ضمن إطار المهرجان اللبناني للكتب الذي تنظمه الحركة الثقافية أنطلياس (1 مارس- 16 منه) عقدت ندوة حول كتاب الدكتور جبور الدويهي “حي الأميركان” شارك فيها الأستاذ سمير فرنجية – الدكتور انطوان قربان – الدكتور منذر جابر، إدارة: الدكتورة نايلة أبي نادر. في كما يلي كلمتي أبي نادر وفرنجية.
أبي نادر
يدخل جبور الدويهي الى “حي الاميركان” ليضع بين أيدينا رواية تعبق صفحاتها بعطر زهر الليمون التي تسكر من يشتمّها وتجعله يقع في عشقها لا محالة. غارق هو في حب ” مدرينة الليمون”، في الكشف عن ارارها الدفينة، في التنقّل في شوارعها الضيقة كما الواسعة. قلمه كشاشة شغالة 24 على 24، ينقل الينا كما تلفزيون الواقع تفاصيل صغيرة، حركات خفيفة، عفوية، لا واعية، يرصد الشاردة والواردة في حبكة درامية موفقة، تضعنا في صلب الموضوع: الحرب، الفقر، الجهاد، الالم، الفشل. يخبرك بدقة عن تفاصيل تقودك مباشرة الى “حي الاميركان” لتقطن هناك، وتراقب عن كثب يوميات الناس، همومهم، انشغالاتهم. يصوّر لك الواقع بعدسة محترفة ترصد خفايا النفس، وأبعاد النظرة، وشغف المتخيلة. لا يتردّد في التطرّق الى مسألة الانتساب للحركات الجهادية. من دون تنظير، تراه يطرح الموضوع، يقودك الى حيثياته، الى مساره، ونقاط ضعفه. يسرد الايات القرآنية بمكانها، يختارها باحتراف ليبرّر السلوك الجهادي بنص يحميه ويضمنه، مسلطاً الضوء على سيادة المشايخ ومدى قدرتهم على اقناع الشبان، حتى الاكثر رذالة بينهم، كاسماعيل البطل، الذي انقلبت حياته وتغيّرت تطلعاته بعد التزامه الديني.
بين اب اراد البطولة وحلم بها، لكنها هربت منه، وابن سعى اليها، وقبل دقائق قليلة من الاستشهاد، تحرّكت ذاكرته، ارتعشت انسانيته، فرأى في خصمه أهلَ بيته، رأى اعزّ شخصين على قلبه أمه وأخوه في الآخر الغريب الذي أُرسل من أجل تفجيره وقتله. “كنت أركب باصاً في مدينة يسمّونها المحمودية، رأيتُ طفلاً فقلت هذا أخي وأماً فقلت هذه أمي.بهذه العبارة وصف الجهادي اللحظات الحاسمة قبل امتناعه عن التفجير.ص151
جهادي جبور الدويهي، انسان تتعاطف معه، مع ظروفه، وحرمانه، وآلامه، وخيباته.
جهادي جبور الدويهي، يضعك في مواجهة مع نفسك، في كيفية تلقيك خبر القبض على الجهاديين، أو حين يَردُك الخبر العاجل ناقلاً اليك النبأ الحدث: انتحاري فجّر نفسه بالآخرين.
جلس الراوي هذه المرة على كرسي الفقراء، والمحرومين، الى جانب الشبان المجاهدين، الى من أعدّوا أنفسهم مشاريع دائمة للشهادة، يدقّق في وجوههم، يُنصت الى تمتماتهم، ويتسلل الى مخيلتهم، يقف وراء آذانهم لينصت اليهم بشغف.
جال في كيان المرأة، في الجدّة، في الزوجة، في العشيقة، في الراقصة، في الجارة الفضولية، تقمّص النساء وتكلم بلسانهن، حار ودار في عالمهن، في انوثتهن، بأسلوب راقٍ يفيض احساساً مرهفاً وجمالا. توقف عند الرابط السري بين الام وابنها المتهوّر، بين الجدة وابنتها المشاغبة. يحكي عن الزواج المدبّر وعن العشق الملتهب حناناً وشوقاً. يرسم صورة المدينة في أيامها الصعبة، ايام الحرب والنضال العبثي والقتل المدبّر من دون هدف مبرّر.
كُتبت الرواية بالحبر الاخضر، نجد هنا وهناك حديث ووصف لشجر الليمون بأصنافه المتعدّدة، وأسمائه المتنوّعة، وشجر الفيكوس، والبونصاي. في الرواية حنين الى الطبيعة التي محت معالمها أبنية المدن المتوسّعة بشراهة ملحوظة. يعبّر عبد الكريم، أحد أبطال الرواية عن حزنه بعد وفات ابيه بجملة واحدة: “ابي جسر البيت،زيتونة تظللنا،لا تكسره ريح، امي بيلسانة وسأبقى انا شجرة البرتقال العطوبة”.ص84
في الرواية مقاطع قليلة تشير الى المسيحية من خلال ما ورد من صور للمسيحيات الملتزمات في عيني الجار المسلم الذي يراقب ويسترق النظر اليهن حين يذهبن الاحد الى الكنيسة، وذكرٌ للعائلة النصرانية العراقية التي أحاطت الجهادي الهارب بالرحمة، فأنقذته من الضياع.
تخترق الرواية حواجز عدّة لتستقر في وسط الوعي وتضعه أمام معاناة تتكرر فصولها منذ ان تداخل السياسي مع الديني، ودور العبادة مع مراكز التجنيد والمهمات الجهادية، وتشابك الفقر مع العبث، و منذ أن سيطر الجهل مكان التعقّل والروية، وتحوّل الكتاب الى آيات تُتلى عن ظهر قلب من دون التوقف عند ما تفيده من معانٍ حجبها التعصّب وألبسها ما يريده خدمة لمآربه.
في ” حي الاميركان ” قصة وطن، وحكاية أمة، سلّمت مصيرها الى أعدائها، وأغمضت عينيها عما تكتنزه من ثروات. طافت في الصحاري تبحث عن هوية، عن معنى، بقي على صورة مصير اسماعيل في نهاية الرواية، سراً محجوباً.
سمير فرنجية
أن أتكلم عن قيمة هذا الكتاب الأدبية، فلا أملك قدرة على ذلك أمام نصٍ بالعربية، وهذا لا يمنعني من تسجيل اعجابي الشديد بقدرة الكاتب على ابقاء التواصل مستمراً بين القارئ والرواية بلا انقطاع، من أولها إلى آخرها.
فكرة التواصل هي في نظري سمة هذه الرواية وسرها.
التواصل أولاً في هذه اللوحة الإنطباعية المؤثّرة التي يرسمها بين تفاصيل الحياة اليومية في الأحياء الشعبية والأحداث التي شهدتها المدينة من تفجير تمثال مصطفى العزام الذي كان يمسك بيده وثيقة اعلان استقلال لبنان الى مجزرة باب الحديد مروراً بما قامت به المخابرات السورية من اعتقال وتعذيب.
التواصل أيضاً بين الروائي وشخصيات كتابه. فهو على علاقة حميمة معها: يتفهم دوافعها على اختلافها، ويشرحها باسهاب دون اصدار أحكام بحقها، فيمكّن بذلك القارئ من متابعة اكتشافاته دون شعور بأي حرج. فهو شاهد وليس حكماً أو فريقاً.
والتواصل الذي يشكل مادة هذه الرواية وعصبها متعدد الأبعاد وله في هذه المدينة العريقة جذور قديمة تعود الى زمن الاختلاط الذي عزّزته المدارس المسيحية. فعبد الكريم، حفيد مصطفى العزام، مفتي طرابلس، تابع علومه في مدرسة مسيحية وكان والده يرضى بأن يحضر ابنه الوحيد القداس الصباحي مع النصارى في المدرسة. ومن هذا المنطلق التواصلي بات عبد الكريم يتقن اللغة الفرنسية بشكل أفضل من بعض أساتذته.
وهذا التواصل الذي يتخطى حواجز الطوائف لا يتوقف عند حدود الطبقات الاجتماعية. فصورة هذه الفتاة الفقيرة التي تهدي عبد الكريم تفاحة مغطسة بالسكر الأحمر، هي هديةٌ وتحية من الفقراء إلى الأغنياء.
في رواية جبور الدويهي، حالات مميزة من علاقة الانسان يالآخر، منها مثلاً تلك العلاقة التي نشأت بين عبد الكريم العزام، حفيد آل عزام، العائد من فرنسا بعد انتهاء علاقة عاطفية ربطته براقصة قادمة من البلقان، وبين اسماعيل محسن، أبن منتصر ،الخادمة، الذي كان يحضر نفسه لعملية جهادية في العراق، تلك العلاقة التي استمد منها كل واحد القوة لمواجهة مصيره بعد أن أُجهضت أحلام الأول في حي الأميركان وأحلام الثاني في مدينة باريس.
من هذه الحالات أيضاً تصرف اسماعيل، بطل الكتاب الذي تراجع عن خيار الموت، فلم يفجر الحزام الناسف الذي أمنته له إحدى الجمعيات الدينية آنذاك في رحلته الجهادية الى العراق, وذلك لأن صبياً دخل الحافلة التي كان يستقلها اسماعيل وينوي تفجيرها وكان ذلك الصبيّ يمشي “خالعاً” رجله اليمنى، فأعاد إليه صورة أخيه الأصغر المصاب بالإعاقة ذاتها، الأمر الذي حرك في داخله نزعات الشفقة والمحبة التي أعادته الى انسانيته.
في تجربة طرابلس كما يرسمها الكاتب، العلاقة مع الآخر هي أمر أساسي. وهذه العلاقة لا تعني الذهاب الى الآخر كي نصبح على صورته ومثاله، ولا أن نجلب الآخر إلينا كي يصبح مثلنا.
العيش المشترك الذي ميّز التجربة اللبنانية رغم كل محاولات “اللاعيش معاً” التي رافقتها لم يكن وليد قرار سياسي، انما نتاج تلاقٍ فرضته الحياة اليومية في المدينة. وقد يكون من المفيد في هذا المجال العودة الى كتاب سمير قصير عن بيروت – تاريخ بيروت – وكتاب خالد زيادة عن طرابلس – يوم الجمعة، يوم الأحد -. ولم يع اللبنانيون أهمية تجربتهم هذه الا بعد أن فشلوا في الانفصال عن بعضهم والعودة الى مكوناتهم الأصلية.
كتاب جبور الدويهي يطرح سؤالاً كبيراً: لماذا هذه المدينة التي لعبت في تاريخها دوراً مهماً في ارساء العيش المشترك في منطقة الشمال تعرضت لما تتعرض له منذ عشرات السنين؟
لماذا تعاملت الدولة معها بهذا المزيج من التجاهل والقمع الذي جعل الكثيرين يشعرون وكأنهم – والكلام هنا لجبور الدويهي – “ولدوا وسلاح الدولة مصوّب الى رؤوسهم“؟
لماذا تعاملت سوريا مع هذه المدينة بوحشية لم تمارسها في أي منطقة أخرى من لبنان، فارتكبت مجزرة يكرس لها الكاتب فصلاً كاملاً في روايته، وهي مجزرة لم يجر الكلام عنها في الاعلام الا بعد خروج الجيش السوري من لبنان؟ وهل الأمر هو انتقام لحقبة تاريخية شهدت تحول طرابلس من طرابلس الشام الى طرابلس لبنان ؟
لماذ اصرار البعض اليوم، رداً على ما فعله النظام السوري- إصراره على إحداث تغيير في طبيعة المدينة ونقلها من طرابلس لبنان الى طرابلس قندهار؟
ما الذي ينبغي أن نفعله لتستعيد هذه المدينة دورها التاريخي، بل معناها، فتعيد احياء تجربة العيش المشترك بين كل مكوناتها المتعددة وتتحول مجدداً الى مكان مميز للتواصل، يحلو العيش فيه، ويساهم في إغناء مسيرة الترقّي الإنساني؟
ما الذي ينبغي أن نفعله لكي يتحول شعار “لبنان أولاً” الذي كانت هذه المدينة سباقة إلى رفعه في العام 2005 الى شعار “السلام أولاً” للبنان وأيضاً لسوريا؟
كلام الصور
1- نايلة أبي نادر
2- سمير فرنجية