وقائع الجلسة الحواريّة حول كتاب الأديب د. جميل الدويهي “المتقدّم في النور” (9)

 

الشاعر محمّد الديراني

 

1- النصّ من الكتاب:

 

الإنسان ميّال إلى تبرئة نفسه بجميع السبل الممكنة، ومثَل عن ذلك رجل كان في مجموعة من اللصوص، وذات مرّة اختلف معهم، واتّهمهم بأنّهم لم يعطوه حصّته من المال المسروق، ونعتهم بالأشرار. ولم ينتبه في تلك اللحظة إلى أنّه شرّير، فقد رأى ما يلائم مصلحته، وسخّر الخير والشرّ لفائدته الشخصيّة. ولو مثلَ هذا الرجل أمام القاضي، وبيّنت المحكمة وثائق وأدلّة دامغة على تورّطه في الجريمة، لاعترف بأنّه شرّير، لأنّ لا مناص له من ذلك الاعتراف.

ومثَل آخر عن طفلين كانا يلعبان، فأخذ أحدهما عود ثقاب، وأشعله، وامتدّت النار إلى المنزل فالتهمته. وعندما سأل أهل البيت عمّا حدث، أجاب الولد الآخر بأنّ رفيقه شرّير، وغبيّ ولا يقدّر العواقب.

وفي اليوم التالي، كان الولدان يلهوان، فأخذ الولد البريء عود ثقاب وأشعله، فامتدّت النار إلى الغابة وأحرقتها، وعندما سئل عن ذلك، ادّعى بأنّه ارتكب خطأ غير مقصود، ولم يكن يتوقّع أن تحترق الغابة… ففي حالتين متشابهتين، كان كلام الطفل مختلفاً، فعند الإدانة لغيره كان سبّاقاً إلى اللوم، وعند إدانة نفسه كان سبّاقاً إلى التبرير.

هذا هو الإنسان، كتلة من التناقض. وفي كلّ حال يكون الشيطان حاضراً في صورة عود الثقاب.

“ولكنّ العالم يغري”، صاح واحد من الجماعة…

-طبعاً هو يغري، لكن يجب أن نقاومه لعلّنا نفلح. وليس على كلّ امرئ أن يبيع منزله وأملاكه لكي يلجأ إلى الغابات طلباً للبراءة. فنحن لا نهرب من الواقع كما فعل لاوتسو في قديم الزمان، فتوجّه إلى الشمال، هرباً من العالم ومشكلاته. فالشجاعة أن نكون في وسط المعركة ونردّ عنّا السيوف والحراب. فطوبى للمرأة التي تعجن وتخبز لتطعم أهل بيتها! وطوبى للنجّار لأنّه يصنع أبواباً للبيوت، ونوافذ تردّ الحرّ والزمهرير! وطوبى للراهبة التي تسهر على عجوز مريض وتطعمه بيديها الطاهرتين، بعد أن تركه أبناؤه للمجهول! وطوبى للراقصة التي تحافظ على شرفها، وهي تعطي السعادة للناظرين! فليست كلّ امرأة شرّيرة عندما ترقص أو تغنّي، أو تعزف على الكمان، كما ليس كلّ رجل شجاعاً عندما يقذع ويعتدي. وأشرف للمرأة ألف مرّة أن ترقص لكي تحصل على قوت يومها، من أن تبيع جسدها على موائد اللئام.

2-مطالعة الشاعر محمّد الديراني:

 

يبدو لي ومن خلال قراءتي المتواضعة، أنّ بداية النصّ هي اختصار لمجمله،

وهو نصّ متشعّب يحتاج إلى صفحات وصفحات.

“الإنسان ميّال إلى تبرئة نفسه بجميع السبل الممكنة”… هكذا بدأ الملك الأديب نصّه المميّز مع الأدلّة والبراهين، التي تُظهر مدى تعمّقه في واقع المجتمعات التي كانت، ولا زالت حتّى يومنا، تعيش واقعاً مريراً ومهمّشاً، وقلّما تطرّق إليه الباحثون.

ولفت الدويهي إلى إحدى أكثر  الآفات خطورة على المجتمعات، بغضّ النظر عن عرق أو لون أو دين، مسلّطاً الضوء على حالة مستشرية قد تقود المجتمع إلى التفكّك والنزاع الأسريّ والمجتمعيّ من جهة، ومن جهة أخرى قد تؤدّي إلى حروب. وقد حرص الدكتور الدويهي على أسلوب السهل الممتنع، واللياقة في السرد، و استعمال رموز وإشارات عن الخير والشرّ، وكيف يكون الشيطان حاضراً في صورة عود الثقاب. هذا هو الإنسان… كتلة من التناقض. وهذا  الواقع الذي نعيشه: إدانة وتبرير.

هذه الحالة النفسيّة بامتياز – التبرير –  تسمّى “التعويض النفسيّ” (Psychological compensation)، وهي حالة يسعى فيها الفرد إلى تعويض نقصه الذاتيّ أو الشعور بالعدميّة أو القلق، عن طريق تحسين صورته وإبراز نقاط الضعف في الآخرين، واتّهامهم بالأخطاء والخلل. وغالباً ما يكون هذا النوع من السلوك غير مدرك، ويحدث بشكل غير متعمد:

كان الولدان يلهوان، وامتدّت النار إلى البيت فالتهمته… البداية كانت لعباً، وفي التحقيق اتّهم الجاني صديقه ووصفه بالشرّير. أمّا في قضيّة الغابة المحترقة، فاختلف كلام الولد، محاولا ًتبرئة نفسه. وقد تصل هذه الناحية من التبرير في وقت متأخّر إلى انفصام كامل في الشخصيّة والأداء. ولكن هذا بحث آخر). ومع ذلك، فلهذا النوع من السلوك تأثير سلبيّ على العلاقات الاجتماعيّة والعمليّة بين البشر، حيث أنّه يؤدّي إلى إفساد العلاقات وتدمير الثقة بينهم. وبالتالي، فإنّ العمل على تحسين الثقة بالنفس والتفكير الإيجابيّ والتعامل بصدق ونزاهة مع الآخرين… يمكن أن يساعد في التغلّب على هذا النوع من السلوك وتحسين العلاقات.

وهنا يركّز الدكتور جميل الدويهي على الإنسان وتناقضاته، وكذلك يتحدّث عن التحدّيات التي يواجهها الإنسان في العالم، والضغوط التي تحاصره:

“-ولكنّ العالم يغري، صاح واحد من الجماعة…

-طبعا هو يغري ، لكن يجب أن نقاومه لعلّنا نفلح. وليس على كلّ امرئ أن يبيع منزله وأملاكه ويهرب، كما فعل لاتسو في قديم الزمان”.

هنا فكرة التحدّي والصمود، وعدم الهروب من المشاكل والمسؤوليّات، ويؤكّدها الكاتب بحرص ودراية ووعي، وبأسلوب ممتع وراقٍ، داعياً  إلى التمسّك بالواقع ومواجهته بشجاعة.

ويذهب بنا النصّ إلى عنق المشكلة: كيف يحوّل الإنسان الخير والشرّ لمصلحته الشخصيّه، ويستخدمهما لإثبات براءته، أو لإثبات تورّط الآخرين في جرائم ومخالفات؟

وهذه النزعة من التصرّفات الانسانيّة تؤدّي إلى فقدان العدالة، والظلم. وكم من شاهد زور قد ظَلم! وكم من بريء قد قُتل! ناهيك عن حال أصحاب القرار، لأنّ السلطة المطلقة هي الكارثة المطلقة. وخير  شاهد ما ورد في القرآن الكريم : “ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها. قد أفلح من ذكاها وقد خاب من دساها.”

كما يشيد الدويهي في  نصّه بدور المرأة والرجل في المجتمع، وأهمّيّة مساهمتهما في بناء المجتمع وحمايته وتحسين حياته: “فطوبى للمرأة تعجن وتخبز  لتطعم أهل بيتها! وطوبى للنجّار  الذي يصنع الأبواب”!  وهنا إشارة إلى أنّه ليس من الضروريّ أن يكون الإنسان مثاليّاً في كلّ شيء، فالراقصة مثلا يمكن أن تحتفظ بشرفها، وليس كلّ مَن يقذع ويعتدي بشجاع.

إنّه تحذير واضح من الهروب من الواقع بأيّ وسيلة ممكنة، بل دعوة للصمود والمواجهة الشجاعة، وتحكيم الضمير في تقرير المصير. وأيضاً تحذير من خطورة بيع الجسد والاستسلام للرغبات الشهوانيّة، ودعوة للحفاظ على الشرف والكرامة.

وفي السياق نفسه، يتضمّن النصّ توجيهات إيجابيّة وتحفيزيّة للأفراد، للقيام بأدوارهم، والمساهمة في بناء المجتمع بطريقة إيجابيّة، وتظهر جليّة قدرة الكاتب على تحفيز  أفراد المجتمع للتفكير والتفكّر، في دورهم في الحياة، والعمل على تحسينه وحمايته. فكلّ الأشياء التي يقوم بها الإنسان وكيفيّة تعامله مع الواقع تحدّد شخصيّته وشرفه. والحكمة في مَن يحمل هذا الغنى النفسيّ من الشجاعة والإرادة والتفاؤل، ويمكنه تحقيق النجاح والسعادة، أمّا الذي ينجرف مع التيّار، فيفقد هويّته ويشعر بالإحباط والفشل.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا النصّ الفلسفيّ والنفسيّ، على حدّ سواء، هدفه أن يركّز الإنسان على الأشياء الواقعيّه والحقيقيّة التي تتّسم بالقيمة في حياته، فمن المعيب أن يلجأ المرء الى تلميع صورته عن طريق اتّهام الآخرين بغير عدل، بل يجب أن يكون مسؤولاً عن أفعاله وأقواله، وأن يتحلّى بالصدق والنزاهة في تعامله، واحترام حقوق الآخرين.

“أشرف للمرأة ألف مرّة أن ترقص لكي تحصل على قوت يومها من أن تبيع جسدها على موائد اللئام”… هكذا ينهي أديبنا الملك النصّ بحكمة لا يملكها إلا ّفيلسوف.

وإن كان للشعر والأدب مملكة، فلا بدّ من وجود ملك لها. وفي عصرنا هذا، إنّه الملك الأديب والفيلسوف الدكتور جميل ميلاد الدويهي.

***

*مشروع “أفكار اغترابيّة للأدب الراقي

النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.

*تُنشر وقائع الجلسة في كتاب خاصّ يصدر قريباً من “أفكار اغترابيّة”.

 

اترك رد