في بعض مكوّنات الوعي العربي (*)

بقلم: الباحث خالد غزال

منذ سنوات والمجتمعات العربية تخضع إلى موجاتٍ متلاحقة من الضخّ الإعلامي الهائل والسريع، تضطلع به الفضائيات العربية ذات الطابع السياسي khaled-ghazalالمحض على اختلاف توجهاتها وأهدافها؛ تاركةً بالقطع آثارها الإيجابية والسلبية على المتلقي العربي.فمن جهة أتاحت هذه الفضائيات له حيّزاً من الاطلاع على الأوضاع السياسية العربية والتعبير عن آرائه الحرّة بهذه الكيفية أو تلك، لكنها في المقابل، ومن خلال الكثير من البرامج السياسية، “التوك شو” تحديداً، كشفت عن جانبٍ سلبي للغاية، يتمثّل في اللغة المستخدمة في السجالات الدائرة، والتي انحدرت إلى مستوى من السوقية والابتذال كادت معهما فسحة الحرية تتحوّل إلى مجرد سيرك كلامي هبائي.

من الطبيعي أن تتأثر القيم المجتمعية في كلّ بلد بهذا الاختراق المتبادل، وأن تتعرّض لرضّات، منها ما هو سلبي رفضاً للوافد الجديد من أفكار ومثل وقيم، ومنها ما هو إيجابي يرى في الاحتكاك الحضاري انتقالاً للمجتمع إلى مرحلة متقدمة في التطور والحداثة.

لم ينجُ بلد أو مجتمع من آثار هذه الثورة التكنولوجية على صعيد الأفكار والعادات والتقاليد والقيم، كما لم ينجُ بلد من ردّة الفعل عليها. لم يكن الوطن العربي بعيداً عن التأثر بمنتجات هذه النقلة العالمية، كما واجهت ثقافته، وما تزال، الارتدادات التي تسبّب بها الاحتكاك الحضاري بمجتمعات أخرى، وردود الفعل المتعدّدة الاتجاهات، بحيث يطرح سؤال اليوم عن الثقافة العربية بشكل عام، وعن الذهنية السائدة التي تحكم سلوك المواطن العربي بشكل خاص. وهو تساؤل يذهب بعيداً حول التقدم والتخلف في المجتمعات العربية، وأسباب ديمومتها، وصولاً إلى التساؤل عن الحدود التي استطاع فيها العرب دخول العصر، وتعيين المعوقات الثقافية التي تحجز العقلية العربية في إسار ماضوي متمترس عند مفاهيم ترفض التكيّف مع التغيرات التي يشهدها العالم كل يوم.

أول المحدّدات في تكوين الذهنية العربية، ومعها الوعي في الزمن الراهن، هو وسائل الإعلام المرئية، وعلى الأخصّ منها التلفزيون بقنواته المحلية والفضائية بشكل أدق. فقد أثبتت تقارير صادرة عن مؤسسات بحثية أن 90% من المكونات الثقافية للإنسان العربي يحصلها من مشاهدة برامج التلفزيون. وهو أمر يطال مختلف الأجيال من الأطفال الى الكهول دونما استثناء، ما يعني أن النظر في ما تبثّه هذه القنوات يشكل مادة تساعد في تحليل الذهنية السائدة وميادينها، بسلبياتها وإيجابياتها.

تُخضِع وسائل الإعلام المواطن إلى برامج تتحكّم فيها المنفعة المادية التي ستجنيها هذه المحطة، بصرف النظر عن انعكاسات مضمونها على الجمهور. تتمحور البرامج المحلية عادة على برامج ترفيهية أو استعراضية وغنائية، ويذهب بعضها إلى استحضار قضايا تاريخية أو مشكلات اجتماعية، فيما تستقطب البرامج الترفيهية معظم المشاهدين، لأنها تشكل مادة إعلانية جاذبة. تزاحم البرامج الأجنبية هذه البرامج المحلية وتطغى عليها بشكل كبير. من المعروف أن النتاج التلفزيوني الأجنبي غني في برامجه ومتنوّع في موضوعاته، ويملك قدرة في جذب الجمهور، لا مجال لمقارنتها بقدرة البرامج المحلية. ينظر الباحثون الاجتماعيون إلى التأثير الذي تتركه البرامج الأجنبية على الذهنية والثقافة والعقلية المحددة للمواطن. تثار في هذا الجانب قضية الاختراق الثقافي، والمس بالقيم المحلية، ولجوء المواطن العربي إلى تقليد ما هو وارد من أفكار ومفاهيم في هذه البرامج. تمارس البرامج الغربية، وعلى الأخص الأميركية منها، ما يطلق عليه اليوم “الغزو الثقافي”، وهو غزو لا يقتصر على المجتمعات العربية، بل يمتد إلى مختلف المجتمعات العالمية، حتى أن أوروبا تشكو من سيطرة البرامج الأميركية على جمهورها، ويناقش مفكروها الانعاكاسات السلبية لهذه الثقافة الواردة على القيم الثقافية الأوروبية السائدة والموروثة.

في المقابل، لا يجوز الاستهانة بالدور المهمّ الذي تلعبه وسائل الإعلام في تكوين الفكر السياسي العربي من جهة، وفي التأثير على الحياة السياسية العربية من جهة ثانية. وفي الإيجابي، الذي يصعب تجاهله، أن وسائل الإعلام هذه أتاحت للمواطن العربي حيّزًا من الاطلاع على الأوضاع السياسية، وأتاحت حداً من التعبير الحرّ عن آرائه، وأسهمت أيضاً في التأثير على كثير من الممارسات السياسية للسلطات القائمة، وتعديل قراراتها. إذ تحتلّ البرامج السياسية حيّزاً رئيساً في هذه الوسائل، وتستقطب جمهوراً واسعاً لا يقلّ عمّا تستقطبه برامج الترفيه والتسلية. هكذا ساعدت القنوات المحلية والفضائية في تكوين رأي عام، بصرف النظر عن المادة السياسية التي يعتنقها كلّ واحد. وهو أمر أمكن إنجازه، على الرغم من القيود والممنوعات التي لا تزال تجد وسيلة للفعل، والحدّ من التعبير الحر والصادق عن الحقائق. ولعل الانتفاضات التي شهدها بعض المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة، تدين بجزء من نجاحها، إلى هذا الدور المهمّ لوسائل الاتصالات على مختلف توجهاتها.

لكن ما يؤخذ على بعض هذه البرامج، هو التغييب شبه الكامل للمشكلات البنيوية للمجتمعات العربية، إضافة إلى الحيّز القليل الذي يعطى لقضايا الديمقراطية والحريات السياسية. لذا تبدو هذه البرامج محكومة بقيود محدّدة، لا يمكن تجاوزها إلا في ما ندر. والأسوأ من ذلك أن البرامج السياسية والسجالات التي تدور في رحابها تتكشف كل يوم عن مستوى كبير من عدم الموضوعية أو الرصانة، من حيث اللغة السوقية المستخدمة، ورفض الاستماع إلى الآخر، ومنعه من التعبير عن رأيه، بما يحوّل هذه البرامج أحياناً إلى ما يشبه “السيرك”. ولا تساعد أغلب البرامج السياسية في تكوين ثقافة سياسية متنوّرة، بمقدار ما تؤجّج الصراعات، وتعمّق النزاعات، وتشوّش من الفكر أكثر ممّا توضّح.

 معضلة البرامج التعليميّة

 إذا كانت وسائل الإعلام المرئية تشكّل العامل الأهمّ في تكوين الذهنية العربية، إلا ان طبيعة البرامج التعليمية السائدة لا تقل تأثيراً في سلبياتها أحياناً. ما يزال بعض البرامج التعليمية أسير التلقين والحفظ الغيبي، بعدما طوّر بعضها الآخر ذاته نحو البحث والتحقيق بما يبلور شخصية منتجة وليست متلقنة. يضاف إلى ذلك بطء الإفادة من منجزات الثورة العلمية والتكنولوجية للارتفاع بمستوى التعليم. هذا في وقت تبدو فيه هذه البرامج غير منسجمة تماماً مع حاجات المجتمع ومتطلباته وموجبات تقدمه، ما يعني تخريج دفعات كبيرة سنوياً من العاطلين عن العمل.

ومن تجليات هذه الذهنية أيضاً، سيادة حالة من اليأس والإحباط عند المواطن العربي ممّا هو مسيطر من جهة، ومن الإحساس باستحالة التغيير نحو الأفضل من جهة أخرى. وتلائم حالات الإحباط القوى التي تشكل مانعاً من العمل على تغيير الأوضاع السائدة، والساعية إلى الإبقاء على الأوضاع الراهنة. ويتعزّز ذلك في ظل المسار الذي تتخذه الانتفاضات الراهنة، من خلال انفجار المجتمعات العربية وسيطرة الاحتراب الأهلي عليها.

في ظل هذه العقلية والوقائع السائدة، تزدهر ثقافة الطوائف والملل والنحل، وتسود مفاهيمها وقيمها، وخصوصاً أنها تحولت إلى سلطات فعلية يلجأ إيها المواطن طلباً للحماية الشخصية، ووسيلة للارتقاء الاجتماعي، وسبيلاً إلى تأمين موارد العيش. يتغذى هذا الموقع للجماعات من إنتاج مثقفيها أو من التحاق من كانوا خارجين عنها، وقد دفعهم انهيار مشروع الحداثة والتقدم الى الارتداد عن مواقعهم والالتحاق بـ”جماعاتهم”.

لا شكّ أن الشعوب العربية تعيش مرحلة حساسة من تاريخها، يصعب القول كم ستدوم قبل أن تستقر على مسار محدّد. إنها تواجه تحديات على مختلف المستويات دونما استثناء. فهل يمكن القول إن أملاً ما في تجدّد مشروع نهضوي قد يقوم؟

الجواب في علم الغيب.

 **********

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة أفق

اترك رد