د. جميل الدويهي: عن طائفة أهل الكذب من كتاب “المتقدّم في النور”

 

 

الكاذبون طبقات وليسوا نوعاً واحداً. فقد تجد الكاذب السطحيّ الذي يدّعي أنّه يعرف الغيب، فيبصّر لك بالقهوة، ولا يستفيد من ذلك، ومثلُه الذي يخبرك باطلاً عن أمجاده، أو ينقل إليك رواية لم تحدث. فهذان بسيطان لا يسعيان إلى ربح مادّيّ، فالكذب عندهما شغف.

وهناك الغشّاشون المحترفون، ومنهم السياسيّ الذي يغدق على الأتباع كلاماً معسولاً حتّى يصل إلى غايته، والتاجر الذي يبيع زيتاً مغشوشاً، والخائن الذي يبيع وطنه وأهله من أجل المال، ومزوّر العملة، والشاهد بالزور… وهؤلاء أخطر الناس على الأمم. وهناك نوع من الكذب شاع في مجتمعاتنا، وراءه طبقة من المغرورين والمتشاوفين الراغبين في المساواة مع أهل المعرفة… وأشنع ما في هذه الطبقة أنّ أفرادها يمضون في الحياة وكأنّ شيئاً لم يكن، فيزعمون أنّهم أطبّاء وعباقرة  وفلاسفة ومبدعون، وهم ليسوا كذلك. ولكي يقنعوا المجتمع بأكاذيبهم يحصلون على وثائق مزوّرة، يجعلونها في إطار ويعلّقونها على جدران منازلهم. ولو رشقهم الآخرون بالحجارة عقاباً لهم، لما رفّ لهم جفن. فهل رأيتم إنساناً سويّاً يتباهى بأكذوبة اخترعها وأصبحت لباساً له، ويصدّقها كما أنّه لم يكذب؟…

صدقاً أقول لكم إنّ هذا الكاذب لا يرتكب معصية فقط، بل إنّه يجعل الآخرين يرتكبون المعاصي أيضاً. فالذي يدّعي أنّه مهندس وهو غير مهندس، يلزم الآخرين بإطلاق الصفة التي اخترعها كلّما التقوا به. كما أنّه يلزم أهل الرأي، وناقلي الأخبار على تبنّي هذه الصفة كلّما ذكروا اسمه… وقد يغضب ويهدّد بالويل والثبور إذا كانوا صادقين ورفضوا أن يحْملوا خطيئة كذبه، فكأنّ الاستقامة هي النقيصة والتزوير هو الفضيلة.

وإذا كان الناس يعيّرون بالغباء مَن تنطلي عليه أكاذيب الآخرين، فيصدّقها من غير تفكير، فأيّ مستوى من السطحيّة يكون عليه أولئك الذين يكذبون على أنفسهم، وتنطلي عليهم الكذبة التي اخترعوها؟

إنّ أبشع ما في الكاذبين يا أبنائي، أنّهم يستنكرون الغضب الذي تُظهرونه كلّما كذبوا أمامكم، ويسمحون لأنفسهم بأن يغضبوا كلّما نطقتم بالصدق.

***

*اقرأ الكتاب كاملًا على jamildoaihi.com

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي أفكار اغترابيّة

النهضة الاغترابية الثانية – تعدد الانواع.

اترك رد