مسافات: الأدب الكوبي في مراحل تغيراته

 

 

   منيرة مصباح

 

الادب الكوبي من الأداب التي لحقت بالكثير من التحولات الفكرية على صعيد الرواية والفن والسياسة والمجتمع كبقية دول اميركا اللاتينية، ويرجع هذا لتبعية الأنظامة الدكتاتورية المطلقة للسياسة الغربية ولمدة سنين عديدة، مما أدّى بها الى اضطهاد الأفكار المعارضة للدولة ولعقود كثيرة. لكن الكتاب الكوبيين بنضالهم المستمر أثبت تحقيق انتصاره على كل النظم الدكتاتورية مهما بلغت قوتها وجبروتها ومهما تنوعت أدوات القمع والارهاب للفكر والاداب والفنون فلا بد لارادة الحياة من ان تنتصر.

كتب الأدباء الكوبيون كثير من اعمالهم الابداعية عن هذه التحولات، ودخلوا في الكشف القادر على إعطاء صورة واضحة لفهم أزمات وتحولات الواقع والبحث في المستقبل. هذه الازمات ليست لحظات طارئة لانها تعلن تهافت مراحل هامشية كاملة مع رموزها ولغتها التي تلخص أحداثها وتضعنا امام بداية جديدة لعالم يواجه خبايا ذاكرة الانسان والوطن والمجتمع.

 

من هؤلاء الادباء “ادموندو ديزنوس” (Edmundo Desnoes) الذي يعتبر احد أبرز الكتاب الكوبيين الذين عاصروا مرحلتين من مراحل الأدب الكوبي، فترة ما قبل الثورة، ثم فترة مابعدها وما رافقها من تغيرات على الصعيدين الاجتماعي والسياسي.

عمل “ادموندو” (Edmundo Desnoes) لسنوات عديدة في الصحافة الأدبية في كوبا، مما أغنى حياته بالعديد من التجارب الثقافية والانسانية والأدبية. كما ان ثقافته كانت خليطا من الثقافة الانكليزية والثقافة اللاتينية، فقد نشأ في أسرة تتكلم أمه فيها اللغة الإنكليزية لأنها جامايكية بيضاء، ووالده كوبي يتكلم اللغة الإسبانية. اما دراسته فقد كانت في كوبا.

تابع “أدموندو” الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد ذلك سافر الى فنزويلا حيث درَّس اللغة الانكليزية فيها وعمل في صحافتها. لكن بعد قيام الثورة في كوبا عاد “ادموندو” الى بلده، وبدأ في كتابة الرواية حيث وجد في وطنه الارض الخصبة للتأليف، بسبب الأجواء المتغيرة أنذاك والمتحولة في كافة الميادين الاجتماعية و السياسية والثقافية. ذلك ما دفع به الى تحديد موقفه وانتمائه لمستقبل الانسان الكوبي، فبدأ بالكتابة باللغة الإسبانية، لقناعته بانها اللغة الوحيدة التي يستطيع بها خلق الوعي والنضج لدى الشعب الكوبي.

 

كتب ادموندو العديد من الروايات، وسنتناول هنا واحدة من رواياته التي تحمل اسم “ذكريات لا تحتمل” (Inconsolable Memories)، وهي الرواية التي تحولت الى فيلم سينمائي، حيث تتناول حياة رجل مثقف عاش في هافانا أثناء الأزمة الكوبية، وتعرض لصراع نفسي وفكري بسبب التحولات الكبيرة القائمة في مجتمعه، خاصة وانه واحد من الطبقة المتوسطة. وتعتبر الرواية بمثابة سيرة ذاتية للكاتب لما تحمله من تشابه كبير بين الكاتب والشخصية الرئيسية في الرواية. و(ذكريات لا تحتمل) هي الرواية الثالثة للكاتب، انها سرد يومي للاحداث التي تعيشها شخصية العمل الروائي، وكيفية نظرته للحياة من حوله، برؤية ضيقة، تجعله يحيا في عزلة حادة، بسبب قصوره في استيعاب تحولات الثورة وفهمها من خلال أسس اجتماعية وسياسية جديدة وعلاقات إنسانية بحاجة الى التطور والى الانضمام للعمل المشترك.

ان الرجل المثقف الذي هجرته زوجته وأسرته بالكامل وسافرت خارج البلاد، يبقى متمسكا بأرضه رافضا ان يهجرها، رغم تألمه بسبب رحيل عائلته واصدقائه من حوله. لكنه مع هذا يكن لهم في أعماقه الحب والشفقة في نفس الوقت، بسبب تفكيرهم وممارساتهم القائمة على استغلال الإنسان واحتكار قدراته لمصالحهم الخاصة.

الرواية تصور لنا المجتمع الكوبي وتكشف سلبياته التي كانت سائدة واستمرت رغم التحولات، وذلك من خلال الحالة النفسية لبطل الرواية، حيث يكشف أعماقه وكل ما يختلجه من مشاعر وأحاسيس، تجاه القضايا والأشياء والأشخاص، وما يسببه له ذلك من ردود أفعال معاكسة تعترض مسيرة حياته. يقول في الرواية:

“انك تتوقع في الحياة استعادة اي شيء قد وهبك السعادة، هنا الفخ، تتألم عندما لا يكون معك، وعندما تحصل عليه، يصبح الخوف من فقدانه مريعا”.

 

هكذا يكشف بطل الرواية عن مشاعره، ليستمر في ذكرياته، مع محاولة التأقلم الجديدة، التي بدأت مع التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية لتشكل أسس جديدة للمجتمع المتخلف، فنرى الصراع الفكري الذي يعيشه بطل الرواية والذي يشده الى جذوره من جانب، والى الواقع الجديد المتغير الذي يجب ان يتحول ويتناغم معه.

أما في سياق الأحداث اليومية للشخصية في الرواية فنرى كيف تتحرك علاقاته الإنسانية والعاطفية، حيث تبرز شخصية المرأة التي تحررت من قيود الطبقة الارستقراطية الى نساء عاملات في شتى المجالات جنبا الى جنب الرجل في بناء مجتمع افضل لتقدم الوطن. هكذا “ادموندو ديزنوس” يرى صورة المرأة في مجتمع بدأ مرحلة الإنتقال الى التقدم.

وفي فصل من فصول الرواية ينتقد أادموندو” الكتاب الكوبيين، من خلال قصة “أيدي” التي يقرأها بطل رواية “ذكريات لا تحتمل”، فيقول:

“الرواية مليئة بنماذج دخيلة، هجينة انها مواقف ملونة، من خلالها يمكننا ان نرى كيفية محاولة ارضاء لأي قارئ”.

 

أما في تصويره لنفسية الاشخاص الذين يصلون الى مراكز عالية دون قدرات ، حيث تنعدم قدرتهم على مخالطة الناس، تشغلهم محطاطهم عن قول الحقائق  يقولون ما لا يفعلون ويمارسون حياتهم بشكل مزيف، هنا تصبح لغة الرواية في محك تسمية الحقائق فيلجأ الكاتب للغة خاصة تكون تجسيدا حقيقيا لانهيار مرحلة كاملة من ثقافة بائدة

يقول: “هؤلاء الذين يحتلون مراكز عالية ووظائف مهمة، لا علاقة لهم بي”.

في ظل هذه الحالة النفسية الصعبة التي يحياها بطل الرواية، نراه يبحث عن نافذة يستطيع من خلالها المرور للإندماج بالمجتمع الجديد، لكنه يجد نفسه عاجزا، وحيدا، تنخره العزلة والذكريات. لقد عرف عقم المجتمع المتخلف، وانحدار قيمه لكنه مع ذلك لم يستطع بوعيه هذا الإندماج بالتغيير الضروري القائم في المجتمع.

 

يقول: “لماذا؟ هل أخاف أن أخسر شخصيتين، ذكرياتي ورغباتي وأحاسيسي، وما يخصني ! سأموت هذا كل ما في الأمر، لن أحاول أن أتسلل من خلال الشقوق، لم تعد هناك أيّة شقوق، أريد ان أحتفظ بالرؤية الصافية والفارغة لأيام الأزمة، أنا انسان حزين لكن أريد ان أعيش ان أتجاوز الكلمات”.

هكذا بكل صدق صور “ادموندو ديزنوس”   (Edmundo Desnoes)حالة المثقف الكوبي وصراعه المستمر في المجتمع الحديث في روايته ” ذكريات لا تحتمل” وبحث في العيون التي تريد رؤية ما في الظلام في مسافة تكبر وتنتشر داخل الازمات ووسط لغة لا تكسرها الشهادة الحقيقية.

اترك رد