يجنيها!

يدخلُ الدويهيّ الفكرَ الوجوديّ من باب الحرّيّة الإنسانيّة، لا ليخوضَ المجالَ فيلسوفًا، وإن له نظرتُه الصائبة. إنّه يفعل من فيضِ خبرته العميقة في الحياةِ الإنسانيّة ومخزونه المعرفيّ، فلسفةً وأدبًا الخاضا الوجودَ بأسره مادّةً دائمة لفكرٍ لم يرتوِ بعدُ، لكنّه غوصٌ بحثيٌّ مستدام دوامَ الإنسان!

جميل الدويهي، تبقى القضيّةُ الوجوديّة عالمًا عميقًا في الفكر الفلسفيّ، لكنّها طبعًا إن راحتْ في حرّيّة، لا بدّ تنحى على يدكَ نحو الإنسان في ملئه… بتعبيرٍ آخر، متى ارتقت الحرّيّة  بالإنسان، كانت صالحة، وإلاّ لا قِبلَ للدويهي بمقاربتها!

***

*مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع

 

اترك رد