الدكتور المهندس ممدوح سكّريّة
1- النصّ من الكتاب
-وماذا عن المساواة بين البشر؟… هل ترفض أن أكون الملك وهؤلاء الناس تابعين؟
-أبداً، لا أرفض ذلك، فمن طبيعة الأمم أن يكون هناك حاكم ومحكوم. ولو تركنا البشر يعيشون كما يحلو لهم، لتحوّلت الأرض إلى غابة ليس فيها نظام. ضرورة الحكم كضرورة الثواب والعقاب. وقد طوّرَ البشر الأنظمة لكي نعيش في أمن وسلام. وفي هذه المدينة، كما في كلّ مدينة، لا يعفو القاضي عن الأبيض لأنّه أبيض، ولا يدين الأسود لأنّه ابن امرأة سوداء. ولا يضطهد الغنيّ الفقير لأنّه أغنى منه وأقوى سلطة. والمجرم ينال عقابه لأنّه أفسد في الأرض، كما أنّ الخيّر يجب أن يُكافَأ لأنّه نشر الخير والبرّ. لكنّ المساواة لا تكون في كلّ شيء، فالجبان ليس كالبطل، والكاذب ليس كالصادق، والركيك ليس كالمبدع، والثرثار ليس كالفيلسوف. ولا يجب أن تسمح المساواة بأن يقال إنّ العوسج اليابس الذي تنفخ فيه الريح، أجمل من الياسمينة التي تملأ الجوّ بعطرها…
كان في السوق تاجران، أحدهما في حانوته كثير من البضائع الغالية، والآخر لا يحتوي حانوته على شيء له قيمة. وفي ذات يوم، جاء الحاكم إلى السوق، فأجزل العطاء للثاني، ومدحه لاجتهاده. فاغتاظ صاحب الحانوت الذي فيه أشياء ثمينة، واعترض على ما رآه، فخاطبه الحاكم بالقول: يا لك من تاجر جشع! ألستُ حرّاً في أن أكافئ مَن أريد؟
قال التاجر الأوّل: بلى يا سيّدي، أنت حرّ… ولست طامعاً في كرمك، فإنّ عندي خيراً كثيراً… إلاّ أنّني أخشى أن يصير ما فعلتَه أمراً مألوفاً… فيدأب الناس على تكريم العاجز، وجعله في مرتبة أعلى من السابق والمتقدّم… ويشتهي العظيم عند ذلك أن يتساوى مع الحقير، ويُطالب العندليب المغنّي بأن يتساوى مع البومة التي تنعق على الخرائب…
ليس من الغرابة، يا مولاي، في مجتمع وصلت فيه المساواة إلى حدّ الاحتقار، أن لا يكون المجد للذين يُبدعون ويطوّرون الحياة، بل الغرابة أن يكون المجد لمَن لا يبدعون سوى النوم والفشل.
-هل أنت مؤمن بالله كما البشر مؤمنون؟
-كلاّ يا مولاي. لا أشبههم. فصاحب المال يريد إلهاً يحفظ ماله ويزيده غنى، والبحّار يطلب إلهاً يعينه في البحر ويردّ عنه العواصف والأعاصير، فتعود سفينته بسلام إلى المرفإ… والحانوتيّ يصلّي لإله مناسب لبيعه وشرائه. أمّا إلهي فعظيم ومبدع. ولا أحبّه من أجل نفسي، بل من أجل الآخرين، ولذلك لا يهملني ولا يغيب من حولي.
2- مطالعة د. سكّريّة
بداية أجمل وأعطر التحيّات، لهذه الوجوه الطيّبة. لهذه الوجوه السمحة الفرحة. كلّ التحيّة إلى نخبة لها باع طويل في مجالات الأدب والفنّ والثقافة، والشكر الخاصّ إلى صاحب هذه الدعوة الكريمة لهذا اللقاء الثقافيّ الراقي، الأديب الدكتور جميل الدويهي الذي يسعى دائماً إلى الارتقاء بالأدب المهجريّ بشكل خاصّ، والأدب بشكل عامّ، إلى مستويات راقية تثلج القلوب بجذوة المحبّة، وتداعب الأحاسيس الجميلة، وتدغدغ الشعور بنشوة فيّاضة لا تنضب من خيال المتلقّي، إلى أن يلتقي بالخالق.
أيّها الأصدقاء،
من الصعوبة أن يغوص الأكاديميّ أو الناقد في أعماق ورؤيا أيّ أديب، من خلال نصّ لا تتعدّى كلماته 350، ولكنّي من حسن حظّي، متابع جيّد لأعمال الأديب الدكتور جميل الدويهي، بكافّة أنواعها، وأقدّر عالياً مستواها الإبداعيّ الرفيع، والتي أراها نابعة من صميم أحاسيسه ومشاعره، ومرآة لشخصيّته، وصورة رمزيّة عنها. وهنا أستعير ممّا قاله سيغموند فرويد للتأكيد:
“أنّ العمل الأدبيّ هو عملٌ غنيّ بكثير من الخفايا، إذ يكمن فيه كلّ ما ترغبه النفس وتفكّر به وتتمنّاه، ولا تكون الرغبة رغبة إذا ما منع حدوثها مانع دينيّ أو أخلاقيّ اجتماعيّ. يدرس المنهج النقديّ النفسيّ اللغة الأدبيّة ليتوصّل إلى ما يضمره الإنسان من رغبات داخل نفسه.”
وإذا تناولنا مقطعاً من نصّ الأديب د. الدويهي: “وماذا عن المساواة بين البشر؟… هل ترفض أن أكون الملك وهؤلاء الناس تابعين؟” نرى أنّ أفكار الدكتور الدويهي تعبّر بسلاسة عن مكنونات داخليّة، وعن خلاصات حياتيّة مهمّة، استقى منها الحكمة والنصح والثقة، وصاغها بطريقة حواريّة جميلة واضحة المعاني، سهلة الفهم، فريدة الصياغة، غنيّة المفردات… فمثلاً يقول: “لا يعفو القاضي عن الأبيض لأنّه أبيض، ولا يدين الأسود لأنّه ابن امرأة سوداء”. في هذه الجملة عادة ما يقال “ولا يدين الأسود لأنّه أسود”، ولكنّه أراد تحريك النصّ، والخروج عن المألوف بقولة: “ولا يدين الأسود لأنّه ابن امرأة سوداء”. وخرق القاعدة في هذه الجملة بنسب الولد لأمّه في نفس الوقت.
كما نجد في هذا النصّ مقارنات رائعة بين الشرّ والخير، وبين الثرثار والمبدع، وبين الجمال والبشاعة، وبين الجبان والبطل… إلخ.
أراد الأديب الدويهي في هذا النصّ الأدبيّ القصير أن يقول: لا مانع من أن يكون في المجتمع حاكمٌ ومحكومٌ، بشرط العدل والمساواة بين الناس. ولكنّ الخلاصة المؤلمة الأخرى التي نستنتجها من النصّ، ومن خلال حوار لطيف بين الحانوتيّ والحاكم، هي كما قال الحانوتيّ:
“ليس من الغرابة، يا مولاي، في مجتمع وصلت فيه المساواة إلى حدّ الاحتقار، أن لا يكون المجد للذين يُبدعون ويطوّرون الحياة، بل الغرابة أن يكون المجد لمَن لا يبدعون سوى النوم والفشل”.
من خلال هذا النصّ، والنصوص الأدبيّة الأخرى، والأشعار التي قرأتها للدكتور الدويهي، أرى أنّه قدّس الكلمة، وغطّى بمنديل الإحساس والشعور ملكاته الابداعيّة، في زمن قلّ فيه الإبداع، وأصبح عدّ النقود أهمّ مكانة من حبّات المسبحة في محراب الإبداع، وفي غمرة هذا الهجوم الكاسح من مواقع التواصل الاجتماعيّ والتكنولوجيا على عقولنا وقلوبنا، حيث سلبوا منّا الرقيّ الإنسانيّ، وحوّلونا إلى أصنام متحجّرة لا روح فيها ولا شعور، في حين كان الشاعر في قديم الزمان مرآة المجتمع، وهُداه، وصوته، ووزيره الثقافيّ والاعلاميّ.
الحضور الكريم،
ما أراه حتّى الآن: ما زال النقد الأدبيّ بعيد التركيز على العلاقة الحميمة بين الأديب ونصّه الإبداعيّ، ولم يدخل إلى الفضاءات الفكريّة للكاتب الذي يسكب من روحه وجعاً وفرحاً، لكي تولد من رحم الإبداع جماليّات لا متناهية من الحبّ والعشق، والألم في بعض الأحيان. فإنّي أرى في نصّ الدكتور جميل الدويهي شخصيّته المحبّبة، وتواضعه المعهود، ولهفته وشغفه للإبداع، وأرى حرصه أن يتعمشق على صهوة نصوصه، ليجول في العالم، ويدهش مَن حوله بما كتب ويكتب، وسوف يكتب.
نهاية لا يسعني إلّا أن أقول:
أيّها الجميل، كم جميل أن تكتنز من الخوابي العتيقة ذهبا،
وترشرش منها في سماء الإبداع شعراً وأدبا
فكان الشعر من قلمك ينساب زاهياً، ويعانق أدبك السحبا…
كم جميل أن أكتب عن جميل
ففي شعره أرى الألق
وفي نثره يزهو الياسمين والحبق
وتبدو القوافي زاهية تدغدغ الفؤاد وتنعش الرمق
وفي نهضة الأدب إلى المجد حلّق.
أيّها الأصدقاء،
معكم يحلو اللقاء
والشكر كلّ الشكر لحسن الإصغاء…
وأكرّر شكري د. الدويهي. فعلاً غمرتنا بلطف استقبالك، وعفويّة ترحابك، وصدق عواطفك، وعذوبة كلماتك التي هي أقرب إلى الشعر منها إلى الاستقبالات الاجتماعيّة الدارجة، ممّا يدلّ على أنّ كلمات المبدع تسبقه إبداعاً.
وألف مبروك صديقي د. جميل.
***
*مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع