منيرة مصباح
بداية نتساءل هل الشعر الافريقي وهو تجريدي باكمله يتساوى في غرابته، بغرابة تلك الموروثات اللصيقة به؟!
أعتقد انه تتساوى الغرابتان فيما لو طرحنا جانبا السؤال، وأصبح بالتالي ممكنا فهم القصيدة التجريدية والقدرة على كتابتها. لكن بعض الشعر الافريقي قد حمل موروثا مزدوجا لدى شعراء الحداثة الذين يبحثون عن شكل ومضمون جديدين. لذلك نراه يستند الى الموروث الشعري الافريقي والموروث الشعري للغة التي اختار الكتابة فيها، وبالتالي فهو يحمل مشاكل الموروثين، ويبحث عن حل لغاية تحقيق أسلوبه الخاص.
في هذا المسار نجد قصائد “كريستوفر اوكيكبو، Christopher Okigbo” مثال رائع للأسلوب الذي يستطيع به الكاتب ان يعمل من خلال نطاق التأثير والصورة المتاحة للشاعر الافريقي، فهوالمدرس النيجيري الذي مات وهو يقاتل من أجل استقلال إقليم “بيافرا Biafra”.
ففي قصيدته الأولى استطاع خلق قصيدة هي مزيج ثري من الصور التي تستمد عنفوانها من ثقافة شعب “إيغبو Igbo” التقليدية المتمثلة بالأفعى وطائر الشمس. لكنه مع ذلك يستجمع مهارته لينتقل بين أرض اليوت في قصيدته “الأرض الخراب”، ونسبية عزرا باوند الثقافية، ليعود بعدئذ الى مأزق الشاعر الافريقي الذي يحتفل به بسهولة وسيطرة فائقة.
ومما يثير الاهتمام ان “كريستوفر أوكيغبو Christopher Okigbo” في مجموعة من قصائده، يتمسك تمسكا كبيرا بالمصادر الافريقية ليكوّن رموزه الشعرية، اضافة الى استخدامه الايقاعات الشعرية الافريقية التقليدية، مع تطويره لتكنيك بناء الشعر من خلال الوحدات السائدة في المعنى الذي يعتبر مظهرا لبعض الاشكال الشفاهية المتناقلة. في قصيدة الفيل:
مهما حدث للفيل.. مرحا للرعد.. الفيل الملك الثالث للغابة.. بهزة من يديه يقتلع أربع أشجار..
أطرافه الأربعة كالمطرقة.. تدكُّ الأرض حينما يخطو.. الحشيش محرّم عليه الظهور هناك..
وا آسفاه! لقد سقط الفيل.. مرحا للرعد.. لكن الصيادين يتحدثون عن القرع الأحمر…
واذا كانوا يقتسمون اللحم فعليهم ان يتذكروا الرعد..
وبما ان الثقافة في جانب من جوانبها لا تنفصل عن السياسة في افريقيا الحديثة، فان الشاعر يدرك ان له دورا خاصا عليه ان يؤديه، لكن هناك فصل في الوظيفة بين الشاعر باعتباره فنانا والشاعر باعتباره مواطنا. لكننا ندرك ايضا ان الشاعر من خلال دوره كفنان ملتزم بالتواصل مع ابناء وطنه، لاسيما ان عددا كبيرا منهم لا يجدون وسيلة لفهم نماذج من الشعر تقوم على بناء صوري واشارات يصعب فهمها. ان بعض مؤلفات الشعراء تمتاز بالمراوغة والصعوبة، مثل قصائد “كريستوفر اوكيغبو Christopher Okigbo”، الذي ينحو نحو الشعر السواحلي التقليدي، المتأثر باللغة العربية قديما، حيث نلاحظ بعض التيمات التي يمكن تتبعها في شعره، ذلك ان هناك حضور الكل وليس مجرد صلابة الاجزاء.
(كوفي أوونور)
واذا قرأنا شعر “كووفي أونور Kofi Awoonor” وهو كاتب وروائي وشاعر، نراه يهاجم الشعراء الذين يتكلمون بلسان “تي. اس. اليوت”، وعزرا باوند، وهوبكنز وغيرهم .
كل هذه المؤثرات الاساسية على الشعر الافريقي، تُظهر لنا من خلال تلك النصوص الشعرية ذلك النموذج الأعلى للشخصية الافريقية في عالم المرتزقة المنهمكة في الحصول على المقتنيات المادية. كما يبدو من الناحية العملية انه ليس ثمّة فصل ممكن بين أطراف الخلاف حول شكل الكتابة الافريقية الحديثة وهدفها.
أما شعر “كوفي أوونور Kofi Awoonor” فهو يقترن أساسا بالشكل الموروث، لكن بناءه يحتفظ بعدة عناصر يستمدها من النماذج الأوروبية وعلى نحو مشابه. كذلك فان شعراء أخرين يكتبون بتأثير من اليوت، نجدهم خبراء ايضا في موروثات شعرية أكثر ألفة، فنرى لديهم بعض الأساليب التكنيكية المتشابهة لديهم في القصيدة. وكما يقول “دوناتس آي” فان الشعراء الحديثين الذين يستخدمون الصورة والتيمات الموروثة، لا يتحررون من الغموض في نظر المتلقي الافريقي العادي. فالصورة الشعرية رغم انها مأخوذة عن مصادر واساليب بناء معروفة، الا انهم يفترضون القدرة لدى المتلقي في تجاوز مشكلة لا يمكن التغلب عليها، بالنسبة للحالة الشعرية الابداعية.
لذلك نرى هؤلاء الشعراء يعملون في مستوى تواصل المعنى الرمزي، مستخدمين الصور التي تكون على الصعيد الحرفي إما خالية من المعنى أو انها تبدو متناقضة. لكن بناء المقاطع الشعرية، يتم من خلال الاستعارات باعتبارها من مقومات المعنى، لتعطي بالتالي الدلالة الأهم.
وكما يتضح لنا من شعر قبائل “اليوربا Yoruba” الشفاهي التقليدي، نرى الموروث قادر على معالجة الصور المتناقضة. بيد ان التكنيك الصوري، الذي يبني – من خلاله الشاعر “كوفي أوونور Kofi Awoonor” – الكليات من هذه الوحدات، يختلف عن التكنيك البنائي للموروثات التراثية الشفاهية. فنحن نلاحق الاستعارة على امتداد القصيدة بينما يكون عقلنا يعمل على مهمة الربط. وبالتالي لا يستطيع اي شيء منع القصيدة من التسلسل الى ابعادها ووعيها الذاتي. هذا ما يجعل شعر “كوفي أوونور Kofi Awoonor” البالغ العنفوان، يقبض على جوهر الاشياء حتى في حال ترجمته الى اللغات الاخرى. فهو يقول في هذه القصيدة:
(أنا في ركن قصيّ من العالم.. أنا لا اجلس في صف البارزين.. بيد ان المحظوظين هم الذين
يجلسون في الوسط وينسون..
أنا في ركن قصي من العالم.. ولا استطيع سوى الذهاب الى ما وراء ذلك ونسيان كل شيء)
ان هذه المقتطفات التي نوردها هنا لا تستطيع ان تعطي الشعر الافريقي حقه، فالروابط مصنوعة من وحدات كاملة متصلة تشكل بناءا كاملا. لذلك نقول انه مهما كانت الرغبة لدى الشاعر قوية لاقامة روابط مؤثرة بين العالم المعاصر للمدن، والتي تهيمن عليه النخبة التي تلقت تعليمها خارج الوطن والمصادر التقليدية للثقافة الافريقية في القرى، فان المثقفين لم يستطيعوا انكار حقيقة ان التعليم هو الذي وضعهم في العالم الأول. وهم بالتالي المستهلكون الطبيعيون للثقافة المستوردة، بغض النظر عن اتجاهاتهم الثقافية والسياسية. وهذا ما ينطبق على شاعر مثل “كوفي أوونور Kofi Awoonor “. وهو ما يقدمه لنا “المنفى المزدوج” عن حالة المثقف الافريقي.
(قد كنت في مكان آخر يا شعبي..
لو جئت الى هنا لضربتني الامطار..
ولو ذهبت الى هناك لاحرقتني الشمس..
وخشب النار في هذا العالم ..هو فقط لأولئك الشجعان..
ولهذا لا يستطيع كل الناس جمعه
العالم لم يعد صالحا لأي انسان .. ولكنك سعيد بقدرك
واحسرتاه!… لقد عاد المسافرون.. محملين بالديون).