الإعلام العاجز والمهنية المفقودة

بقلم: د. مي عبدالله

 نحن في لبنان نرفض الاستسلام للواقع العام الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط، كما نرفض الاستسلام لمشهد الفساد الذي يطال الإعلام في لبنان، ويكاد mayيطال كل مجالات الدولة وقطاعاتها ويشمل المجتمع برمته. وكم سال حبرُنا انتقاداً لغياب الدور المطلوب لوسائل الإعلام والاتصال في التنمية الاجتماعية، وكم تعب لسانُنا في النقد المباشر والتعليق والتحليل!

لكننا مطالبون بالاستمرار، كما نحن مطالبون بالإيمان بدورنا ومسؤوليتنا كمفكرين وباحثين وإعلاميين وتربويين في هذه المرحلة بالذات من تاريخ الوطن، وتاريخ منطقة الشرق الأوسط والإنسانية بأجملها.. نعم مؤمنون بضرورة الاستمرار في الكلام ومحاولة القيام بالفعل الى جانب الكلام بأية طريقة وبأية وسيلة… والعلم بنظرنا هو اليوم الوسيلة الأفضل وقد يكون الوحيدة! والاتحاد حول العمل للمعرفة والعلم هو خلاص أوطاننا.

 والإعلام اليوم عاجز، ويفتقر الى المهنية، والمهنية طبعاً لا يمكن حصرها بتحقيق السبق الصحفي أي أن يسبق الإعلامي زميله في نشر الخبر. فمفهوم السبق في الإعلام ظهر مع الصحافة أولاً، عندما لم تكن تعرف المجتمعات كل وسائل الاتصال الحديثة الخطيرة المتعددة الاستخدام المتخطية لحدود الزمان والمكان. والسبق في الصحيفة لم يكن بخطورة السبق في التلفزيون المباشر والإذاعة والوسائل التفاعلية الحديثة المتعددة… وكان السبق يعتبر من القوانين والشروط للمهنية الإعلامية باعتبار الخبر الصحفي العمود الفقري لكافة الوسائل الإعلامية، لأنه يحمل في ثناياه الجديد والمتجدد من الوقائع، وينقل توضيح وتفسير تفاصيل الأحداث. وبالتالي اعتبر أن الخبر الصحفي يمتاز بخطورته لأنه يحمل في ثناياه المعلومات الدقيقة عن أحداث هامة تقع في أرجاء العالم، ويؤثر بشكل مباشر في المواقف والمصالح الدولية، كما يلعب دوراً كبيراً في تحديد المواقف الدولية من الأحداث من خلال مدى التأثير السلبي أو الإيجابي بأبعادها.

وفي الحقيقة، إن الغاية الأولى من الوسيلة الإعلامية هي جمع الأخبار التي تمس الصالح العام، ومصادر الخبر متعددة منها الداخلي، حيث يعتمد على مندوبي الصحيفة في جمع هذه الأخبار وتزويد الوسيلة الإعلامية بها، ومنها المصادر الخارجية، حيث تعتبر وكالات الأنباء العالمية مصدراً رئيسياً لجميع الأخبار الخارجية، بالإضافة للمراسلين الخاصين بالوسيلة الإعلامية… ويجب على الصحفي عند نقله لخبر معين أن يتوخّى الدقة، ويتحرى عن مدى صدقه، لأنه قد يؤدي بالتالي إلى توتر العلاقات بين الأفراد أحياناً وبين الدول أحياناً أخرى، مما يؤثر سلباً على المصلحة الوطنية. فالإعلامي أثناء تقصّيه للأخبار يجب عليه أن يكون قادراً على الحكم على مدى صدق الخبر، وبعد ذلك يقوم بكتابته، كما أن الأخبار يجب أن تكون ذات مصداقية وتحمل الأسلوب المشوّق. ويعتبر نشر الأخبار المجهولة والوقائع المبتورة وغير الصحيحة من أشد المخالفات لمبادئ آداب المهنة التي توجب المسؤولية، والخبر المجهول هو ليس الخبر غير المستند لمعلومات واضحة المصدر، ولكنه غير المعروف محله، فالكثير من الإعلاميين يعمدون إلى التعمية على ما يتناوله الخبر للوصول إلى هدفين، الأول الإفلات من عقاب القانون إذا ما تضمّن الخبر قذفاً أو سبّاً أو انتهاكاً للحق في الخصوصية، أما الهدف الثاني فهو تفويت حق الرد والتصويب، فما دام ما يتناوله الخبر غير معروف، فإن إلزام المؤسسة الإعلامية باحترام حق الرد لا يكون بدوره ملزماً.

لكن رسالة الإعلامي تقتضي في زمن السرعة الإعلامية والتكنولوجيا، الدقة والموضوعية، وإن ممارسته تستوجب التأكد من صحة المعلومات والأخبار قبل نشرها.

أما بالنسبة للتغطية الإعلامية الحالية للأحداث في لبنان، فهي بناء على ما سبق غوغائية ومقصّرة بطبيعة الحال، وتتعامل مع السبق الصحفي بغياب تام للمهنيّة، في كنف المشهد السياسي العام المظلم وغياب سياسات التخطيط والانماء كما كررنا مراراً.

صحيح أن التغطية الاعلاميّة تختلف بين وسيلة وأخرى وفق التوجهات السياسية والمواقف المؤيدة والمعارضة، إلا أن حجم المعاناة الإنسانية لا يفرض في هذه التغطية معاييره وقوانينه الخاصة، ولا تتخطى التغطية المنطلقات الوصفية أو السياسية أو العنصرية الى تغطية إنسانية مهنية تلحظ الحاجات والتحديات والحلول وتستند الى قيم حقوق الإنسان وسبل العيش بكرامة.

كما أن الأزمة التي نعيشها اليوم في لبنان هي في غاية الخطورة، والموضوع السوري مثلاً هو مهم سياسياً واجتماعياً ويجب مقاربتُه في الإعلام بمهنية أكبر وانطلاقاً من قيم حقوق الإنسان، للإضاءة على الحاجات والحلول. الى جانب الوضع الأمني الذي يحتاج الى سياسات لتغطية خاصة به، وقواعد ومعايير تراعي الموجبات والحاجات والمحاذير الأمنية، إذ ان الإعلام هو شريك أساسي في نقل الحدث، وأيضاً في طبخه وصناعته، ولا يجوز أبداً أن تتم هذه العمليّة بعشوائية، وبهدف كسب السبق الصحفي، والأمن والإعلام بنظري موضوع واحد، ومن يتلاعب أو يستخفّ بالموضوع الإعلامي كمن يستخف ويغامر بالموضوع الأمني بالضبط. فالخبر عن انفجار هنا وانفجار هناك، لا يجوز أن يتم بغياب الدقة والتروي والتأكد من المعلومات ورعاية الجانب الإنساني واحترام مشاعر الناس. فإلى جانب الموضوع السياسي والأمني، لا بد من الإشارة الى الموضوع الاجتماعي، حيث أن الإعلام مسؤولية اجتماعية كبرى وطريقة نقل الخبر وتغطيته لا بد أن تكون راشدة ودقيقة وخاضعة للدرس والمراقبة بمسؤولية كبرى في خدمة المصلحة العامة، فهي مؤسسات عامة خطيرة مقيَّدة بالعقد الاجتماعي ولا يمكنها الانفلات من هذا العقد أو عدم احترامه!

وكل هذا يجعل مسائل التنظيم والبحث والتخطيط لقطاع الإعلام والاتصال من المسائل الضرورية للنهوض بالوطن أو المحافظة عليه، ونكررها لأننا بالفعل مصمّمون على العمل، ومتمسّكون بالإيمان بالفكر الحر في لبنان!

اترك رد