الكاتب خالد غنّام
1- النصّ من الكتاب:
“-أنت يا سيّدي تعارض جبران…
-ليس في كلّ شيء. جبران لم يكن فيلسوفاً، بل كان مفكّراً، وضمّن كتبه مفاهيم يؤمن بها كالتقمّص سبع مرّات، ثمّ الحلوليّة. ونحن نعرف أنّ الإنسان لا يحلّ في الله ولا يصيران واحداً بعد الموت. وأعارضه في نظرته إلى الخير والشرّ، ولا أوافق على أنّ الشرّ هو خير متألّم، فالشرّير يجب أن يلقى عقاباً رادعاً، لكي يستقيم المجتمع ولا تحلّ الفوضى.
-وهل كان نعيمة أفضل منه؟
-نعيمه يؤمن بالتقمّص أيضاً. وكان يعتقد أنّ الإنسان إله منذ ولادته، وهو يتدرَّج من الحيوان إلى الإنسان فإلى الله. وهو مُعَدٌّ لأن يصبح في النهاية إلهاً يتحكّم في كلِّ شيء ولا يتحكم فيه أيُّ شيء. لا فارق عند نعيمه بين الخالق والمخلوق، وليس عنده خالق أو مخلوق، بل قدرة تتّسع، وتعبِّر عن ذاتها في المحسوسات.
لا يختلف نعيمه عن جبران في نظرته إلى الإنسان الإله، وإن تكن الوسيلة لتحقيق هذا الإنسان مختلفة.
وقد تنسّك نعيمه في الشخروب، والنسك ليس طريقة فضلى للمشاركة في الحياة. ونحن لسنا متصوّفين، ونؤمن بأنّ الاختلاط بالناس يجعلنا نفهمهم أكثر، ونخدمهم ويخدموننا. ولا نرفض الزواج كما رفضه نعيمه، لاعتباره أنّ على الإنسان المتغلّب، التوّاق إلى المعرفة، أن يتخلّص حتّى من قيود الزواج، لأنّ الحياة في أسافلها لا ذكر ولا أنثى، ولذلك سوف تنتهي في أعاليها لا ذكراً ولا أنثى. وعلى الإنسان أن يتغلّب في هذه الحياة على الازدواجيّة ليصل إلى الأحديّة… فما الذي يُثبت أنّ الزواج يمنع المرء أن يكون متغلّباً؟ ولماذا على الإنسان أن ينتصر على الازدواجيّة، ولا ينتصر على الأحاديّة؟
“خلاصة ما فهمناه، يا معلّمي، أنّك ترفض كلّ فلسفة”… ارتفع صوت أحد التلاميذ الجريئين. فالتفت إليه الكاهن ورمقه بنظرة حانية، وقال له:
-لست أرفض كلّ فلسفة. بل آخذ منها ما يفيدني. فالمعرفة تضيف إلى العلم ولا تفسده. غير أنّ الحذر واجب، فليس كلّ ما قيل صحيحاً. وفي ضوء الحكمة نتقدّم إلى النور، ولا نصفّق لكلّ رأي، فبعض الآراء خطيرة على العالم، وقاتلة للإنسان”.
2- مطالعة الكاتب خالد غنّام
نقد النقد في كتاب “المتقدّم إلى النور”
تهرول الكلمات صعوداً لقاعدة المعرفة، في أدب حواريّ رفيع المستوى، له بناء روائيّ متسلسل، لمن يبحث عن فهم أفضل للاستنتاجات المتصارعة للمصطلح الواحد… ينثرها الدكتور جميل الدويهي على شخصيّات اعتباريّة، من ضمن مدرسة فكريّة راسخة في فهم وتحليل عقلانيّة الإنسان، ودوره في الكون.
إنّ تبسيط الأفكار الكبرى، عبر تفكيكها إلى حوار مسرحيّ ذكيّ، يدفع القارئ نحو تشويق فضوليّ لمتابعة القراءة، ورفع أصبع الإبهام تأييداً، لا رفع أصبع الاستفهام طلباً للتوضيح، في جدليّة نقد المألوف، وتغليب تعايش الأفكار على التعصّب الأعمى لمدرسة فكريّة ما، ورفض تبنّي أيّ أفكار تناقضها، حيث أنّ كلّ شيء صائب دون أن يكون مناسباً، وليس كلّ شيء صحيح له نقيض خاطئ… هذه الليونة في تقبّل الأفكار الجديدة، تجعل أفكارنا تتحرّر من قيود فرضها علينا الآخرون، بقصد تحصيننا من المفاسد، إلاّ أنّها أحياناً تحبسنا في قمقم المهالك.
فالعلم يبقى ناقصًا بدون وجود معلّم ومتعلمين، وذاك المعلّم بحاجة ماسّة إلى الاستزادة بعلم جديد، فلا حدود لشجرة المعرفة، فهي كلّ يوم تنبت أوراقاً بحثيّة جديدة، وعليها تتفتّح أزهار أفكار حالمة، ومنها نقطف ثماراً، استنتاجات مهمّة.
سعى الدكتور جميل الدويهي إلى تخطّي مفهوم النظريّات الجامدة، والتي كان لثبات أفكارها، اغترابيّة عن الواقع. ورغم أنّها في الماضي كانت تُصنَّف على أنّها أفكار تجديديّة حداثيّة، إلا أنّها لا تناسب الواقع الذي نعيشه. ونحن نستفيد من آليّات التحليل الفلسفيّ، وأساليب استباط الأفكار الابداعيّة من مفكّرينا العظام، أمثال جبران ونعيمة.
نقد النقد من الفنون الموضوعيّة المهمّة جدّاً، فهو بحاجة لمعرفة تراكميّة كبيرة، لا يستطيع الوصول إليها المفكّر العاديّ. هذا الفنّ الذي تعلمته من كتاب “تهافت التهافت” لابن رشد، علّمني أنّ حصر فكرنا داخل إطار الأفكار المألوفة، يحول بيننا وبين إبداع أفكار جديدة. فعندما ترفض شخصيّات المتقدّم في النور إزداوجيّة علاقة الانسان والإله، يأتي رفضها من باب رفض أحاديّة الحلول… فلا بدّ أن تبقى خيارات الحلّ مفتوحة، ونسمح لأنفسنا بأن نبحث عن أفكار خارج صندوق أفكارنا العتيقة، فهناك الكثير من الأفكار التي نبصرها ولا نراها، إلاّ إذا نظرنا بعمق نحو الصورة الكبرى للحقيقة؛ صورة تجعل منهل العلم لا ينضب، فالأفكار الجديدة تولد كلّ يوم. وإنّ عظمة الإنسان أنّه يجدّد أفكاره باستمرار، دون أن يرفض كلّ الأفكار القديمة؛ فبعض الأفكار القديمة هي مثل النبيذ المعتّق الذي ينافس أحدث أنواع النبيذ، ذات الشهرة العالميّة.
***
*مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع
*تنشر وقائع الجلسة في كتاب يصدر قريباً عن أفكار اغترابيّة للأدب الراقي.