بقلم: الباحث حواس محمود (*)
يمكن اختصار “المستقبلية” بعبارة واحدة هي التوجّه نحو المستقبل، وهي ظاهرة قديمة عرفتها المجتمعات والسلط السياسية، غير أنها مرّت بمراحل ثلاث هي: مرحلة اليوتوبيا، مرحلة التخطيط، مرحلة النماذج العالمية، وتطوّرت أسوة بمختلف المجالات المعرفية، مع محاولات تكريس منهج علمي للتعامل مع “الآتي بعد الحال”… فأين هي الدراسات المستقبلية في الوطن العربي؟ وأين هي المستقبلية في الثقافة العربية، أو على مستوى الدوائر المجتمعيّة عموماً، بدءاً من الدوائر الصغرى كالعائلة، وصولاً حتى الهرم الأعلى للدولة؟
تشكّل الرغبة الإنسانية لمعرفة الغد ظاهرة تاريخية عرفها الإنسان في مراحل تطوّره المختلفة، ولم تكن هذه الرغبة مقتصرة على الأفراد، بل على السلطة السياسية أيضاً، بحيث انتشرت في أروقتها محاولات استطلاع المستقبل وما يحمله من احتمالات النصر والهزيمة، أو ما يدبره الخصوم السياسيون في الخفاء. فصفحات التاريخ زاخرة بالحكايات والأساطير عن استخدام القياصرة، أو الأباطرة، أو الخلفاء للكهان والعرافين والمنجمين للكشف عمّا تخفيه الأيام المقبلة.
في العصر الراهن، أضحت الدراسات المستقبلية من الأمور الضرورية والمهمّة للدول والمجتمعات. فمن خلالها يرسم الباحثون والمستقبليون، عبر مراكز دراسات خاصة تموَّل من دول وشركات عالمية كبرى، مسارات التاريخ واحتمالات التحوّل، والانعطاف، والتطوّر في الدولة المعنيّة، أو في الدول ذات التأثر والتأثير المتبادل.
إلا أن التأريخ العلمي لظاهرة الدراسة المستقبلية، يبدأ من نقطة محاولة إيجاد منهج علمي قابل للتراكم المعرفي للتعامل مع ” الآتي بعد الحال”، واستناداً إلى ذلك، يمكن تقسيم مراحل التطوير لهذا الميدان المعرفي إلى ثلاث مراحل:
أولاً: مرحلة اليوتوبيا
يمكن القول بأن إحدى سمات الفكر الإنساني الممنهج هو تخيّل بنيات أو أنساق اجتماعية قادرة على حلّ مشكلات الواقع المعاش، من دون أن تكون هناك مؤشرات كافية على إمكانية تحقيق مثل هذه البنيات المتخيلة؛ ويقول العالم المستقبلي ” فرد بولاك ” إن أفكار هؤلاء الفلاسفة تعكس البنيات الاجتماعية التي انبثقت منها، وهي مرتبطة برغبات الأفراد الذين كانوا يعيشون في هذه المجتمعات. لكن بعض الباحثين في الدراسات المستقبلية، يقولون إن فكرة الحكومة العالمية، التي روّج لها الفكر اليوتوبي، أو الفكر الذي وصف بهذا الوصف، لم تعد يوتوبية كما بدت عند طرحها. فكثير من مفكري العولمة المعاصرين، يرون أن مثل هذه الحكومة قابلة للتحقّق، كما أن الخيال العلمي الذي نراه على شاشات السينما أو التلفزة يدل على أن ثقة الإنسان بخياله وقدرته على تحقيق هذا الخيال، يشكّل دفعة للدراسات المستقبلية، من حيث إدخال الخيال في الاحتمالات المختلفة لدى دراسة ظاهرة معيّنة. وقد دفع النقاش في هذه المسألة الباحثين في الدراسات المستقبلية إلى التمييز بين ثلاثة أبعاد للمسارات المختلفة الخاصة بالظاهرة موضوع الدراسة.
أ. الممكن، وهو ما يعني الاحتمال الذي يمكن أن تأخذه الظاهرة، ويتوّفر الواقع على مؤشرات كافية لتحقيقه.
ب. المحتمل، وهو أحد احتمالات تطوّر الظاهرة، لكن مؤشرات هذه الاحتمالات ليست كافية في الواقع.
ج. المفضل، وهو الاحتمال الذي نرغب بأن تتطوّر الظاهرة نحوه، لكن المعوقات الموضوعية لتحقيقه محدودة بقدر كبير، وقد أُدخلت الدراسات اليوتوبية في نطاق الدراسات المستقبلية من باب النمط الثالث، أي المفضل.
ثانياً: مرحلة التخطيط
يُشار في هذا المجال إلى الفيلسوف الفرنسي “غاستون بيرغر”، الذي أنشأ في العام 1957 المركز الدولي للإشراف، بهدف تشجيع الباحثين على النظر إلى الغد بطريقة أكثر تفاؤلاً، وتركزت جهود ” بيرغر” على جانبين:
أ. التأكيد على عدم الفصل بين الظاهرة الاجتماعية من ناحية، والتطور التكنولوجي من ناحية ثانية؛ ومن هنا بدأ الربط بين بعدين هما الدراسات المستقبلية الخاصة بالتطوّرات، ثم الدراسات المستقبلية الخاصة بأثر التطوّرات التكنولوجية المشار إليها على الظواهر الاجتماعية، مع إيلاء الأبعاد السياسية أهمية واضحة.
ب. التركيز في التحليل المستقبلي على الآثار البعيدة، وعلى الاتجاهات، وليس الأحداث. وقد نجم عن ذلك تداول تصنيف مينوسوتا ( نسبة إلى الولاية الأميركية) في المدى الزمني للدراسات المستقبلية.
ثالثاً: مرحلة النماذج العالمية
تقوم أسس الدراسة المستقبلية في النماذج العالمية على:
تحديد قدرة الوحدات الدولية التي تؤدي إلى انهيار أو بقاء النظام الدولي في حالة توازن؛ ولعل أهمّ الأفكار التي برزت في هذا الجانب، هي أفكار العالم المعروف ” بروغوجين” عن فلسفة عدم الاستقرار، والتي كان لها أكبر الأثر في مفهوم النظام من ضمن الدراسات المستقبلية.
تحديد ميكانيزمات التكيّف المتوافرة للنظام الدولي لمواجهة التغيّرات المحتملة مثل، دراسة مساحات الأراضي الزراعية لمواجهة الزيادة السكانية، أو العلاقة المستقبلية بين سباق التسلح والغد.
تحديد قدرة الوحدات الدولية القائمة على تعبئة مواردها لمواجهة التغيرات.
تحديد المسوغات القانونية، التي تبرّر تدخل القوى الخارجية لضبط الخلل على المستوى الدولي.
اعتبار عملية التغيّر هي القاعدة.
المستقبلية في الفكر العربي
يلاحظ معظم الدارسين المتابعين للشأن التنموي في الوطن العربي، أن الدراسات المستقبلية لا تزال محدودة جداً، وحين تقوم دراسات من هذا النوع فإنها لا تخرج عن النطاق الأكاديمي، ولا تكون جزءاً من نسيج التفكير الاجتماعي أو من الممارسة الفعلية، سواء على مستوى الحكومة أم على مستوى الأفراد. ناهيك بأن هناك شبه انقطاع بين النطاق الأكاديمي الجامعي، وبين ما ندعوه بالحياة العامة في بلداننا. ويتجلّى هذا الانقطاع الخطير مثلاً، في حصر البحث في القضايا ذات الصلة بالاقتصاد، أو التشغيل، أو الإسكان، أو المواصلات من ضمن أروقة الجامعة ومراكز البحث والتخطيط، بحيث لا تستفيد من نتائج هذه الأبحاث القطاعات المعنيّة في المحافظات، وفي البلديات على مستوى واسع.
والحال، فإن الثقافة السائدة في مجتمعاتنا، لا تزال بحاجة الى التخطيط المستقبلي، سواء على مستوى العائلة، أم على مستوى القرية، فالبلدية، والدائرة حتى الهرم الأعلى للدولة. وفي الواقع فإن فكرة “علم المستقبليات” ينبغي أن تنطلق، من حيث النظرية والتطبيق معاً، من العائلة، باعتبارها النواة الأولى والأساسية للمجتمع السياسي والمدني.
على هذا، فنحن أمام مشكلة جوهرية تتمثّل في انعدام ثقافة ضبط الحياة وفق مخططات مدروسة تأخذ بعين الاعتبار الإمكانيات المتوفّرة والممكنة في كل مجال من المجالات. كما أن انعدام هذا النمط من الثقافة على مستوى العائلة، هو الذي يولّد الفشل في إيجاد صيغ ملائمة للتسيير والتنمية على مستوى الدولة. ويتفق الباحث عمر أزراج مع الدكتور فؤاد زكريا بأن “هناك عوامل معروفة ترتبط بهذا النوع من التصرف، مثل انخفاض المستوى التعليمي والاقتصادي…إلخ”، إلا أن القضية في الجوهر ذات صلة بالثقافة السائدة في المجتمعات العربية، وبعلاقتها بالتنمية على اختلاف أشكالها وألوانها. ولا بدّ من بناء ثقافة التخطيط ودراسة الواقع علمياً من دون تدخل العواطف، والخيالات، والمواقف الارتجالية. فالرهان هو على الثقافة بمعناها النظري والسلوكي العملي.
ومن المهم هنا الإشارة إلى عالم المستقبليات المغربي د. “المهدي المنجرة”، وهو عالم مستقبليات عربي له دراسات ومؤلفات كثيرة في هذا المجال، ومن اللافت أن المنجرة قد أصدر كتيباً في العام 2000 بعنوان: ” عولمة العولمة “، يتحدث في أحد فصوله عن ثلاثة سيناريوهات ترسم ملامح المجتمعات العربية، الأول هو الاستقرار والاستمرار، والثاني الإصلاح، الذي لم ينجح تماماً في الوطن العربي، والثالث- وهو الذي يرجحه المنجرة في كتيبه- هو التغيير الجذري أو المواجهة أو التحولات الكبرى والعميقة، وهذا ما يحصل الآن ، لكننا لا ندري كيف سيتمّ هذا التغيير وما هي درجة سرعته، في ظل عدم وضوح رؤية المسار التحولي في دول الربيع العربي.
إن الدراسات المستقبلية في الفكر العربي تتركّز على مشروعات، أو بدائل، أو مستقبليات لم تتحدّد ملامحها وشروط وآليات إنجازها بالكامل. كما أن الفكر العربي يواصل دراسته للمستقبل في علاقته بالتحديث والحداثة … والشكلانية، وما يتمخض عن ذلك من أزمات ، أو تنمية، أو استقلال، أو تحديات .
سؤال الفكر العربي والمستقبل سؤال وجودي قبل أن يكون معرفياً وسياسياً، منطلقه الوعي النقدي، باعتبار الوعي والنقد استراتيجية التغيير والمستقبل لا الاستسلام والالتزام. ومن هنا كان على الفكر العربي المعاصر – بكل آلياته وأدواته- أن يدخل عالم المستقبل بحثاً عن موقع مميّز فيه.
********
(*) مؤسسة الفكر العربي- نشرة افق
(*) كاتب من سوريا
كلام الصور
1- المهدي المنجرة
2- غلاف عولمة العولمة