شارك وزير الثقافة في حكومة تصريف الاعمال القاضي محمد وسام المرتضى في ندوة بعنوان “الحق والحرية قيمتان وجوديتان مسؤولتان”، في “بيت المحامي”.
وقال المرتضى: “يحمل هذا العنوان إشكاليات عديدة على الصعيدين النظري والعملي، سأتناولها باختصار، ما سمح الوقت، على شكل أسئلة تنضوي في ثنايا بعضها أجوبتها، وتأبى غيرها أن تتخلى عن علامات استفهامها. لكن ينبغي لي أولا قبل الدخول إلى بهو المحاضرة، أن أمسك وإياكم بمفاتيح المصطلحات، فنحاول أن نجلو معانيها ونحدد مفاهيمها، لئلا تقف العبارات على الباب عاجزة عن الدخول، ويظل النقاش قابعا في الساحة البرانية.”
اضاف: “أما المصطلح الأول الذي يجب التوقف عنده فهو الثقافة. إنها عندي مفردة من نور تستعصي على التحديد العلمي المباشر، ولهذا، في محاولات لتعريفها، أقام بعض الباحثين مقارنة بينها وبين الحضارة، أي أنهم لم يعرفوها بخصائصها الذاتية المباشرة، بل بالمقايسة على سواها. ومما قالوا في هذا الشأن، على سبيل المثال، ان الحضارات القديمة في مصر وما بين النهرين وأرض كنعان وإغريقيا وروما، بادت كلها ولم تعد موجودة في العصر الراهن، وأما الثقافات التي أبدعتها هذه الحضارات فما زالت حية إلى اليوم. فالحضارة إذا وفق هذا المنظور هي السلطان الذي تبسطه دولة ما وطرائق العيش المادية التي ينتهجها أبناؤها”.
وتابع: “أما الثقافة فيغلب عليها الطابع الفكري intellectual. ووفقا لهذا التعريف غير المباشر، يمكن القول إنها عملية الإبداع المتجددة والمتراكمة في آن معا، الشاملة الوجود كله في بعدي مكانه والزمان. هي ليست مختصة بالحضارة التي نمت فيها وسادت، بل ملك البشرية جمعاء، وليس لها تاريخ صلاحية كالدول، لأنها تحتوي في آنها الماضي والحاضر والمستقبل.”
وقال: “فإذا انتقلنا إلى المصطلح الثاني، وهو الحرية أو الحريات، وجدنا فيه مساحة أكثر نورانية، لكنها تتراوح ما بين الفضيلة والفوضى. مفردة يمكن تعريفها بأنها ترتدي أوصافا كثيرة أهمها الحقوقي الذي تعرفون بلا ريب مضمونه المبني على القيم الإنسانية والأخلاقية والاجتماعية والقانونية العائدة للفرد بذاته وللمجتمع على حد سواء. مفهوم حقوقي يشكل باعتقادي فحوى هذه الندوة ومحور مداخلاتها، وينقلها إلى فضاء الثقافة باعتبار الحقوق جزءا من الهوية الثقافية.”
اضاف: “أما الإشكاليات التي يطرحها العنوان، فأولها أنه يشي باعتبار الثقافة قيدا على الحرية، لأنه يدربها على أن تصير مسؤولة. في حين أن الثقافة بالمنظور الإبداعي تشكل منتهى الحرية التي لا تدرب ولا تعاقب لا تصفد ولا تمثل أمام أحد مخفورة من دون قيد. الإبداع الثقافي هو المشي عكس السير، وتجاوز الإشارات الحمراء، والوقوف في الأماكن الممنوعة، والمخالفة الجميلة المحمودة للسائد والعادي والمعروف. إنه صناعة الغد غير الموجود صناعة تخالف المنطق، ويلزمه كي يكون منتجا أصيلا أن يبرأ من أي تقليد، براءة لا تخضع لقوانين والشرائع التي تطبق على ما حصل فعلا، لا على ما ليس يعرف له موعد مقبل أو كيان ماض.”
وتابع: “أما الوجه الآخر لهذه الإشكالية فهو أن الثقافة قد تتعرض للقمع وفقدان الحرية، كما حدث مع المصلحين الكبار على مر التاريخ، مما لا مجال لاستعادة أخبارهم، أو بعضها لضيق الوقت فليس لها، وقد اشتكت في عمرها الطويل، من حالات استعباد جزئي أو كامل، أن تنصب نفسها قيمة على الحرية، تبيحها هنا وتمنعها هناك.”
وعن الإشكالية الثانية، قال المرتضى: “تتعلق بسؤال يتكرر في كل المجتمعات: كيف ننقذ الحرية من أن تصير قرينة الفوضى؟ ويتبعه سؤال آخر: هل يمكن إيجاد ثقافة ما لممارسة الحرية؟ الحقيقة أنه من الأصح القول بالتربية على ممارسة الحرية، كي لا تخسر الثقافة في هذا المضمار ألق المعنى الذي يختص بها. وهنا يحضرني قول البابا يوحنا بولس الثاني “إن ممارسة الحرية يجب أن تقترن بنضج روحي وأخلاقي مستمر”. ولعل هذه المقولة المؤمنة تختزن الجواب كله.”
اضاف: “آتي الآن إلى الإشكالية الأخيرة، وهي أن الثقافة الإبداعية كانت في ما مضى صنيعة النخبة الموهوبة في الحضارات المتعاقبة. ولهذا لم تكن مادة الحرية المسؤولة مطروحة إلا من جهة تأثر الثقافة بمدى الحرية المتاح لها لا العكس. أما اليوم، في ظل التقنيات الحديثة والمعاصرة وانفلات الأثير أمام وسائط التواصل والتعبير التي لا حد لتأثيرها، فلم تعد الثقافة من حصة الخاصة، بل صار مجالها مفتوحا أمام العامة كافة. وهنا مكمن الخوف من أن تستشري الفوضى كما يحدث عندنا في ميادين كثيرة، من السياسة إلى الإعلام فالحياة الاجتماعية والوطنية، من غير ضابط، حتى تصير الحرية وثقافة الحرية أشبه بسيل في أعلى الشتاء، يأخذ بطوفانه كل شيء”.
وختم: “حاولت في مداخلتي أن أطرح أسئلة أكثر من أن أقدم أجوبة، ذلك أن معالجة الموضوع من مختلف جوانبه لا يحصرها رأي ولا يملى عليها اتجاه. ولهذا يحسن بي أن أختم بجملة لنزار يقول فيها: الحرية محصول حضاري، لا يعرفه إلا المتحضرون”.