الأديبة سيلفيا يوسف بو عبسي – لبنان
1- النصّ من الكتاب:
في الفلسفة الحديثة هناك ضروب من الخبل أيضاً، فنيتشه مثلاً، يتبنّى فلسفة القوّة التي أصبحت خراباً، وكانت سبباً في ظهور النازيّة في ألمانيا. فمهما بلغت قوّة الإنسان هو كائن ضعيف، ولا يساوي رأس إبرة في حجم الكون اللامتناهي. فعن أيّ قوّة تحدّث نيتشه؟ ومَن هم الضعفاء في رأيه؟ وكيف يفصل بين الضعفاء والأقوياء؟ وكيف سيكون المجتمع لو أنّ القويّ يردّ الظلامة عنه بظلامة مثلها ويضيف إليها خمس مظالم صغيرة؟ وكيف يكون خيّراً لو انتقم الإنسان؟ وكيف تنحدر الإنسانيّة إذا ترفّع المظلوم عن الانتقام؟ وكيف تكون المرأة وعاء للحمل، ويخرج منها الرجل المتفوّق؟ وكيف نصدّق أنّ قلب الرجل هو مكمن الشدّة، وقلب المرأة مكمن لكلّ الشرور؟ وكيف نجرؤ أن نحمل السوط ونذهب إلى كلّ امرأة ولو كانت فاضلة؟
2- مطالعة الأديبة سيلفيا يوسف بو عبسي:
لطالما أخذت نظريات نيتشه حيّزاً كبيراً في الدراسات والتعمّق بها، إلّا أنّ فريديرك نيتشه، الفيلسوف الذي مات مجنوناً، عُرف بأنّه فيلسوف ومفكّر وأديب ألمانيّ ولد عام 1844. تنقّل بين عدّة دول، وشارك في الحرب الفرنسيّة – الألمانيّة وجُرح فيها. عانى من العزلة، وأصيب بالجنون إلى أن توفّى سنة 1900. وخلّف إرثاً فلسفيّاً وفكريّاً غزيراً اختلف بشأنه النقّاد والمؤرّخون حتّى يومنا هذا.
وفي تاريخنا المعاصر، اختلف مع نيتشه اختلافاً شديداً في الرؤى، رجل ذو فكر راقٍ ومتطوّر ، عميق البصيرة والعقلانيّة، هو الدكتور جميل الدويهي.
لقد عارض الدويهي نيتشه في نظرته إلى ما يصفه بفلسفة القوّة، فنيتشه يرفض الضعف، ويطلب بالانتقام، ويرى الإنسان كائناً قويّاً لا يجب أن يخاف، أو يؤمن بالله، أو يسامح. والدكتور الدويهي يضع الله والإيمان من أولويّاته، ومن أولويّات الإنسان عامّة، ففي كتابه “المتقدّم في النور” يبيّن لنا من خلال فكره العميق بالإيمان هذا، الاتصال الروحيّ مع الخالق. ويظهر ذلك جليّاً عندما يقول : “الأهمّ أن تقولوا إنّ كلّ شيء من الله ويعود إليه. والإنسان الذي يقف أمام حديقة غنّاء، يشكر الله على نعمته والجمال الذي صدر منه. وعندما يقف أمام البحر الهائج والرعد والعاصفة التي تحطّم الأشجار، يعتبر أنّ الطبيعة الغاضبة هي من عمل الله”. كما يتابع ويقول : “المشكلة يا أخوتي هي في الإنسان نفسه، فكما أنّ الظلام هو نور يخبو، والبرد هو دفء يخفّ، والبشاعة هي جمال ينحدر… فهكذا يكون الله فينا، فإذا أحببناه وجعلنا له مسكناً لا يغادره، فلا يقوى الشيطان علينا، ولكن إذا رفضناه وأهملنا حضوره فينا، تسود العتمة والبرد والبشاعة في ضمائرنا، ونترك مجالاً للشيطان لكي يقودنا إلى التهلكة “… إلخ
بهذه الأسطر يدرك القارئ العلاقة القويّة بينه وبين الخالق، ومنها ينطلق إلى الامام.
وأيضاً بالنسبة إلى المرأة، يتطرّق نيتشه إلى هذا الموضوع من منطلق العداوة، فهو يعتبر المرأة ضعيفة، ومكانها ليس في موقع القوّة والقرار، وهي لا تستحقّ أن تكون صديقة أو حبيبة. هي في نظره من طبقة أقلّ من الناس. أمّا في نظر الدويهي، فالمرأة مقدّسة كما قدّسها الإنجيل، ومعظم الأديان السماويّة.
يقول الدويهي في أحد نصوصه في الكتاب عينه “المتقدّم في النور”: “العالَم يغري، لكن يجب أن نقاومه لعلّنا نفلح. وليس على كلّ امرئ أن يبيع منزله وأملاكه لكي يلجأ إلى الغابات طلباً للبراءة. فنحن لا نهرب من الواقع كما فعل لاوتسو في قديم الزمان، فتوجّه إلى الشمال، هرباً من العالم ومشكلاته. فالشجاعة أن نكون في وسط المعركة ونردّ عنّا السيوف والحراب. فطوبى للمرأة التي تعجن وتخبز لتطعم أهل بيتها! وطوبى للنجّار لأنّه يصنع أبواباً للبيوت، ونوافذ تردّ الحرّ والزمهرير! وطوبى للراهبة التي تسهر على عجوز مريض وتطعمه بيديها الطاهرتين، بعد أن تركه أبناؤه للمجهول! وطوبى للراقصة التي تحافظ على شرفها، وهي تعطي السعادة للناظرين! فليست كلّ امرأة شرّيرة عندما ترقص أو تغنّي، أو تعزف على الكمان، كما ليس كلّ رجل شجاعاً عندما يقذع ويعتدي. وأشرف للمرأة ألف مرّة أن ترقص لكي تحصل على قوت يومها، من أن تبيع جسدها على موائد اللئام. وتحقير المرأة عار ونقيصة، فقد خلق الله الناس ذكراً وأنثى، واحترام خلق الله واجب على خلقه أجمعين. وكم يزعجني اتّجاه بعض الفلاسفة إلى إهانة المرأة، فكأنّهم أهل الجهل والسطحيّة!”
وفي نصّ آخر من كتابه يبرهن أديبنا مدى قوّة علاقته بالخالق من جهة، وإنصافه للمرأة من جهة ثانية، فيقول : “لا تخافي يا ابنتي، فأنت تؤمنين بأنّك ابنة الله، ولست ابنة البشر. وهذا رفعة لك، فويحه من يقول إنّه ابن رجل وامرأة، وويله من يقول إنّه ابن الطبيعة. فهذا هو الذي يموت بخطيئته ولا ينجو منها.
وصمت الكاهن قليلاً من تعب، ونظر إلى التلّة العالية التي ينبغي أن يصعد إليها في آخر أيّامه، ثمّ نظر إلى تلاميذه الخائفين، وقال لهم: هل رأيتم؟ نحن جميعنا نذهب إلى فوق، حيث الرجاء والوداعة، والتراب لا يضمّ إلاّ التراب. أمّا الأثير، فيحملكم إلى الأبعاد البعيدة، حيث لا تأخذون معكم حقيبة ولا متاعاً. وهذه المرأة التي اقتربت منّي للتوّ، لا تختلف عنكم ولا عنّي، فكلّنا خاطئون. والذين يقولون إنّهم أنقياء وطاهرون، هم كذبة، ويريدون بالخداع أن يقنعوا أنفسهم أنّهم سيكونون في جوار الله. والأتقياء ليسوا مفضّلين عند الله. وقد يكون المرء خاطئاً، وله مكان في الخلود. لكن لا تقعوا في التجارب. والذي خلق البشريّة، أراد لها أن تكون منتظمة، ولا تتلوّث بالشرور والآثام… ولو عاد الناس أطفالاً لما تحاربوا وهدموا المدن والقرى. فالأطفال الذين تكون أفكارهم بريئة ونقيّة، هم أكثر طيبة منّا. وعندما يكبرون فقط، وتكبر أفكارهم، وتتحوّل المادّة في نظرهم إلى قيمة، يجنحون إلى الفوضى التي تسيء وتدمّر”.
بهذه الأفكار الغنيّة والحكيمة، يقف الدويهي في مواجهة نيتشه، واصفاً بعض فلسفته بالخبل، ويطرح اسئلة استنكاريّة حول رؤيته. وهي أسئلة منطقيّة لا لبس فيها، وأهمّها: “كيف يمكن التمييز بين الأقوياء والضعفاء؟” فقد يكون المرء في فلسفة الدويهي قويّاً بنقائه وعمل الخير والطيبة، وليس بالضرورة أن يكون قائداً في الميدان ومعه آلة حربيّة، وقد يكون القاتل والمجرم والظالم ضعفاء، لأنّهم يفتقرون إلى القيَم التي يجعلها الدوبهي محوراً لمدينته الخالدة.
ومن الطبيعيّ أن يتعارض المتقدّم في النور، وفي عدّة مواقف، مع نيتشه الذي أدّت فلسفته إلى الفكر النازّيّ المتطرف والهادم… بينما يسعى الدويهي إلى مدينة يسودها الخير والسلام، ومنظومة الفضائل السامية.
***
*مشروع “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.
* تنشر وقائع الجلسة في كتاب يصدر قريباً من “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي.