منذ نشوء أفكار اغترابية، كان الرقي عنوانا عريضا لنهضة اغترابية ثانية، اردناها حقيقة، تقوم على اعمدة العطاء النوعي، بعيدا عن الاصطفافات العنصرية، والانجراف وراء الدعايات والاعلانات المضخمة.
والرقي الذي اخترناه يعني الكلمة النقية المتجردة عن الاقذاع والتهتك. وفي اعتقادنا أن اللجوء الى الإثارة اللفظية وراءه عجز واضح عن ابتكار صورة شعرية نابضة بالحياة، وعدم قدرة على صناعة الكتابة الموحية من خلال الرمز . وللأسف فإن هناك من يندفعون وراء ادب زهيد ولا قيمة له سوى الحبر الذي كتب به، مأخوذين بضجيج إعلامي، والرغبة في الظهور الكتابي وبأي ثمن. بينما الادب الصحيح والنوعي غائب عن يوميات هؤلاء، وكانهم لا يسمعون به.
وينطلق مؤسس افكار اغترابية من ثقافة واسعة، واطلاع عميق على الأدب، والشعر خصوصا. ويعرف أن الشعراء في العصور القديمة قد لجأوا إلى الهجاء كغرض شعري قائم، إلى جانب الغزل والوصف والمديح والرثاء… ولكن الاقذاع الذي رأيناه عند المتنبي في قصيدته عن كافور الأخشيدي، وهجاء ابن الرومي لصاحب الرأس الطويل، لم يعد هذا زمانهما، فلماذا يلجأ شاعر اليوم إلى التقبيح وهو لا يهجو أحدا؟ ففي كل مناسبة ينزل علينا بسياط الشتم والانحدار اللفظي؟ اإلى هذا المستوى من التقصير عن الصورة الشعرية الراقية، وصل الأمر؟
إن الناس يصمتون أمام هذه الظواهر العجيبة التي يجتهد اصحابها في إطلاق الصفات الإيجابية عليها، كالتحديث، والثورة، والتمرد… ولكن نحن لا نرى فيها سوى انحطاط، وانعكاس لنفسية المتكلم، فالادب مرآة لصاحبه.
وهذا الموقف الذي اتخذناه لن نغيّره. ولو لم يبق معنا احد، فالتخلي عن قناعاتنا يعني التخلي عن مشروعنا بالكامل، فالرقي في افكار اغترابية يساوي القيامة لادب صحيح. ولا مجال للمساومة في هذا الموضوع. وهذا التوجه لا يتناول جميع الناس بالتأكيد، بل هو دعوة صادقة لإعادة النظر بأكوام المديح الفارغ، وتبييض الوجوه، واستجداء السلطات العليا، من أجل الظهور على ساحة النقد.
والصحيح الصحيح ان هذا التقريظ ليس نقدا، لان النقد الذي لا ينطلق من علم، او من معرفة بأصول الشعر والنثر، هو نقد مشكوك به، وقائم على علاقات شخصية وليس على تقييم علمي، ما يسيء ا لى أي حركة أدبية فاعله. فما معنى أن يكتب نقداً أدبياً رائد فضاء، او مهندس بحريّ او طبيب بيطريّ؟ وهل يحق للادباء ان يتدخّلوا في شؤون هؤلاء ومهنتهم كما هم يتدخلون؟
بالأمس القريب، وصلتني قصيدة لشاعر اغترابي، ضعيفة وركيكة، واعتقدت انها لتلميذ في الصفوف المتوسطة، وعندما عرفت متأخرا باسم شاعرها، دهشت لمقدار المديح الذي حصل عليه، وكأن الذين يمدحون لا يعلمون شيئا عما يتحدثون عنه. فمن العيب فعلا ان توضع قصائد او نصوص هزيلة في مستوى عال، وكان الاجدى ان تكون المقارنة معيارا وفيصلا في الحكم، وأن يقوم الناقد بتوجيه النصيحة إلى صاحب العمل، ولفت نظره إلى أنّ ما يكتبه ليس شعرا ولا إبداعا، بل هو نظم ضعيف ولا يرقى إلى درجة الشعر.
للأسف، إن من يكتبون نقدا من هذا النوع، لا علاقة لهم بالنقد. هم طارئون نبتوا على الهامش لاداء وظيفة.
عندما نعود إلى أعمال جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني و إيليا أبي ماضي، ونتمعن بها، ندرك إلى أي مدى كانت الاناقة والشفافية والترفع عن الدناءة، سمات جوهرية للنهوض بأدب مهجري. وهذه السمات نفسها يجب أن تكون عناوين لأي نهضة اغترابية ثانية. وبينما نحن نواجه أعتى الحملات، واقسى ظروف التغييب والإقصاء والتمييز العنصري، نرفع لواء الأدب بكلّ فروعه، ونمضي في رحلة يتوجها الألم والأمل، حتى نثبت حقيقة الفعل. وعندما يحين زمان النقد الصحيح، سنظل نسمع طبلا وزمرا، وسنظل نقول: هذه كتبنا وهذه طاولتنا، فلنر ماذا عندكم!