الدكتور محمد العريس
” يلا يا ماما .. عجلي …. كنا ننتظر قدوم شهر رمضان من كل عام، ونحن صغار السن مع أبناء الجيران للإفطار سوية، وتحضير أطباق الطعام الشهية والحلويات الرمضانية الكالاج والقطايف بالقشطة أو الجوز والعثملية، بينما كنا نمضي الوقت بعد ظهر كل يوم في شك ” الكبش قرنفل ” بالليمونة، أو أخذ غفوة قليلة، بسبب الجوع الذي قد بدأ في مداهمة معدتنا الخاوية منذ سحور ما بعد منتصف الليل حتى مجيء موعد الإفطار. فتكون معدتنا الفارغة في حالة صراع مع روائح الطعام الشهية المنبعثة من مطبخنا ومن مطبخ ” الحجة زكية “.
ما احلاك يا رمضان وما اروع طقوسك وعاداتك وتقاليدك التي لا تنتهي كلما طويت بنا الأعوام والسنوات ونحن نتذكرك في صغرنا ونتشوق لعودتك إلينا في كبرنا.
فإنا كنا في طفولتنا نعتبرك شهر ” اللمّة العائلية ” وشهر ممارسة عدد من العادات الدينية، ومنها الذهاب في كل يوم ما بين آذان وصلاتي المغرب والعشاء إلى مسجد الأاشرفية ( بيضون ) للإستماع إلى بعض الأحاديث الدينية أو الخطب والمواعظ من إمام المسجد المرحوم الشيخ محمد العثماني، كما كنا نترافق بالذهاب إلى المسجد نفسه كل ليلة سبت من شهر رمضان للبقاء فيه حتى وقت السحور لأن اليوم التالي كان يوم أحد وفيه عطلة في مدرستيهما.
ومن عاداتنا في شهر رمضان جمع الصائمين بالألفة والمحبة وإكرام الضيف واستقبال المضيافين بكل ترحاب ووسرور غامر، من ذلك مثلا أننا كنا نأتي في عدد من أيام الإفطار في هذا الشهر الكريم بعدد من الأولاد من دور الأيتام ليفطروا أو يأكلوا معنا ما تم تحصيره لهم. أما الكبار من الصائمين معنا على المائدة فكان يقدم لهم بداية التمر والعصائر المختلفة والأطباق والمأكولات المناسبة للصائم الضيف، تليها أطيب الحلويات والمطيبات المخلفة، وكان أصدقاؤنا الكرام ينتظرون معنا قدوم هذا الشهر الكريم، حتى يكونوا موجودين معنا تلقائياً على طاولة أغلب أيام الإفطار لتناول مأكولاته الشهية وفي مقدمتها الشوربا والفتوش ثم الأطباق المتنوعة والحلويات المختلفة التي لا يلذ أكلها ومذاقها إلا في شهر رمضان المبارك، وفي إفطارات أيام الآحاد كانت “الكبة النيئة” المدقوقة في الجرن تتسيد الطاولة.
غير أن شهر رمضان ليس بالشهر المخصص للأكل والموائد والسفر العامرة بكل أنواع الأكل. شهر رمضان قبل هذا وذاك هو شهر البر والتقوى، والصلوات والعبادات، والزهد والتنسك، واجتناب المحرمات، والبعد عن الموبقات.
شهر رمضان هو عند الله سبحانه وتعالى، أفضل الشهور وأيامه أفضل الأيام ولياليه أفضل الليالي وساعاته أفضل الساعات، هو شهر دعاء الصائم تحديدا فيه إلى رب العالمين، ليكون هذا الصائم أهل كرام الله، أنفاسه فيها تسبيح، ونومه فيه عبادة، وعمله فيه مقبول، ودعائه فيه مستجاب، فنسأل الله فيه ربنا سبحانه وتعالى بنيات صادقة وقلوب طاهرة.
ويستحب في هذا الشهر الفضيل الدعاء التالي ” اللهم أعنا في هذا الشهر على صيامه وقيامه، وجنبنا فيه الهفوات والاثام، وارزقنا فيه ذكرك بدوامه يا هادي المضلين “..
اللهم ان نسألك بعزتك أن تنجينا من النار، الهم أغفر لنا خطايانا وجهلنا، وإسرافنا في أمرنا، وما أنت أعلم به منا، اللهم بارك لنا فيما رزقتنا، وأغفر لنا وأرحمنا، اللهم آت أنفسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
أما عن روحانية هذا الشهر الكريم؛ فإن حكمة الله سبحانه وتعالى، أن فاضل بين خلقه زماناً ومكاناً، ففضل بعض الأمكنة على بعض، وفضل بعض الأزمنة على بعض. ففي الأزمنة فضل شهر رمضان على سائر الشهور، فهو كالشمس بين الكواكب. وقد اختص هذا الشهر بفضائل عظيمة ومزايا كبيرة، فهو الشهر الذي أنزل الله فيه القرآن، قال تعالى: { شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان} (البقرة:185)، وعن “واثلة بن الأسقع” رضي الله عنه، أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: (أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان، وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان) رواه أحمد).
وهو الشهر الذي فرض الله صيامه، فقال سبحانه وتعالى: { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} (البقرة:183).
وهو شهر التوبة والمغفرة، والتكفير عن الذنوب والسيئات التي يصاب بها المسلمون اليوم، عندما يُحوّلون شهر رمضان إلى مناسبة للولائم العامرة، والسفر الذاخرة بكل ما لذ وطاب مما تشتهيه العين قبل الذوق واللسان، وهناك المئات بل الألوف من المسلمين، الذين لا يجدون قطعة خبز يفطرون عليها، أو حبة تمر يكتفون بها عن أكلة شهية لا تصير إليهم، أو أركيلة جاهزة بمختلف أصناف التنباك الأصفاني الإيراني او المطيب بالعطور والفواكه. هنا تكثر علينا الذنوب التي نقوم بها عوضاً عن ذلك، علينا أن نطعم فقيراً صائماً، أو عجوزاً متبعاً لسنّة نبيه العظيم وقول قرآنه الكريم، لأنه لا يستطيع القيام بأود نفسه، وتأمين أفطار له ولعائلته. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: (وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة) رواه الترمذي. ومن أفضل خصائل هذا الشهر الكريم، الجود والاحسان، ولذا كان صل الله عليه وسلم من أجود ما يكون في شهر رمضان.
إنه شهر العتق من النار، فيه تفتح أبواب الجنان وتغلق أبواب النيران، وتصفد الشياطين، ففي الحديث المتفق عليه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: ( إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنّة، وغُلّقت أبواب النار، وصُفّدت الشياطين( أي: أنهم يجعلون في الأصفاد والسلاسل، فلا يصلون في رمضان إلى ما كانوا يصلون إليه في غيره.
وهو شهر الصبر، فإن الصبر لا يتجلى في شيء من العبادات كما يتجلى في الصوم، ففيه يحبس المسلم نفسه عن شهواتها ومحبوباتها، ولهذا كان الصوم نصف الصبر، وجزاء الصبر الجنة، قال تعالى: { إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} (الزمر:10).
وهو شهر الدعاء، قال تعالى عقب آيات الصيام: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة:186) ، وقال صل الله عليه وسلم: ( ثلاثة لا ترد دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، ودعوة المظلوم) رواه أحمد.
وهو شهر الجود والإحسان؛ ولذا كان صل الله عليه وسلم – كما ثبت في الصحيح – أجود ما يكون في شهر رمضان.
وهو أحد أركان الإسلام والشهر الذي جعل صيامه بركة. فصامه المصطفى صل الله عليه وسلم وأمر الناس بصيامه ، وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من صامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي الصيام فوائد كثيرة وحكماً عظيمة.
ففيه تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة والصفات الذميمة، وتعويدها الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس. ومن فوائد الصوم: أنه يُعرّف العبد نفسه وحاجته وضعفه وفقره لربه ، ويذكره بعظيم نعم الله عليه، ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه، والاستعانة بنعمه على طاعته، ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم. وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى هذه الفوائد في قوله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة: 183).
فأوضح سبحانه أنه كتب علينا الصيام لنتقيه سبحانه، فالصيام وسيلة للتقوى، والتقوى هي: طاعة الله ورسوله وترك ما نهى عنه. وقد أشار النبي صل الله عليه وسلم إلى بعض فوائد الصوم في قوله صل الله عليه وسلم: ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له رجاء) رواه البخاري.
فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الصوم رجاء للصائم، ووسيلة لطهارته وعفافه، وما ذلك إلا لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والصوم يضيق تلك المجاري ويذكر بالله وعظمته، فيضعف سلطان الشيطان ويقوى سلطان الإيمان وتكثر بسببه الطاعات من المؤمنين، وتقل به المعاصي.
ومن فوائد الصوم أيضاً: أنه يطهر البدن من الأخلاط الرديئة ويكسبه صحة وقوة اعترف بذلك الكثير من الأطباء وعالجوا به كثيراً من الأمراض، وأخبر الله سبحانه وتعالى نبينا محمد صل الله عليه وسلم أن صيامه هو أحد أركان الإسلام الخمسة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ } (البقرة؛ الآيتان183و184) كما قال عز وجل : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة؛ 185).
إن الصوم عمل صالح عظيم، وثوابه جزيل ولاسيما صوم رمضان. أن النبي صل الله عليه وسلم قال:( يقول الله تعالى كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان، فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) رواه البخاري.
ونقل ابن باجة والترمذي عن النبي صل الله عليه وسلم قوله: (إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ) رواه الإمام أحمد والترمذي.
واحذروا رحمكم الله، من كل ما يجرح الصوم، وينقص الأجر، ويغضب الرب عز وجل، من سائر المعاصي، كالربا، والزنا، والسرقة، وقتل النفس بغير حق، وأكل أموال اليتامى، وأنواع الظلم في النفس والمال والعرض، والغش في المعاملات، والخيانة للآمانات، وعقوق الوالدين، وقطيعة الرحم، والشحناء، والتهاجر في غير حق الله سبحانه، وشرب المسكرات، وأنواع المخدرات كالقات، والدخان، والغيبة والنميمة، والكذب، وشهادة الزو، والدعاوي الباطلة، والأيمان الكاذبة، وحلق اللحى، وتقصيرها، وإطالة الشوارب، والتكبر، وإسبال الملابس، واستماع الأغاني وآلات المقاهي، وتبرج النساء، وعدم تسترهن من الرجال، والتشبه بنساء الكفرة في لبس الثياب القصيرة، وغير ذلك مما نهى الله عنه ورسوله صل الله عليه وسلم.
وهذه المعاصي التي ذكرنا محرمة في كل زمان ومكان، ولكنها في رمضان أشد تحريماً، وأعظم إثماً لفضل الزمان وحرمته. فاتقوا الله يا معشر المسلمين، وأحذروا ما نهاكم عنه ورسوله، واستقيموا على طاعته في رمضان وغيره، تاوصوا بذلك، وتعاونوا عليه، وتآمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، لتفوزوا بالكرامة والسعادة والعزة والنجاة في الدنيا والآخرة، والله المسؤول أن يعيذنا إياكم وسائر المسلمين من أسباب غضبه، وأن يتقبل منا جميعاً صيامنا وقيامنا، وأن يصلح ولاة أمر المسلمين، وأن ينصر بهم دينه، ويخذل بهم أعداؤه، وأن يوفق الجميع للفقه في الدين والثبات عليه، والحكم به والتحاكم إليه في كل شيء، إنه على كل شيء قدير.