«النازحون يحتلّون البلد». بهذا الايجاز البالغ وصف البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي ما أصبحت عليه الحالة اللبنانية، بعد مضي نيف واحدى عشرة سنة على عملية النزوح السوري. ثلاث كلمات موجعة تختصر العبء الثقيل الملقى، قسراً، على عاتق وطن صغير يعبر أصلاً في عمق أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ثلاث كلمات ترنّ فيها تجارب الماضي القريب، وتلوح عبره منذرة بمخاطر المستقبل ومخاوف المصير، حين يتحوّل النزوح واللجوء، في أي لحظة، إلى قنبلة موقوتة، قادرة على زعزعة الاستقرار وقلب حياة اللبنانيين، على غرار ما تشهده الساحة الجنوبية أخيراً.
لن اقول لسيدنا البطريرك لقد تأخرت جداً، ولست في مجال إلقاء الملامة، في هذا الملف، على قامة دينية. إنّما لا بد لنا خلال مقاربة هذا الملف أن نتوخى الحكمة والرؤية البعيدة المدى من موقع عرف التاريخ مدى تأثيره في المنعطفات الكبرى، ومن مقام لطالما حظي بالاحترام والاجلال، فاستظله اللبنانيون عموماً والمسيحيون بصفة خاصة.
إنّ تحريك ملف النازحين بخجل وتردد، من قبل المسؤولين السياسيين، يثير غير علامة استفهام حول حقيقة الاصرار على بقائهم في لبنان، وتواطؤ بعض المسؤولين ورفض انتقالهم إلى بلدهم أو أي بلد آخر، كما يلقي المخاوف على المصير الآتي في نفوس أبناء هذا الوطن.
إنّ مأساة لبنان لا شبيه لها، بعدما بات اللبنانيون مهزومين في وطنهم: تدخلات من كل حدب وصوب، أجندات اقليمية أو دولية لا فرق، نازحون هنا ولاجئون هناك، سلاح ولاجئون يفتحون النار ساعة يشاؤون، يزرعون العاصفة فنحصد الريح، يعكّرون الأجواء فتفسد الطمأنينة، يخرقون الأمن فتُضرب مواسم السياحة والاصطياف. فصائل تتناحر سياسياً على أرض فلسطين، وتتقاتل على أراض لبنانية تصفية لحساباتها، لترتسم صورة مرحلة جديدة يتمّ خطّها وتتشعّب امتداداتها.
إنّ ما ينتظره اللبنانيون كبير ويمكن أن يكون أكبر مما عاشوه طوال نصف قرن. نصف قرن مضى وكأننا نحاول المستحيل، نحاول وعند كل نكسة، نعود فنبدأ من الصفر كما النملة التي تحمل حبة تكبرها حجماً ووزناً.
ومن نافل القول إنّه ليس من باب الصدفة أن تتزامن الخضات السياسية أو الاقتصادية أو الأمنية منذ سنوات ثلاث مع ذكرى مجزرة الرابع من آب المدمرة حرفاً للذاكرة الجماعية والهاء عن حقيقة تفجير مرفأ بيروت الذي دمّر نصف العاصمة، وأسقط آلاف الضحايا بين قتيل وجريح.
إنّ القلق على المصير رافق اللبنانيين منذ نشوء دولة لبنان الكبير فيما جميع المحاولات للانتقال إلى وطن باءت بالفشل. منذ اعلان دولة الاستقلال لا استقلال الدولة، أمّا اللاعبون في السياسة اللبنانية فمرتاحون لوضعهم يسوحون ويصطافون ويسبحون ويجدون وقتاً كي يصرّحوا ويقولوا وينوّروا فيما أصبح الناس واقعيين في تشاؤمهم، ولا سيما في ظل تداعي المؤسسات وإفراغها وهندسة فراغها.
لكن الأمل يبقى معلّقاً حيث يمكن القول، وبصوت مرتفع، إنّه لولا صمود المؤسسة العسكرية وسط كل التحديات، لأصبحت النتيجة المتوقعة أمراً واقعاً، ما يعني أنّ صمودها اليوم هو أفضل منقذ للبنان غداً وبعد غد. من هنا، وجب على من تبقى من مسؤولين سياسيين، وهم قلة بين فاجرين وفاسدين، أن يتعاونوا لإنقاذ لبنان مما يحضّر له آنياً بوضع حد للفلتان الحاصل في مخيم عين الحلوة واستباق أي فلتان ممكن أن يتسبب به النزوح.
بين مشكلة مزمنة للاجئ ومشكلة محدثة لنازح، لا يمكن أن تتحول المصلحة من قضية بحجم وطن إلى قضية بحجم فئات واشخاص. ختاماً تحية إلى الجيش اللبناني في عيده… أنت الخرطوشة الأخيرة.
***
*illa-lazina.com