الشاعر ألبير وهبه
١- النص من الكتاب:
التنوير فكرة قديمة. أعاد إحياءها الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في زمن مناسب لها. ومَن يرفض التنوير هو الرافض لتطوير العالم إلى الأفضل. لكن أعارض تماماً الاعتماد على العقل وحده في التمدّن والابتكار. والتنوير حالة خيّرة تفرضها حتميّة التاريخ، وهي تُناقض الكسل والخمول.
التنوير مرتبط بطبيعة الحال بالتطوّر. وهذا لا يحتاج إلى فلسفة، فالطفل الصغير الذي لم يذهب إلى مدرسة يكتشف التطوّر في نفسه، عندما يكبر يوماً بعد يوم، ويتعلّم النطق والحركة. وهكذا المجتمعات تنهض من الأدنى إلى الأعلى بطريقة تلقائيّة، ما عدا تلك التي تختار الحروب لتدمير نفسها والعودة إلى أزمنة الحجر…
-نحن إذن ، يا سيّدي، نعتمد على الفكر من أجل التنوير؟
-يا لكم من أحبّة جاهلين! أما قلت لكم في الماضي إنّ العقل والروح يتماشيان ويقترنان؟ فكيف نطرح
أحدهما ونهمله؟ بيد أنّنا إذا سلّمنا أنفسنا لمشيئة الروح، سقطنا في الفشل، وإن اعتقدنا أنّنا نرتفع. ولو سلّمنا للعقل وحده، كنّا أسوأ من حيوانات الغابة، وأتفه من الضفادع التي تنقّ في مستنقع… فلا تبقى لنا مشاعر، ولا عاطفة، ولا محبّة، ولا إيمان… فتعلو أجسادنا إلى فوق، وتنحدر قيَمنا إلى تحت.
“لقد رأينا في المدينة أناساً لا يؤمنون بأنّ الله موجود”… ارتفع صوت واحد من التلاميذ، فالتفت إليه الكاهن المعلّم، وقال:
أعرف ذلك. ففي كلّ المدن والقرى أناس يدّعون المعرفة والفهم، ويتخايلون بأنّهم وصلوا إلى قمّة الجبل، وهم لم يبلغوا السفح. فمن أين جاء هؤلاء بالعِلم الذي يثبت عدم وجود الله؟ وهل يختلفون عن المؤمنين الذين لا يُثبتون بالعِلم وجود الله؟ المؤمن وغير المؤمن لا يعرفان،أمّا المؤمن فيحبّ الله وهو لم يره. وغير المؤمن ينكر الله، وليس متأكّداً من عدم وجوده. ومع ذلك، لا تمعنوا في الجدال مع أحد، فقد يطول الجدال، ويتحوّل إلى مواجهة أنتم بغنى عنها. فالعنيد لا تشحذه وسيلة إقناع، ولا يغيّره منطق… لقد كان سقراط من السبّاقين إلى تقدير سبب الوجود، وتمعّن في الدوافع والـتأثيرات، واعتقد بأنّ كلّ ما نراه حولنا، أتى من مكان ما، وهو ما نعرّفه بأنّه “السبب الأوّل”، أي المصدر الذي انطلق منه كلّ شيء. وجاءت الديانات بعد عصور لتحدّد المصدر الأوّل للوجود بأنّه الله.
أستغربُ لماذا البعض، مثل نيتشه، يريدون تغييب الله. هل هو مصدر قلق لهم؟ هل إنّ عدم وجوده يوحي بالطمأنينة، بحيث لا تكون عليهم مسؤولية بعد الموت؟ هل استحالة وجود الخالق تعني استحالة وجود الحساب، وتبعاً لذلك يتمتّع المرء بالحرّيّة المطلقة ليفعل ما يشاء؟
وتراودني هنا فكرة مهمّة، قد لا تكون متداولة بين الناس، وهي: هل إنّ قوى الشرّ والثأر والانتقام والعداء تعوّل على غياب الخالق لتفعل أفعالها، وتنجو من مراقبة العين التي تراها من السماء؟ وبمعنى آخر، هل يفكّر الممعن في الإثم أنّ هناك مَن يعرف ماذا يفعل، ويدوّن في كتاب مجموع أفعاله، ليحاسبه عليها؟
لقد عاشت الشعوب القديمة مدّة طويلة لا تفكّر بأنّ الخالق موجود، ثمّ اهتدت مع تطوّر معرفتها، أو لنقل تطوّر حشريّتها، إلى التفكير في أنّ خالقاً قد يكون وراء الوجود، تماماً مثلما الأب والأم وراء وجود المولود. وبعد ذلك تطوّرَ الإلهُ من صفة خالق إلى صفة مراقب، ومعاقب ومكافئ. وهذا التطوّر اعتنقته الديانات كلّها، وأصبح كلّ إنسان مؤمن يخاف من الحساب، ويعمل خيراً طمعاً في المكافأة. وسقراط نفسه قبل الديانات، كان يعتقد بأنّنا جميعاً نحاول أن نقترب من الخير ونبتعد عن الشرّ. وكان يعتبر أنّ الخير متعة والشرّ تهلكة. ويربط سقراط بين تصرّف الإنسان ومعرفته. فالذي يقامر ويخسر دائماً، لا يعرف أنّ القمار شرّ، بل يظنّ أنّ ما يفعله خير له ومتعة ذاتية. وهذا نقص في المعرفة، لأنّ المعرفة تأتي كثيراً من الخبرة، فالخسارة هي شرّ وتكرارها تكرار للشرّ. ولو لجأ الإنسان إلى الحكمة والفهم، لتوقّف عن المقامرة، تفادياً لمزيد من الخسارة.
وفي المقلب الآخر، فإنّ الذي يسرق يعتمد على واحدة من معرفتين: إمّا أنّ السرقة إثم ولا تجوز، وإمّا أنّها مصدر لحصوله على المال وتجوز. وقد غلبت معرفته الثانية على الأولى، على الرغم من أنّه يهجس أحياناً بأنّ السرقة خطيئة. وهذا التفكير الأخير يبقى عابراً ولا يرقى إلى مستوى المعرفة الراسخة في نفسه. ولو جئت إلى عشرات الحكماء وسألتهم: هل السارق محقّ؟ لقال أكثرهم إنّه غير محقّ، ما عدا الحكماء الذين تكون معرفتهم كمعرفة السارق، وهؤلاء قلّة، وحكمتهم ليست قائمة على الحقّ.
2- مطالعة الأستاذ ألبير وهبه
النّص الذي سأتناولُهُ بالدراسة هو واحدٌ من هذا الإصدار الجديد” المتقدم في النّور” للأديب الصديق الدكتور جميل الدويهي يتناولُ فكرتين:
الأولى: فكرة التنوير
والثانية : فكرة وجود الله
في الفكرتين ينتقد الأديبُ مفهوم التنوير القديم، ويعارض الفلاسفة الذين أرادوا تغييب وجود الله.
فما هو التنوير؟
في اللغة التنويرُ مصدر الفعل نوَّرَ.
وتنوير البيت: إضاءته. وعمل على تنوير فكره: جعله متنوِّراً.
وفي الفلسفة: التنويرُ حركةٌ قامتْ في أوروبا شهدها القرن الثامن عشر.
تعتمدُ هذه الحركةُ فكرةَ التَّقَدُّمِ وإِعمالَ العقلِ في فهمِ واقِعِ المُجتمعِ، والتَّخلّي عن أفكارِ الماضي. وقد أطلقَ عَليْها أصحابُها تسمية “عصر العقل”.
في مقالته هذه يعارضُ الدكتور الدويهي هذا الاعتقادَ، فكرة الاعتمادِ على العقل وحدهُ في التَّمدُّنِ والتطوّرِ والابتكارِ. ويحدِّدُها بأنَّها حالةٌ خيِّرَةٌ تفرضُها حتميَّةُ التاريخِ. وهي ترتبِطُ بطبيعةِ الحالِ بالتطوّر.
ويضربُ الأديبُ أمثلةً على ذلكَ:
“الطفلُ الَّذي لم يذهبْ بعد إلى المدرسةِ ، يكتشفُ التطوُّرَ في نفسِهِ، والمجتمعاتُ تتطوَّرُ من الأدنى إلى الأعلى. ويضيف الأديب الاعتمادَ على الفكر من أجلِ التنوير. كما أنه يركّزُ على ضَرورَةِ الاعتمادِ على العقلِ والروحِ معاً، فهما يتماشيانِ ويقترنان”
في الفكرة الثانية، يتساءلُ الأديبُ، ردّاً على الذين لا يؤمنون بوجودِ الله:” من أينَ جاءَ هؤلاءِ بالعلمِ الّذي يُثْبِتُ عدمَ وجودِ الله ؟”
ويعتمدُ الأديبُ على تحليل سقراط الَّذي كان من السَّبّاقينَ إلى تقديرِ سَبَبِ الوجود؛ والَّذي اعتقدَ أَنَّ كُلَّ ما نَراهُ حوْلَنا أتى من مكانٍ ما؛ وقد أسماهُ السَّبَبَ الأول، أي المصدرَ الَّذي منه انطلَقَ كُلُّ شيءٍ، وأتتِ الأديانُ السماويّةُ لتحدِّدَ هذا المصدَرَ بأنّه” الله”.
ويتساءَلُ الأديبُ: “اماذا أرادَ البعضُ تغييبَ الله؟ هل هو مصدَرُ قلقٍ لهم؟ أم أنَّ عدمَ وجودِ الخالقِ يعني استحالَةَ وجودِ الحساب؟ وهكذا يتمتعُ الإنسانُ بالحُرِّيَّةِ المُطلقةِ ليفعلَ ما يشاء!
ويحدِّدُ الأديبُ الدويهي هؤلاءِ المتنكرين لوجودِ اللهِ قائلاً: ” هل إنَّ قوى الشَّرِّ والثأرِ والانتقام والعداءِ تُعَوِّلُ على غيابِ الخالِقِ لتفعَلَ أفعالَها وتنجو من مراقَبَةِ العينِ الَّتي تراها من السماءِ.”.
كما أنه يركِّزُ على “تطوُّرِ المعرفَةِ عندَ الانسانِ القديمِ الَّتي أدَّتْ إلى التفكيرِ في أنَّ خالِقاً قد يكونَ وراءَ الوجودِ مثلما الأب والأم وراء وجودِ الأولاد”. وبعدها تطوّرَ الإلهُ من صِفَةِ خالِقٍ إلى صفةِ مراقب ومُعاقب ومكافئ، وهذا ما اعتنقتْهُ الدياناتُ.
هذه المقالة تتضمَّنُ أفكاراً تنويريةً تسلِّطُ الضوْءَ على العلاقة الإنسانيةِ بين البشرِ بكلِّ أشكالِها: الخيِّرَةِ منها والشّريرة، ومفهوم هذه العلاقة من منظارٍ فلسفيٍّ فكري.
مبروك لك صديقي العزيز هذا الاصدار الجديد، وإلى مزيد من العطاء من نهركَ الفكري.
***
*مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي
*تنشر وقائع الجلسة في كتاب يضاف إلى مكتبة أفكار اغترابية.