وردت عند الشعب الأستراليّ الأصليّ قصص عن الفيضان العظيم، أو الطوفان. وعلى الرغم من اعتقادنا أنّ هذه القصص أسطوريّة، لأنّها تعتمد على شخصيّات ميثولوجيّة غير مرئيّة، فإنّها تنطوي أيضاً على حقيقة تاريخيّة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ القصص الأبورجينيّة تلك، ذات طابع تفسيريّ، لفهمنا أنّ فيضاناً حدث بالفعل، ونشأت القصّة بناء على الحدث، ومن أجل تفسيره.
وإذا كان الأبورجينيّون الذين عاشوا في أستراليا منذ حوالي 60 ألف عام، لم يخرجوا من القارّة – كما هو معروف لدى المؤرّخين- فما سرّ هذا التشابه مع القصص الأخرى، في الموضوع نفسه؟
ربما كانت أقدم قصّة عن الفيضان ما ورد في ملحمة جلجامش، وكان هذا ملكًا سومريًا يقال إنه حكم لمدة 126 عامًا. وفي الملحمة يقوم أوتنابيشتيم بصنع سفينة، نجت من “الطوفان العظيم”. وجلب أوتنابيشتيم جميع أقاربه وجميع أنواع المخلوقات على متن سفينته لإنقاذ البشرية.
وصاحبت إبحار السفينة السومريّة أعاصير وعواصف عاتية. حتّى أنّ الآلهة أنفسهم ذعروا من هول الطوفان، وهربوا إلى السماء. ودام الفيضان ستة أيام فغرق الجنس البشريّ، عدا أوتنابيشتيم ومن معه. وتحط السفينة الناجية على جبل “نصير”، ومن هناك يرسل المنقذ الأسطوريّ حمامة للبحث عن يابسة، لكنها تعود إليه، ويعيد الكرّة مع سنونوّ، ولكنه أيضاً يعود دون أن يجد يابسة. وفي المرّة الثالثة يطلق غراباً يطير في السماء دون أن يعود. فيستدلّ أوتنابيشتيم بذلك أنه وجد يابسة.
هناك ملاحظات على هذه القصّة التي وردت في اللوح الحادي عشر لملحمة جلجامش، الأولى الإشارة إلى الجنس البشريّ، وتلك مبالغة، إذ لم يكن السومريّون يعرفون بوجود القارّات والأمم الأخرى كلّها، لبعد المسافة. فأغلب الظن أنّ الجنس البشري المقصود هو البشر الذين كان يمكنهم الوصول إليهم في ذلك الزمان. أما الملاحظة الثانية، فهي إرسال الطيور، كما في التوراة لاحقاً، لاكتشاف اليابسة.
وقصّّة الفيضان تتكرّر عند قبائل الأزتيك في أميركا الوسطى. إذ يحذر الإله تيتلاشوان رجلاً يدعى نوت -أو ناتا-، وزوجته نينا، من فيضان قادم. فيقوم ناتا ونينا بتفريغ شجرة، يغلقها عليهما تيتلاشاوان وهما بداخلها، ويخبرهما بأنّ عليهما أن يأكلا فقط قرناً واحداً من الذرة لكلّ منهما. وحدث الفيضان، لكن لم يمت الناس، بل تحوّلوا إلى أسماك. أمّا نوت ونينا، فقد خالفا أمر الإله وأكلا السمك بدلاً من الذرة، فجعلهما كلبين.
وفي اليونان القديمة، قصّة أكثر عمقاً، حيث أنّ زيوس كبير الآلهة، يغضب من البشر، ويطلب من دوكاليون، ابن بروميثيوس، أن يصنع سفينة لنفسه ولزوجته بيرها، التي هي أيضًا ابنة عمّ دوكاليون. وبعد تسعة أيّام من الفيضانات التي دمّرت العالم، استقرّت السفينة على قمّة جبل بارناسوس. وبعد أن انحسرت المياه، قدّم الناجيان ذبيحة لزيوس، وسألاه عن كيفيّة إيجاد بشر من جديد على الأرض، فنصحهم زيوس بإلقاء الحجارة، فتحوّلت الحجارة التي ألقاها دوكاليون رجالاً، وتلك التي ألقتها بيرها نساء.
أمّا حكاية الطوفان في الهند القديمة، فغريبة ولا تشبه أيّ قصّة في الديانات الأخرى. فالرجل الأوّل (آدم عندنا) هو مانو. وقد زارته السمكة ذات القرن-الإله، وأخبرته بأنّ العالم سوف يغرق في طوفان عظيم. فصنع مانو قاربًا وربطه بقرن السمكة، فقادته خلال الفيضان، حتّى وصل إلى قمّة جبل.
وعندما انحسر الطوفان، قدّم مانو تضحية للإله، فسكب الزبدة والحليب في البحر. وبعد عام، تحوّلت الزبدة والحليب إلى امرأة خرجت من الماء، وأعلنت عن نفسها “ابنة مانو”. وهكذا فإنّ مانو و “ابنته” هما اللذان أعادا إعمار الأرض.
ولدى الصينيّين العديد من قصص الفيضان، وهذا طبيعيّ، بسبب المساحة الواسعة للبلاد وتعدّد الأقوام فيها. ومن تلك القصص المدهشة أنّ مزارعاً تمكّن من أسر إله الرعد وسجنه، وحذّر ابنه وابنته من الاقتراب من الإله في قفصه. لكنّ الطفلين، في غياب والدهما، أشفقا على إله الرعد وأطلقا سراحه. فشكرهما وحذّرهما من فيضان عظيم. وأعطاهما ثمرة يقطين كبيرة جدًّا، ونصحهما أن يبقيا في داخلها إذا ارتفعت المياه.
وبذلك كان الطفلان الوحيدين اللذين نجيا. ولا تخبر القصّة المزيد، باعتبار أن سفاح القربى، أي الزواج من القريب محرّم في كثير من الحضارات القديمة… لكن في رواية أخرى، فإنّ الأخ وأخته حصلا على استثناء خاصّ من السماء. فتزوّجا وأنجبا طفلاً بلا ذراعين وقدمين، فقتل الأخ الطفل وقطّعه إرباً، ورمي بالقطع فوق التلّ. في اليوم التالي خرج من تلك القطع رجال ونساء.
ومن الطبيعيّ أن تكون قصص الفيضان شائعة في المجتمعات التي تعرف المطر الغزير، فلسنا نسمع مثلاً بقصص الفيضان في البلدان التي تضمّ الصحارى الشاسعة، أو ينحبس فيها المطر لمدد طويلة. ففي الشمال الأوروبّي (اسكندنافيا) تطالعنا قصّة الشقيقين أودين وفيلي اللذين قتلا العملاق إيمير، فتحوّل دمه إلى فيضان عظيم، ونجا فقط عملاق ثلجيّ يدعى بيرجلمير وزوجته، من خلال صنع سفينه خشبيّة، وولدا العالم بعد ذلك.
إنّ طبيعة المناخ الثلجيّ في اسكندنافيا، فرضت أن يكون العملاق الناجي ثلجيّاً أيضاً.
ولدى الهنود الحمر في أميركا الشماليّة، قصّة الروح العظيم الذي كان غير راض من الإنسان، وخلق طوفانًا عظيمًا. وكان الناجي الوحيد رجل يدعى وينابوزهو الذي جمع جذوع الأشجار والعصيّ، ليصنع سفينة لنفسه والحيوانات الأخرى، فطافوا أكثر من شهر ، لكنّ المياه لم تنخفض. فقرّر وينابوزهو إعادة بناء الأرض، لكن كان عليه الحصول على الطين من العالم القديم الذي غرق في أعماق المياه.
حاولت الحيوانات أن تغوص بحثاً عن الطين، فلم تنجح، ما عدا بطّة صغيرة تدعى أجاغادي، استطاعت أن تحمل قطعة صغيرة من الطين، أخذها وينابوزهو، ووضعها على ظهر السلحفاة العائمة ميكيناك، فأصبحت قطعة الطين الأرض كلّها.
القصّة الأبورجينية
تتعدّد القصص الاسطوريّة عند الأبورجينييّن، فهم ليسوا شعباً واحداً، بل كانوا حوالي 500 قبيلة، يتفرّقون في أنحاء أستراليا الشاسعة، حيث لا مواصلات ولا اتّصالات. ولأنّ القصص الأبورجينيّة تفسيريّة في العموم، فقد كان من الشائع أن تكون لكلّ ظاهرة طبيعيّة، أو حيوان، أو نبات… قصّة تفسّر وجودها. وبسبب تعدّد القبائل، تعدّدت الروايات التي لم تكن مكتوبة، بل نقلها الخلف عن السلف، فوصلت إلينا، وقام كتّاب بوضعها في كُتب. وأوّل كتاب عربيّ في هذا الموضوع كان لنا الشرف في كتابته، وهو بعنوان “حكايات جدّة أبورجينيّة”. وفيه قصّة واحدة عن الفيضان، بعنوان “الأب العظيم والفيضان”، هذا نصّها:
“هذه القصّة هي الأجمل بين قصص الفيضان. ومفادها أنّ بعض الأطفال وجدوا بومة غامضة في شجرة، فنتفوا ريشها، وأدخلوا عشباً في أنفها، وعاملوها بأفظع ما يكون. طارت البومة إلى السماء، وشكت أمرها للأب العظيم “نْغوونغو”، فغضب بشدّة وقرّر إغراق الناس… وما هو إلاّ وقت قصير، حتّى رأى البشر سحابة صغيرة تتصاعد وتكبر، حتّى انتشرت في السماء، وقصف الرعد. وهبّت رياح مع المطر الغزير، فاقتلعت الأشجار. وسُمع هدير من الشمال، فقد بدأ البحر يتدفّق، فيغمر اليابسة، ويصل إلى قمم الجبال. ولم يبق ظاهراً سوى قمّتين أو ثلاث.
طار عصفور وفي فمه ورقة شجر، ليوضح للهاربين الطريق إلى جبل”بروم”. وكان رجل وزوجاته وأطفاله مع كلب في زورق، فرأوا العصفور، وتبعوه إلى الجبل، حيث كان بعض الناجين الآخرين. ثمّ قام رجل أعسر وضخم، يدعى “جبالغاري”، بقطع إصبع يده الصغيرة، فتدفّق الدم إلى مياه
الفيضان. وبدأت المياه تنخفض، ثمّ اختفت. وغرق جميع الناس عدا الذين وصلوا إلى قمّة الجبل”.
القصّة كلّها متخيَّلة، وتغرق منذ بدايتها بعدم التصديق، فلا البومة موجودة، ولا الأطفال نتفوا ريشها، ولا هي طارت إلى الإله لتخبره بما جرى لها، ولا هو غضب من أجلها فأغرق جميع البشر، مقابل ما فعله نفر من الأطفال.
لكن ما يلفت النظر أنّ قصّة الأبورجينيّين تشبه قصّة التوراة، فالإله العظيم نغوونغو هو البطل. يتغيّر اسمه بالطبع. وهناك إله آخر عند الأبورجينيّين هو بيامي العظيم. وكما في التوراة، فهذا الإله هو الذي يصنع الفيضان. وقد طلب من نوحٍ أن يدخل هو وجميع أهل بيته في الفُلك، لأنّه بارّ في الجيل. وأن يأخذ معه من البهائم سبعة سبعة، ذكراً وأنثى. ومن البهائم التي ليست طاهرة اثنين اثنين. ومن طيور السماء سبعة سبعة، لاستبقاء نسل على الأرض. لأنّه (الربّ) بعد سبعة أيّام سيمطر على الأرض أربعين يومًا وأربعين ليلة. ويمحو عن وجه الأرض كلّ قائم عمِله. ففعل نوح كما أمره الله.
وكما نرى ليس هناك تفصيل في القصّة الأبورجينيّة عن عدد الأيّام التي يحدث فيها الفيضان، وعن الحيوانات التي نجت. فالرواية الأبورجينيّة بسيطة، منقولة على ألسنة الأقدمين، وغير موضوعة بعناية في كتاب مقدّس. والإله غاضب، في كلتا الروايتين، من البشر وتصرّفاتهم. فكما أنّ الله غضب من الناس في النصّ التوراتيّ، فقد غضب هنا من تصرّف الأولاد تجاه بومة “غامضة”، وربّما تكون من عالَم أسطوريّ. فالبومة هي الحجّة أو الذريعة التي اتّخذها الإله لمعاقبة البشر جميعاً.
فما هي طريقة العقاب؟
في التوراة يأتي العقاب بوجوه وأشكال متعدّدة، كالنار والحريق تارة (سدوم وعمورة) ، وخراب أورشليم على أيدي الأعداء، والطوفان مرّة واحدة. والعقاب عند الأبورجينيّين هو الطوفان، لأنّه أقصى ما يمكن أن تحدثه الطبيعة، فالنار مثلاً ليست مؤذية كثيراً لهم، بحكم عيشهم في الخيام، وقدرتهم على مغادرة مساكنهم إلى أمكنة أخرى بكلّ سهولة.
وكما في التوراة، يمثّل الطائر الإشارة الوحيدة لظهور الأرض من تحت الماء، فقد أرسل نوح الغراب، ثمّ أرسل الحمامة التي عادت وفي منقادها غصن زيتون، فعلم أنّ المياه قد قلّت عن الأرض. والأسطورة الأبورجينيّة تستخدم العصفور بدلاً من الغراب أو الحمامة، كما تستخدم ورقة شجر في منقاد العصفور بدلاً من غصن الزيتون في منقاد الحمامة. وعلى الرغم من ذلك، فالتشابه قائم إلى حدّ كبير هنا، كما التشابه بين سفينة نوح التي عليها بشر مكتوب لهم الخلاص، والزورق الأبورجينيّ الذي عليه رجل وزوجته وأولاده هم المخلّصون. لكنّ الإله في التوراة ينذر نوحاً بأنّ عليه أن يخلّص نفسه من خلال السفينة، التي اعتبرها بعض المفكّرين المسيحيّين رمزاً سابقاً للسيّد المسيح المخلّص. أمّا في الحكاية الأبورجينيّة، فالناس يخلصون عن طريق الصدفة، بينما هم كانوا على متن الزورق إبّان حدوث الفيضان الذي لا يتوقّعونه.
وفي كلتا الحالين، تستقرّ السفينة على جبل، ففي الشهر السابع، وفي اليوم السابع عشر من الشهر، استقرّ فلك نوح على جبل أراراط. وكانت المياه تنقص حتّى ظهرت رؤوس الجبال.وفي الاقصوصة التي بين يدينا استقرّ الزورق على جبل “بروم”، وهو جبل يقع الآن في أستراليا الغربيّة. ويمثّل الجبل بالطبع قمّة الخلاص، لأنّ سطح المياه لا بدّ أن ينحسر، ويبقى رأس الجبل ظاهراً. وهذا ثابت في العلم، فالأشياء الأعلى تظهر أوّلاً من سطح الماء، والأشياء المنخفضة يتأخّر ظهورها.
وانحسار الماء في التوراة هو مقدّمة للعودة إلى الأرض “كانت المياه تنقص”، وفي قصّتنا بعض التصوّر الدراميّ الأكثر غرائبيّة ودراميّة أيضاً: “ثمّ قام رجل أعسر وضخم، يدعى “جبالغاري”، بقطع إصبع يده الصغيرة، فتدفّق الدم إلى مياه الفيضان. وبدأت المياه تنخفض، ثمّ اختفت”. وإنّ اختفاء الماء يبشّر بنزول الناس، من الآلة التي حملتهم، إلى اليابسة فينجون من الموت.
أمّا غرق جميع الناس، فهو لبّ الحادثة المأساويّة. وعندما اختار الله نوحاً لينقذه، كان السبب أنّه بارّ، ومن تبقّى وما بقي من الأرض سيُمحى. وفي الأسطورة الأبورجينيّة يحدث الأمر نفسه، فقد “غرق جميع الناس”، ما عدا الذين بلغوا قمة الجبل.
إذن، تجوز المقارنة بين النصّ التوراتيّ ومثيله الأبورجينيّ. والسؤال: هل عرف الأبورجينيّون التوراة؟ أم هل عرف الشرقيّون الحكاية الأبورجينيّة التي قد تكون سابقة بآلاف السنين؟
إذا كان طوفان نوح قد حدث قبل حوالي 5000 من الميلاد، بحسب أغلب المؤرّخين، فمعنى هذا أنّه حدث منذ حوالي7 آلاف عام من الآن. أمّا حضارة السكّان الأصليّين فتعود إلى حوالي 60 ألف سنة. فالأسطورة الأبورجينيّة عن الطوفان سابقة – على الأرجح- لحكاية التوراة. وسواء سبقت أم تأخّرت، أفليس غريباً هذا التشابه بينهما، ويبعث على التفكير؟
لم يخرج الأبورجينيّون من القارّة الأستراليّة، ولا وصلت إليهم ثقافات الشعوب الأخرى – كما نعلم. ولكن من البديهيّ أن تتشابه الأفكار الإنسانيّة، وتتقاطع الأساطير. فقد تجد مثلاً، حكاية شبيهة بحكاية طائر الفينيق التي مصدرها الساحل الفينيقيّ، في اليابان القديمة. وهذا نسمّيه الخيال الأسطوريّ الجماعيّ الذي ينتج من تلقاء نفسه، وبغير اتّفاق بين الأمم.
وفي كلّ حال، تبقى الأسطورة كنزاً ثقافيّاً، على بدائيّته وسذاجته، يدغدغ مخيّلات الناس، ويدلّ على المستوى الفكريّ الذي كانت عليه الشعوب الأولى، وتفسيراتها لخوارق ومظاهر حدثت، ولم يكن ممكناً شرحها بالعلم، فكانت الأسطورة البديل الذي يتاح من خلاله توضيح الفكرة. وهذا التصوّر الذي لا يُصدّق، يمكن أن تكون له خلفيّة حقيقيّة. فالفيضان قد حدث في بلاد ما بين النهرين، وفي الصين، والهند، وفي اسكندنافيا، وشهده الهنود الحمر في أمريكا، ورآه أجداد الأبورجينيّين القدماء في أستراليا… في تواريخ مختلفة، ونجحت مخيّلات الشعوب الغنيّة والخلاّقة، في توثيقه بطرق متباينة، تتشابه حيناً… وتختلف حيناً آخر
***
*مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابيّة – النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.