“علوم الأديان والتنشئة على المواطنية”

 

اكد العلامة السيد علي الامين في مؤتمر “علوم الأديان والتنشئة على المواطنية” أن “التعليم أساس في البنيان الوطني” داعيا الى “إعادة النظر في التعليم الديني في المدارس بالطريقة القائمة”.

وقال: “لا يخفى على أحد  أن رسالة التعليم لها الدور المهم بعد صناعة العلم والمعرفة في المجتمعات في صناعة الوحدة والتآلف بين أبناء الوطن الواحد والتواصل والتعارف مع الشعوب الأخرى، ولذلك كان من الواجب على المسؤولين عن التعليم العمل على اختيار ما يحقق الوحدة بين أبناء الشعب وعلى صناعة الأجيال المتآلفة التي تحافظ على الأهداف من هذه الرسالة”.

أضاف: ” وقد اقترن التعليم بالتربية واكتسب منذ قرون عديدة أهمية بالغة في مختلف المجتمعات و الدول و الشعوب، ولذلك انشأوا لتلك الغاية المدارس و المعاهد و الجامعات وأعدوا المناهج والبرامج للتعليم وللتربية، باعتبارها تتولّى صناعة الانسان الذي يشكل ثروة الأوطان وعماد بقائها واستمرارها من خلال العلم الدافع لها باتجاه التّطوّر و الازدهار، فبالعلم تتبدّد ظلمات الجهل وتنكشف غياهب التخلّف وتنقشع غيوم التعصّب و يدخل الانسان في عالم الأنوار ويلحق بركب الحضارة و التقدّم”.

وأكد أن “التعليم رسالة معرفة وتربية، وعبر تاريخ الرسالات السماوية لم تنفصل رسالة العلم عن التربية، وقد كان من مظاهر اهتمام السماء بالتعليم و التربية بعثة الأنبياء و الرسل الذين حملوا لواء العلم و التربية ونشروا المعارف و الاخلاق وكانوا الطليعة التي حملت بحق صفة المعلّم و المربّي و القدوة، واستحقوا ذلك بجدارة، وممّا يشهد لهذا الاهتمام السماوي بالتعليم و التربية واقترانهما ما جاء في الانجيل المقدّس من أقوال السيد المسيح لتلاميذه: ( أنتم تدعونني (المعلّم و الربّ ) وأصبتم فيما تقولون فهكذا أنا فإذا كنت أنا الرب و المعلّم قد غسلت أقدامكم فيجب عليكم أنتم أيضاً أن يغسل بعضكم أقدام بعض فقد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا انتم أيضاً ما صنعت إليكم) و في القرآن الكريم : ( هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين )  و الكتب السماوية مليئة بالدعوة الى اكتساب العلم و المعرفة وفي بعض النصوص الدينية أن العلم فريضة من الفرائض التي إن أداها الانسان فكأنما قام لأداء الواجب في محراب العبادة. ولذلك كان التعليم في عداد الرسالات التي يجب القيام بها اقتداء بالرسل و الأنبياء قضاء لحقّ إنساني فرضه الله على خلقه وقد جاء في بعض النصوص الدينية : ( ما…أخذ الله على الجهلاء أن يتعلموا حتى أخذ الله على العلماء أن يعلّموا ) و في الانجيل ( فمن خالف وصية من أصغر تلك الوصايا وعلّم الناس أن يفعلوا مثله عدّ الصغير في ملكوت السموات وأما الذي يعمل بها و يعلّمها فذاك يعدّ كبيراً في ملكوت السموات ) و في الحديث النبوي ( من تعلّم لله و علّم لله و عمل به دعي في ملكوت السموات عظيماً ) . ولذلك يقع الخطر و يحصل الضرر عندما تتحول تلك الرسالة من خلال الإهمال وانعدام الضوابط و القوانين إلى وسيلة من وسائل العيش وإلى أداة من أداوات التّعبئة الخاصة بجماعة أو حزب أو طائفة لأن ذلك يخرجها عن كونها رسالة معرفةٍ وعلمٍ هادفة لصناعة الانسان وبناء الأوطان لا تعرف الحدود الضّيّقة لأنها رسالة واسعة الأرجاء، فسيحة الأنحاء للإنسانية جمعاء، وبانعدام الضوابط والإهمال تتحول رسالة التعليم إلى أداة من أدوات الفرز و التقسيم الديني و الفكري  والسياسي وتؤدي إلى عكس الأهداف المرجوّة منها في تعزيز الروابط الانسانية و الوطنية”.

أضاف: ”  من هنا رأيت منذ عقود أن من اللازم إيلاء مسألة التربية الوطنية و التعليم في لبنان الاهتمام الكبير لأنها تشكل أساساً في بناء الوحدة الوطنية، فيجب إعادة النظر في التشريعات و القوانين التي يسمح من خلالها بإنشاء المدارس و الجامعات و اعتماد المناهج و الكتب المدرسيّة  و المؤلّفات، لأنّ ما نشاهده من عدم الانتظام في هذا الحقل الحيوي و الخطير ينذر بشرٍّ مستطير، فكيف يمكننا أن نصون وطناً واحداً و أن نحفظ وحدة لشعب لا يقرأ في كتاب واحد و لا يعتمد المنهج الواحد”.

وتابع: ” وقد لاحظت منذ قيامي بالتبليغ الديني بعد عودتي إلى لبنان في ثمانينات القرن الماضي تراجعاً في مناهج التعليم عن تحقيق هذه الأهداف في ترسيخ الوحدة الداخلية بين أبناء الوطن الواحد بالقياس إلى ما كانت عليه في الخمسينات والستينات من القرن الماضي عندما كنت طالباً في المدرسة في تلك المرحلة، وقد قلت عنها في بعض المقابلات: “من خلال التجربة التي عايشناها قبل ذلك مقارنة بالتجربة الفعلية ، فقد كانت المدارس تؤدي دورها في التعليم والتربية الوطنية بشكل أفضل مما عليه الحال اليوم حيث لم يكن الطلاب قبل إدخال مادة التعليم الديني يشعرون بأن هناك فوارق فيما بينهم عندما يجلسون على مقاعد الدراسة الواحدة التي كنا ندخل إليها صباحاً على وقع النشيد الوطني، وأذكر من الصور في تلك المرحلة عندما كنت طالباً وانتقلتُ من بعض مدارس الجنوب الى بعض مدارس الضاحية الجنوبية وبيروت حيث كان الطلاب يجتمعون فيها على موائد العلم والمعرفة من دون أن يعرف بعضنا دين زملائه أو مذاهبهم وفي حال عرفنا بإنتمائهم الديني عن طريق الصدفة فإن ذلك لم يكن يعني لنا شيئاً خارجاً عن الإنتماء الوطني الواحد ، ولم يكن في مواد التعليم التي كنا ندرسها ما يذكرنا بأننا مختلفون في الدين والمذهب أو ما يشير الى هذا الإختلاف الديني والمذهبي الذي لا علاقة له ببناء الأوطان وقيامة الدول والمجتمعات . وأما التعليم الديني الذي يُمارس اليوم فقد أصبح مادة للتنبيه الدائم على الإختلاف بين أبناء المدرسة الواحدة والصفِّ الواحد حيث يُسمح للطالب المسلم في ساعة تعليم الديني المسيحي أن يخرج من الصف ويُسمح للطالب المسيحي أن يخرج في ساعة تعليم الدين الإسلامي، فنكون بذلك زرعنا الإختلاف والإنقسام في نفوس الطلاب صغاراً ثم نطلب منهم الوحدة كباراً.  ثم إن الكتب الدينية التي يُسمح بتدريسها في كثير من المدارس اليوم هي مؤلفة وفق مذهب معين دون الأخذ بآراء المذاهب الأخرى مما يزيد من عملية الإختلاف في الصف الواحد والمدرسة الواحدة خصوصاً إذا أضفنا الى ذلك السياسة الطائفية التي دخلت عبر وسائل الإعلام الى كل بيت على مساحة إمتداد الوطن . كل هذه الأمور دفعتني الى أن أقترح في تسعينات القرن الماضي على بعض المسؤولين الكبار في الدولة إلغاء تعليم مادة الدين من المدارس بشكلها الحالي واستبدالها بكتاب يتحدث عن الأهداف العامة للأنبياء والرسالات السماوية . وقد رحّب بالفكرة واتّخذ قرار الإلغاء في مجلس الوزراء ولكن سرعان ما تم التراجع عنه نتيجة الضغوطات من قيادات المؤسسات الدينية الرسميّة”.

وقال: “لقد طالبت بالكتاب الديني الموحد وتنظيم التعليم الديني في المدارس،فكما ينبغي أن يكون كتاب التاريخ واحداً في المدارس كذلك يجب أن يكون كتاب التعليم الديني فيها، وقد كان جيلنا وجيل آباءنا من المؤمنين ولم يدرسوا مادة التعليم الديني في المدارس وقلت أننا نحتاج إلى إقامة المعهد المشترك للدراسات الدينية الذي يجلس فيه الأب مع الشيخ على مقعد واحد يساعد على الفهم المتبادل للدين ويتخرج منه الآباء والشيوخ دعاة في وطنهم للتلاقي والحوار،ومن خلال هذا المقعد الدراسي الواحد نكون من العاملين على بقاء الوطن الواحد والشعب الواحد والعيش الواحد، ومن العاملين على نشر ثقافة التواصل والتعايش بين الشعوب بسلام واحترام.

وللوصول إلى تلك الغاية يجب العمل على إصلاح مناهج التعليم والبرامج التربوية بالعمل على توحيدها في مختلف المراحل والقطاعات الخاصة والعامة، والعمل على إلغاء التعليم الديني من المدارس التي يجب أن تنحصر مهمتها في التربية والتعليم والتنشئة الوطنية،وأما التعليم الديني فهو مهمة الكنائس والمساجد والمعاهد الدينية ورجال السلك الديني المحتاج إلى الإعداد والتنظيم بما ينسجم مع روح العصر والعيش المشترك الذي يستدعي ثقافة الإنفتاح والتسامح”.

واردف: ” إذا كان لا بد من التعليم الديني في بعض البلاد فقد اقترحت في ظلّ تصاعد المدّ الطائفي والتوترات المذهبية في المنطقة العربية منذ سنوات عديدة على بعض المؤسسات الحوارية القيام بمبادرة لتأليف كتاب يعد لتدريس مادة الدين يتم التركيز فيه على المشتركات في الرسالات السماوية التي حملها الرسل والأنبياء وسيرتهم وتعاليمهم في تكريم الإنسان والحوار والتعايش وفضائل الأخلاق والقيم الإنسانية . ولتوسيع انتشار هذه الثقافة يعمل على تعميم هذا الكتاب من خلال جامعة الدول العربية ووزارات التربية والتعليم والمؤسسات ذات الإهتمام ليصبح نموذجاً يحتذى في كل البلدان ولكل المدارس والمعاهد التي تعتمد تدريس مادة الدين في برامجها التعليمية”.

وأشار الى ان “الناظر في مناهج التعليم المعتمدة اليوم في بعض البلاد يرى فيها أنها أصبحت بعيدة عن تلك الغاية المنشودة من الدين وتعليمه،بل أصبحت تلك المادة من أسباب زراعة الفرقة بين أبناء الوطن الواحد،والمدرسة الواحدة،وهذا ما شعرنا به في لبنان منذ عقود من الزمن،بسبب إدخال مادة التعليم الديني في المدارس في المجتمع المتعدد الطوائف والمذاهب،وهذا مما استفادت منه الأحزاب الطائفية والدينية في الإستقطاب الديني والمذهبي لطلاب المدارس من خلال تدريس هذه المادة في المدارس التي جعلت من طلاب المدرسة الواحدة ساحة لصناعة الفرقة الدينية والمذهبية بين أبناء الوطن الواحد المتعدد في انتماء أبنائه الديني والمذهبي،فكل مدرسة تختار لطلابها كتاباً يرتبط بمذهب خاص ودين معين، في الوقت الذي يجب أن تجمعهم مقاعد الدراسة على العلم والمعرفة وترسيخ وحدتهم الوطنية”.

وختم الامين: “إن كراهة الآخر والنفور والخوف منه لا تتولد من أزياء الناس وألوانهم وأعراقهم،وإنما تتولد من التعليم الذي تتولاه جماعات دينية وطائفية لغايات حزبية،تنشأ منه ثقافة تقوم على رفض الآخر المختلف عنه في الإنتماء الديني،وهذا مما يحدث الفرز والإنقسام في المجتمعات خلافاً لكل المشتركات الوطنية والإنسانية وتنتج عنه الإنقسامات والصراعات.ولإبعاد البلاد والعباد عن كل تلك المخاطر يجب إعادة النظر في التعليم الديني في المدارس بالطريقة القائمة”.

اترك رد