منيرة مصباح
كل انسان مهيأ لأن يكون شاعرا بالفطرة، والفطرة هي الاستعدادالبشري الطبيعي لتلقي شعرية العالم لكن هذا الاستعداد بحاجة لمن ينقله من القوة الى الفعل الكتابي، ولا يمكن نقله الا باللغة، واللغة هنا هي الروح المختزلة للشعب، والشعر فيها هو زهرة هذه اللغة وهو النهر الذي يخترق منابع الحياة في كل الحضارات البشرية.
وقولي هذا يتأتى من خلال مسيرتي الأدبية واضطلاعي على فنون وأداب العديد من شعوب العالم، وقد لفت نظري في هذه المسيرة المستمرة فنون الشرق الأقصى وبالذات الفنون الصينية التي تحمل الكثير من الرقة والشفافية في معانيها وتشكيلها وشعرها، حتى في الكتابة المرتبطة بالرسم والشعر معا.
ان هذه الأداب من الفنون الغنية في العالم ولها جذور ضاربة في عمق التاريخ الحضاري لتلك البلاد العريقة بحضارتها الشرقية والتي تتميز بمفاهيم انسانية عالية تعود الى قرون خلت قبل الميلاد، ذلك الى جوار ارتباط هذه الفنون بحركة الحياة اليومية للإنسان الصيني مما جعلها تستمر حية ومتقدمة الى عصر الحداثة دون ان تتأثر روح حضارتها بالحضارة الغربية، انما هذه الروح مازالت بعيدة وغريبة عن طبيعة الفنون الغربية، والفن الصيني الذي ساتكلم عن الشعر فيه يهتم بالعناصر المادية والموضوعية، الى جانب الطابع الروحي الخاص المتمثل بالبوذية والطاوية. والمعروف في الفلسفات القديمة لحضارة الشرق الاقصى، انها اهتمت كثيرا بالفكر والفن والكتابة، وربطت بين الرسم والشعر فوجهت الانسان نحو تلك الشعلة لتضيء بها انسانيته ولتدفعه بالتالي للعودة الى الحقيقة والخلاص.
وهذا لا يعني ان الفلسفة الصينية قد اهتمت بالروح والعقل فقط، انما تعدت ذلك في بناء الجسد وتقويته ليكون وعاءا سليما يحفظ العقل والروح معا .
وبما ان الشعر واحدا من اهم الفنون الابداعية الفكرية المتميزة، لذلك أولاه الصينيون منذ القدم اهتماما كبيرا واعتبروه اداة حماية للانسان من الاخطاء التي يرتكبها الاخرون.
كما ان هذا الفن في الفلسفات القديمة لبلاد الصين هو من الفنون التي تفتح للانسان افاق المعرفة الملامسة للطبيعة والقدر الكبير من التأملات الغامضة، لذلك جاء الشعر الصيني القديم حاملا آراءا وقيما روحية عالية، حلق بها الشعراء بعيدا، حيث كانت الطبيعة هي الملهمة الوحيدة لهم والتي جعلتهم يعيشون في حالة من الاستغراق التام لخلقها من جديد في العملية الابداعية الشعرية .
لكن بالرغم من توحد الشاعر بالطبيعة لخلق نموذج اعلى فنيا، مما اعطى القصيدة الصينية القديمة، تالقا محكما في صنع الكلمة المليئة بالمشاعر الانسانية الصادقة والبناء المتكامل، الا انها حملت مضامين فكرية عميقة داخل الاطار الجمالي للطبيعة .
فكثير من القصائد تناولت موضوعات الحب والفقر وغيرها من القضايا الانسانية مما اعطى العمل الابداعي عملية التواصل الدائم مع الناس ومع الواقع المعاش بلغة جمالية صادقة، تكامل فيها الشكل بالمحتوى.
لقد كان الشعر الصيني دائما مطالبا بان يكون في صميم الجمال الحقيقي لجوهر الاشياء في الطبيعة، لذلك نراه قد استطاع تجاوز الزمن ليبقى عبر كل العصور حيا متفاعلا مع الانسان والحياة، ومخترقا كل الحدود الوهمية ليصبح مركزا مغروسا في عالم الحضارة البشرية .
وارتباط الرسم بالشعر نراه داخل الكتب الدينية المصممة والمكتوبة منذ اكثر من 1500 سنة واستمرت الى القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر. كما ان الشعراء الصينيون كانو يستعملون ورقا خاصا بهم في كتابة وطباعة أعمالهم الفنية، غير موجود في الغرب.
أيضا شمل هذا التراث الفني العديد من القصص والروايات الشعبية التي تعبر عن الحياة اليومية والحكايات الغرامية والثورات الشعبية. وفي الفترة مابين القرنين الخامس عشر والسادس عشر ازدهرت كتابة الروايات الطويلة المليئة برسوم “الغرافيك” المعبرة عن ثورة الفلاحين ضد الاقطاع. وقد مرّت التجارب الفنية في الصين بتقلبات مختلفة ابرزت أهم عناصر الاساليب الهندسية، ورغم ذلك فان اكثر التغيرات ترجع الى المؤثرات العقائدية مثل البوذية والكونفوشسية. وهذه الافكار قدمت دفعة هائلة للنشاطات الفنية التي يدخل ضمنها الشعر. لكنها أيضا انزلت بتلك الفنون جمودا باصرارها على نوع واحد من الرمزية المتعلقة بعبادة الأسلاف والتي دائما ما تكون عنصرا سيئا في الابداع الفني. ان هذه القوانين في الفن كانت تخضع خضوعا قاسيا للتقاليد أدى بالمبدع الى التقليد الصارم للموروث. ورغم كل ذلك فان الفن والشعر بالاخص قد احتفظ بحيويته بالغا أسمى تطور له في العصر الحديث.
يقول احد الشعراء في قصيده تعود لالاف السنين قبل الميلاد:
“المطر السخي يعرف ميعاده
يصل تماما في الربيع…
يروي دون ضجة كل شيء ،
سوداء كانت الغيوم والطرقات هذه الليلة،
وحدها نيران المراكب تلمع،
في الصباح كان كل شيء يقطر ماء
وكانت ثقيلة ازهار “تسانج… تسانج…”