بعيدا عن إشكاليّات التعبير المعقدة ، والاسترسال العقيم في كتابات من غير ذي فائدة ، ومن خلال قربها لذاتها الداخليّة الحميمة والتي طوّعتها بفعل التجارب والسنين والخبرات المتواصلة، تعمد كلود صوما إلى اختيار تعابيرها وأفكارها وتاليا كلماتها من ينابيع القلب الفوّارة وزخمها الجبّار وحقوله الخصبة المترامية الأطراف ، لتجعل من الأحاسيس النابضة ، حقيقة فكرية وإبداعًا.
فهي الكلمة بكل ألوانها وصنوفها وأحوالها ،الكلمة التي تعرف كلود كيف تستعملها ، أولا لتغويها وثانيا لتجنّدها ملكا لها فهل تخفي كلود صوما ، وراء كتاباتها خيبة ما أم أنها تكتب بلسان كل النساء بدون استثناء متجاوزة كل الممنوعات والمحظورات؟!
أجمل ما في هذه النصوص الشعريّة التي تعبر عن لحظات متوارية خلف حدود الذات ، أنها صادقة وحسّاسة بدرجة كبيرة وكأن كلود تبحث من خلالها عن علاقات مثاليّة وصادقة بدرجة كبيرة، تغنيها عن عناء تحمل سلبيات الحياة والوجود المتأزم ؛ يقول نزار قباني :
إذا بكت المرأة على رجل فإنّها تحبّه من قلبها، لكن إذا بكى الرجل على المرأة فلن تجد على وجه الأرض رجلا يحبّها مثله…
هل بكت كلود ذات يوم مضى على رجل أو بكى عليها رجل ما ، بكاء مرّ لا تزال تسكنه الملوحة وطعم العلقم!؟
هذا ما لن نعرفه ابدا ولن نسعى حتى لكي نعرفه ، بل الأجدى لنا أن نقرأ ما تقوله كلود في قصيدة صادقة حول مسألة العلاقات بين رجل وامرأة:
رآها حلمًا أشهى من النبيذ
أرّقه الوجدُ ، كتب قصيدةً ..
رأته طفلًا يضحك ، يغني بصوت عالٍ
أمسكت بيده ، رقصا تحت المطر ..
شتاءٌ صامتٌ
صقيعٌ قارسٌ
رسائلُ فارغةٌ ..
يناديها كلّما أضناه الهوى
صغيرتي ..
يغزو فكري وجهُكِ وصوتُكِ
وألف ذكرى تأخذني الى حيث أنتِ !
تبًا لكبرياءٍ قاتلٍ في حضرةِ شوقٍ لا يرحم !
تمّهل يا سيدي
هل تذكر آخر عناقٍ ؟
أعرني بعضًا من عطركَ
وهمسكَ وشِعركَ
حتى يهدأ ارتباكي ..
كلما انتابتني نوبات حنين
عصرتُ حروف القصيد
لعلّه يسيل اسمكَ في كأس لوعتي
اشربه رشفةً رشفة ..
انها القلوب المرهفة ..!
نرى في هذه القصيدة رومنسية فائقة، على الرغم من الكبرياء القاتلة وهي صفة لازمة في العلاقة بين الرجل والمرأة ؛ حدّ فاصل بين الحلم واليقظة ، الحقيقة والسراب ، ومناجاة صريحة بين قلوب سعيدة و مغتبطة إلى درجة كبيرة كما النعاس اللذيذ الذي يشي بنوم ألذّ ، في عالم من غمام وأحلام !
وفي نص شعري آخر ، تجيد كلود صوما لعبة الانتظار وهناء الاستقبال حين يصل الحبيب المنتظر فكل الأمور لا بدّ وأن تصل إلى خواتيمها السعيدة والأفراح ليست خرافة بل واقع.
والجميل في وصف كلود للحظة اللقاء؛ واقعية المشهد وبعده عن هذايانات الابتذال و إسقاطها على حيّز شعري قد يبدو ثقيل الوقع فظا ، غير أن الصورة تبدو كلوحة من لوحات “مونيه ” أو “دوغا ” في عذوبة اللون وهدوء الأشجار الوارفة التي تحنو على الشعر وتبث البهجة في الكلمة ، وفي هذا النصّ الشعري ، نرى الكلمة ممسرحة ، أو تتوالى المشاهد كما في فيلم عاطفي مثل : الملح على جلدتنا salt on our skin أو قصة الحي الغربي west side story وهو محاكاة غنائية راقصة لمسرحية روميو و جولييت لويليام شكسبير أحداثها تحصل في العصر الحديث ، وهل من حبّ بدون تاريخ وهل من لحظة تعادل لقاء الحبيبين بعد طول انتظار :
أحدهم طرق بابها سلاماً
ناشداً من عروق القلب عشقأ ..
باحثاً عن روح تحتضر شوقاً
عن طيفٍ جميل يرافقه ليلاً نهاراً ..
عن حلم ٍ غريب ٍ ضائعٍ
جاء ملهوفاً سائلاً …
ارتبكَت .. و ارتعشت كلّ أوصالها بلمسةٍ من يديه ..
هي التي عانت من قسوة الزمن ، و انتظرته دهراً
طبعت وجهه على جدران الذاكرة
و كتبته حروفاً و بوحا ً و شعراً ..
هي التي عجزت قواميس اللغة عن ترجمة أحاسيسها و جنونها
و عن تفسير همساتها ..
أجابته : قد وصلت َ يا سيدي .. لم تَضِع العنوان !!
أجل استعانت كلود بكمّ عاطفي كبير، ارتحلت إلى كون من المشاعر والصور الزاهية ، التي نطاردها في كل مسارات علاقاتنا الشاقة في كل فترات حياتنا ، و التي تؤدي بنا إلى خيبات وقهر وعسر وشجن، والتي من النادر أن تكلل بانتصارات عاطفية كبيرة، ولكن الإنسان الصادق مع ذاته لا يستطيع سوى أن يكون باحثا لا يكلّ عن موطن الجمال كما أفلاطون في بحثه عن عالم المثل أو الكمال والجمال والحب .ألم يقل امرؤ القيس ذات يوم :
لا تبك عينك إنما نحاول
ملكا أو نموت فنعذرا
نعم إن البحث عن الحب هو محاولة فضلى كمن يبحث عن الجنّة ، يرى قبسا من نورها فبتعلّق بتلابيبها. ..
يقول الفيلسوف إميل سيوران :
توجد كآبتان الأولى يعالجها الدواء، والثانية تلازمنا إنها الأنا في مواجهة ذاتها إلى الأبد.
يبدو أن كلود قد قررت معالجة الكآبة بكل ما أوتيت من قوّة ولم تترك الذات تواجه ذاتها وتأكل من لحمها الحيّ ، لكن على العكس ، أبت على نفسها السقوط في فخّ الصراعات من أي نوع كانت ، وأبقت ابواب الحوارات مفتوحة كهذا الحوار العذب مثلا :
هي : وأنت تحلّق في فضائك
تكتفي بما تحمل معك
ترضخ لقدرك ، يعتريك الملل
تلتزم بصمتك كليلة سبتٍ
يسودها السكون !
هو : أدين بالشكر لمدينة الضجر
اذ حوّلت وهم الزمن الى معنى ..
هي : للانتظار عطرٌ يتغلغل في الزوايا
يبحث عن يدٍ تمتد
لتفتح نوافذ الغياب للسنين..
هو : الحنين صقيع يجمد الدمع في العين
يسقط حبات برد فوق لهفة اللقاء ..
هي : هل تعلم ؟
رأيت اليوم عصفورًا يحط على شرفتي
هاجر بحثًا عن الدفء ثم عاد
تلاشى صدى تغريده
في المسافات البعيدة
أرجعه الشوق الى المكان الذي يحّب ..
هو : انها نشوة العودة ..
حرًا طليقًا يعود
يغرّد بلغّة الحب …
تحيّة إلى سكان مدينة الضجر ، وفي جلسة على فنجان قهوة صباحية تقول كلود وهي تراقب الرغوة الشهية على ركوة القهوة المرّة :
استمتع بحلاوة ذكريات
ودفء قصائد قديمة خبأتها
بقي أن نعرف أين خبأت كلود القصائد القديمة ، وهل هناك مكان يليق بها غير القلب حيث الحرارة الحقيقية والدفء الخالد …لكنّها لا تلبث وأن تزيد قائلة :
كلّ الآمال تتبخّر من حرارة الخيبة….
أتمنّى لك من كلّ قلبي في الخاتمة ، أن تكون هذه الخيبة التي انتصرت ، هي الخيبة الاخيرة !….