قراءة في رواية طيور المساء للكاتبة الفلسطينية أسمهان خلايلة

 

  عفيف قاووق – لبنان

 

 طيور المساء للكاتبة الفلسطينية أسمهان خلايلة والصادرة عن دار الهدى للطباعة والنشر في كفر قرع عام 2021. جاءت لتوثق حقبة زمنية وتاريخية من تاريخ الشعب الفلسطيني ومعاناته مع الإحتلال وتحديدا ما جرى عليه من ارتكابات كان من جملتها مجزرة كفرقاسم التي حدثت في 29 اكتوبر العام 1956، هذه المجزرة التي اعتمدتها الكاتبة لتكون مدخلا لروايتها دون أن تغفل عن ذكر بعض العادات والتقاليد وطرق العيش وشظفه للشعب الفلسطيني إبان الإحتلال.فجاءت هذه الرواية تحمل في طيّاتها ولو بشكل بسيط إشارات ومدلولات ذات أبعاد سياسيّة ووطنيّة واجتماعيّة عن تلك الحقبة الزمنية التي تتناولها الرواية. 

 وبلغة بسيطة زاوجت بين الفصحى والمحكي وبلسان الحاجّة هنا وهي شاهد عيان استطاعت الكاتبة أن تقدم لنا رواية أشبة بالوثيقة التاريخية لتلك الفترة الزمنية، وجهدت للإحاطة بكامل تفاصيل الحياة اليومية آنذاك وكيف أن المرأة الفلسطينية تعمل كتف إلى كتف بجانب الرجل في سبيل تأمين لقمة العيش الكريم.

أبرزت الكاتبة الظلم والقهر الذي لحق بالشعب الفلسطيني جرّاء الإحتلال والذي من تداعياته مصادرة الأراضي بحيث أصبح المواطن الفلسطيني أجيراً في أرضه عند المغتصب الصهيوني. كما أشارت إلى نوع من التمييز في الحقوق وأفضلية التوظيف بين المواطن العربي والمهاجر المستوطن وهذا ما صرح به فارس عندما قال للحاجّة هناء أنّ فرص العمل متاحة للجميع ولكن أسماء المهاجرين الروس والذين قدموا من اوروبا للإستيطان تكون في أوّل اللائحة  أما الشاب العربي فيدرج اسمه في آخرها.  كذلك فقد أشارت الكاتبة إلى محاولة العدوّ طمس التاريخ العربي لفلسطين من خلال تغيير المناهج التعليمية في المدارس وهذا ما حاول المُعلّم مروان والد فارس التصدّي له  بعد أن لاحظ أن الكتب المعتمدة للتدريس قلّما تتحدث عن العرب وتاريخهم وأدبهم بل كلها تتضمن الحديث عن أدباء يهود وتاريخ الدولة العبرية والبطولات الوهميّة لليهود، وأمام هذا التشويه ومحاولة طمس التاريخ العربي قرر مروان ان يعلم تلامذته ما يتيسر له من تاريخ فلسطين أرض آباءهم وأجدادهم سيّما وانّ هؤلاء التلامذة لم يشاهدوا أيّ معلم من معالمها. وفي سياق متصل أبرزت الكاتبة مظهرا من مظاهر التخاذل والخنوع الذي امتاز به بعض المستفيدين والملتحقين بالعدوّ ومن هؤلاء مختار قرية برطعة الذي حاول ثني مروان عن المضيّ في مهمّته التوعويّة متهما إياه بالكفر والإلحاد كونه ينتسب الى الحزب الشيوعي، وطالبه بالتراجع عن ما يقوم به حتى “لا تجبلنا البلا  ووجع الراس، وإذا بدّك خلّي وجع الراس إلك لحالك، أرجوك لا تلعب بالنار، ما بدّنا ندرّس ولادنا عن الشيوعية  ونعلّمهم الكفر والإلحاد، يا أستاذ اللّي بوكل من خبز السلطان بدّو يضرب بسيفه”(ص88). 

وفي موضع آخر تشير الرواية الى الشرذمة وتقطيع أوصال الوطن الفلسطيني من خلال ما ذكرته حول ما تعرّضت له قرية برطعة وشطرها إلى قسمين يسكنهما  إخوة  وأولاد عمومة من عائلة واحدة، أحدهما تحت الحكم الأردني والآخر ضمن الحكم الإسرائيلي.  

أيضا أشارت الرواية الى العنفوان والحميّة التي يمتاز بها الشباب الفلسطيني من خلال ما أوردته حول ما تعرضت له حوريّة من محاولة تحرّش واعتداء من قبل المستوطن ديفيد، وكيف انتصر لها فارس مدافعا عن شرفها في مواجهة المعتدي.

كما أسهبت الكاتبة في ضخ العديد من الأمثال والأهازيح الشعبية التراثية التي تساهم في تسليط الضوء على التراث الفلسطيني وأيضا لناحية طرق العيش للسكان ، ومن هذه الأمثال  والأهازيج مثلا:

بدنا يبرم الدولاب، بلكي تحول زمانو،يا ربّ يعودوا الغيّاب، كل واحد ع أوطانو” في إشارة الى التشرد والشتات الذي طال الشعب الفلسطيني. وأيضا للدلالة على أحقية الفلسطيني بأرضه شاع المثل القائل “الدار دار أبونا وأجو الغُرُب طحونا”.إلى جانب ذلك أشارت الكاتبة إلى البُعد القومي والعربي لدى الشعب الفلسطيني من خلال تعليق الآمال على الزعيم المصري جمال عبد الناصر لدرجة ان الكثيرمن المواليد أطلق عليهم إسم جمال أو ناصر، كما حدث مع إم العبد ألتي أسمت وليدها جمال رغم أستنكار موظفة المستشفى التي قالت لها ” روخي من هون، روخي سميه هناك عند ناسر“.

أيضا لحظت الرواية وصفا دقيقا للمجتمع الفلسطيني فأشارت مثلا إلى سهرات السمر على البيدر في موسم الحصيدة والدراس وكيف كان الاولاد يتجمّعوا ويقفوا بالدور ليركبوا على النورج. كما تطرقت إلى مواسم الزرع وتجهيز المونة وتعبئتها بالجرار وغيرها.

وبالعودة إلى مجزرة كفرقاسم التي جاء ذكرها في الربع الأخيرمن الرواية، فقد أبدعت الكاتبة في توصيف المأساة والمذبحة، ومعاناة الأهل جرّاء ارتكاب هذه الجريمة البشعة، كذلك في وصف ممارسات الجنود وتصرفاتهم  بعد ارتكابهم لهذه المجزرة وما رافقها من أعمال التّنكيل بالجُثث بشكل مقزز يظهر مدى الوحشية وانعدام الحسّ الإنساني لدى هؤلاء الجنود. لقد حدثت “مذبحة كفر قاسم” في التاسع والعشرين من تشرين الثّاني من عام 1956، وذلك تزامنًا مع العدوان الثّلاثي على مصر، اعتقادا من العدو بأنّ العالم ستتوجه أنظاره ناحية مصر وتداعيات العدوان الثلاثي عليها ولا يلتفت إلى ما سيجري في كفرقاسم من إنتهاكات، حيث تمّ إعدام تسعة وأربعين شخصًا من الرجال والنساء والأولاد من أبناء القرية بدم بارد، عند عودتهم من العمل  وارتقوا شهداء إلى السّماء وأستحقوا بجدارة لقب طيور المساء . وعاشت القرية في مأتم كبير تساوى الجميع في المصاب والحزن، إلاّ أنّ هذا لم يمنع من انتصار ثقافة الحياة على ثقافة الموت، فالفلسطيني يؤمن بثقافة الحياة وان الشهداء هم أحياء عند ربهم ، على عكس الإسرائيلي الذي يعتنق ثقافة الموت والقتل،وكما قال مروان ” بعد اليوم لن نحي ذكرى المجزرة بالبكاء والرثاء،ولن نتذكّر شهداءنا بالدموع فقط، بل سنمضي قدما في طريق الحياة، فأولاد الشهداء وأحفادهم هم اليوم عرسان يستحقّون أن نزفّهم بفرح  لذا كان الاقتراح بتنظيم عرساَ جماعياَ لتسعة وأربعين عريسا على تسع وأربعين عروس، بعدد شهداء المجزرة تأكيدا على أن الشهيد هو أيضا عريس في الجنّة، فالشهيد هو عريس الأرض التي رواها بدمه بل هو زين العرسان وأوّلهم. 

ختاما لا بد من الإشارة إلى بعض الملاحظات على هامش الرواية والتي أراها تشكل قضايا إشكاليّة وجدليّة وهي ما قد  يُفهم منها وكأنها إقرار بشرعية الوجود الإسرائيلي من خلال  الدعوة للتعايش بين الشعبين في دولة واحدة ، هذه الدعوة ظهرت في كلمة عريف الحفل التي جاء فيها ” نعم للتعايش العربي اليهودي، نعم للعيش بأمان دون كراهية وعنف  ولقد جاءت قوى السلام اليهودية لتتضامن معنا”، وإن كانت دعوتهم بصفتهم أعضاء في حركة يهودية تؤمن بالتعايش وتدين الحكومة وتصرفاتها العنصرية،,ايضا كانت لافتة تلك الصداقة التي نشأت بين مروان وصديقه اليهودي عزرا ، هذه الأمور وإن كانت صحيحة وقائمة إلا أنّه كان من المُستحسن عدم الإتيان على ذكرها للإبقاء على المعاناة والمظلومية الفلسطينية راسخة في الأذهان دون ان نشتتها في دعوات أثبتت عقمها لناحية إمكانية التعايش والإنصهار في دولة واحدة مع شعب محتل وغاصب.  

اخيرا رواية طيور المساء لما تحمله من حقائق تاريخية توثيقية جديرة بأن تحفظ في كل مكتبة ليتسنى للأجيال معرفة ولو النذر اليسير من تاريخ بلادهم.

اترك رد