إبراهيم مشارة
في عام 1959 لمناسبة بلوغه السبعين نشر ميخائيل نعيمة سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء بمجموع 1248 صفحة وقد قسمها إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى 1889/1911 وهي تبدأ من الميلاد إلى تاريخ عودته من الدراسة في روسيا، وتبدأ الثانية من تاريخ رحلته إلى أمريكا واستقراره هناك طالبا وعاملا، حتى عودته عام 1932، والثالثة من 1932إلى 1959 وقد شاء نعيمة لسيرته الذاتية عنوان «سبعون» ليحيل على التقدم في العمر وتوفره على رصيد من المعرفة والخبرة التاريخية، ما يجعل لسيرته اعتبارا مهما إضافة إلى ما يحمله الرقم سبعون من دلالات وإيحاء في مخيلة القارئ.
هي سيرة تقدم شهادة على المراحل التاريخية التي عاش فيها الكاتب أتعلق الأمر بتاريخ الشام تحت السلطة العثمانية، ثم في ظل الانتداب الفرنسي، أم الاستقلال، ثم هناك ظروف الحربين العالميتين وتأثيرهما في العالم الحديث، ومعركة التحرير والتقدم والنهضة الفكرية والأدبية في العالم العربي.
تحدّث الكاتب في الجزء الأول عن الميلاد في بسكنتا لوالدين مكافحين، والزراعة هي المصدر الوحيد للعيش في ذلك الوقت لأسرة تتكون من الأب والأم والأولاد الستة، وعن شظف العيش وقلة المردود، ما دفع الوالد إلى الهجرة بمفرده إلى أمريكا لعله يصيب نجاحا يمكنه من جمع مال يهيئ له سبيل حياة أكثر يسرا، لكنه فشل في هجرته.
حكاية الهجرة هذه في لبنان يفرد لها الكاتب صفحات طوال، حيث ظروف العيش قاسية، فهناك الاستبداد العثماني والضرائب المفروضة على الفلاحين، ما دفع باللبنانيين إلى الهجرة زرافات ووحدانا إلى الأمريكتين ليزاول الواحد منهم التجارة عبر ذلك الصندوق الذي يحمله على ظهره»الكشة» وفيه أغراض شتى للمنازل ويطوف به في البلاد لبيع تلك الأغراض، والهدف الحصول على المال بالكد وجمع ما يهيئ سبل حياة كريمة في لبنان كفك رهن ، بناء بيت، إصلاح أرض للزراعة، وقد ساهمت «الكشة» في ترقية حال كثير من الأسر اللبنانية في ذلك الوقت فالمجد للكشة كما كتب الكاتب.
درس نعيمة في المدرسة الابتدائية في ظروف صعبة كما وصف، ثم واصل تعليمه في الناصرة في فلسطين في المدرسة الأرثوذكسية الروسية وهي مدارس أنشأتها روسيا القيصرية هناك للتقارب الموجود بينها وبين السلطنة العثمانية، ولا يمكن نسيان العلاقة الحميمة بين القيصر والباب العالي، وفي المدرسة أتقن الروسية وطالع لأعلام الأدب الروسي، وأنهى تعلمه بتفوق ليوفد في بعثة دراسية من قبل هذه المؤسسة إلى بولتافا في روسيا مواصلا تعلمه العالي. واصل تعلمه ببولتافا من 1906 إلى 1911 حتى أحرز الشهادة العليا وتعمق في الأدب والثقافة الروسية، وكان ملاحظا ومسجلا لظروف روسيا القيصرية في ذلك الوقت، وتردي أحوال الفلاحين وفي قصيدته «النهر المتجمد» في نسختها الروسية التي كتبها عن نهر صولي المتجمدة مياهه بفعل البرد الشديد، يتساءل عن موعد انفكاك الفلاح من أغلال الفقر والحاجة، كما أن للربيع موعدا مع ذوبان جليد نهر صولي وتحرر مياهه وانطلاقتها المعربدة، على أن نعيمة في الترجمة العربية حوّل التساؤل إلى ظروف بلاده، وكانت القصيدة تجديدا في المضمون وفي القالب وكان ذلك الشعر هو فاتحة الشعر المهجري الذي أطلق عليه محمد مندور لقب الأدب المهموس.
ربما فاجأ الكاتب قارئ سيرته بما لم يعهده عنه فهو الرجل الصوفي المتأمل في محراب الطبيعة والمؤمن بملكوت الله المتجسد في قلب المؤمن، فيظن القارئ أن حياة الكاتب خلو من المرأة، ما دام عاش أعزب مدى العمر وكتب بشأن ذلك «خلقت لأكون أخا للمرأة لا بعلا لها» لكن الحقيقة غير ذلك، وهنا امتلك شجاعة على تعرية نفسه – وهو الحريص أبدا على الصدق مع نفسه ومع الناس – وكشفها للقارئ ففي بولتافا عاش أولى تجاربه وحبه مع المرأة فاريا المتزوجة، التي تعلقت به وأحبها هو كذلك على الرغم من ارتباطها، لولا أنه في النهاية فضّل الانسحاب من حياتها لتعيش مع زوجها، واغتنم فرصة عودته إلى بلده لقطع هذه العلاقة.
في الجزء الثاني الذي يغطي السنوات من 1911 إلى 1932 خصه الكاتب لمرحلة الدراسة في أمريكا، ثم الاستقرار والعمل فيها، فقد نال الشهادة في الحقوق والآداب من جامعة واشنطن، وسمح له تمكنه من اللغة من الاطلاع على الثقافة الأمريكية والعالمية عامة، مثلما مهدت له الروسية الطريق للاطلاع على الآداب الروسية، وكان مقررا أن يعود الكاتب إلى لبنان بعد نهاية دراسته، غير أن ظروف الحرب العالمية حتمت عليه البقاء ويا للمفارقة سيكون جنديا في الجيش الأمريكي في الجبهة الفرنسية في ضاحية بوردو لمدة عام ونصف العام، وفي عودته واجه الحياة القاسية في تحصيل لقمة العيش بكرامة، فلم يكن الكاتب من الراغبين في مراكمة الأرباح ولا اللهاث بغية المتعة بقدر ما كان تحصيل العيش كفافا بكرامة منصرفا إلى تحصيل الثقافة والتأمل في جدوى الحياة.
هل كان نعيمة ماسونيا؟
انتمى إلى الماسونية باعترافه وحصل على درجتين فقد كان معجبا بكل تفكير إنساني يتجاوز الخلفيات الإثنية والطائفية والعقائدية، ويركز على الإنسان وعلى الروح التي ينبغي إعلاؤها فيه، لكنه لم يستمر منخرطا ولم يكن الانتماء إلى الحركة الماسونية سبة في ذلك الوقت، فقد كانت رديفا للأنوار والإنسانية، وكان المنتمي إليها يسعى إلى نعت نفسه بالمنتمي إلى حلقة حملة الأنوار، لكن البعض من المفكرين الذين ظهرت لهم نواياها اليهودية انسحبوا منها كما فعل الأفغاني ومحمد عبده وغيرهما.
الحياة في أمريكا لخصها الكاتب بالدردور، أي الدوامة في لهاث المرء وسعيه من أجل الربح ومراكمة المال والمتعة، وهو ما عزف عنه منصرفا إلى القراءة والتأمل، مكتفيا بالنزر الذي يحفظ له الكرامة وفي هذا التاريخ نظم الكاتب قصيدته المشهورة «أخي» تزامنا مع المجاعة التي ضربت لبنان وسوريا، ومات فيها الآلاف، وهي كذلك ظاهر فيها المنزع التجديدي في القالب والمضمون الشعري، ما يؤكد أن الكاتب والشاعر ميخائيل نعيمة قد أفاد من اطلاعه على الأدب العالمي، ومن نزوعه إلى التفكير والتأمل، وإلى ضرورة ابتكار أدب للحياة معجون بطينها ودمعها وأمانيها وهواجسها، هو ابن يومه لا أمسه ومتوجه إلى الإنسان.
في نيويورك كان الأدب العربي مع حدث مهم سوف يساهم في نهضته وانفتاحه على الجديد، وهو ذلك اللقاء الذي جمع لفيفا من الشوام – سوريين ولبنانيين- المهاجرين إلى أمريكا للعيش، الذين تجمعهم جميعا حرقة الكلمة وتوهج الوجدان والآمال الكبار بنهضة عربية أدبية وفكرية وصناعية، لقد تأسست في 20 نيسان/أبريل 1920 الرابطة القلمية في نيويورك، وعهد إلى جبران رئاستها ونعيمة كاتم السر ووليم كاتسفليس أمانة المال. وفي جريدة «الفنون» التي أسسها نسيب عريضة، ثم «السائح» التي أسسها عبد المسيح حداد، وصارت لسان الرابطة القلمية نشر نعيمة كثيرا من شعره المهموس الجديد ومقالاته النقدية التي جمعها في كتاب «الغربال» الذي كتب العقاد مقدمته، إيمانا منه بالجديد في الشكل والمضمون عند نعيمة والرابطة القلمية عامة أسوة بما تقوم به أبولو والديوان، على الرغم من النقد الموجه إليها بضعف اللغة وركاكة التعبير عند بعض المبدعين المهجريين، كما أشار إليه العقاد وطه حسين.
في الأمم المتحدة
من أكثر ما يفاجئ به نعيمة قارئ سيرته، لقاؤه في المكتب البيضاوي بالرئيس ولسون، الذي كان معجبا به وبفكره الإنساني ورغبته في تحقيق السلم العالمي، عبر إنشاء عصبة الأمم، لولا الدهاء الاستعماري من كليمنصو فرنسا ولويد جورج بريطانيا كما ذكر، وقد قدم نعيمة لولسون هدية رمزية مهداة من قبل الجالية السورية في البرازيل، ومتأثرا بحالته الصحية وتأثير المرض عليه. وفي أمريكا عاش نعيمة قصتي حب مع امرأتين الأولى مع بيلا والثانية مع نيونا البولندية الأصل، وكانتا متزوجتين، لكنه كما يصف الكاتب كان حبا ملهبا للمشاعر والانفلات من كل قيود إلا الإخلاص للواعج الشوق واقتناص لذات الحب، بعيدا عن الأعين. وانتهى به الأمر إلى الانسحاب من حياتيهما، تاركا كل واحدة منهما لحياتها الزوجية، ترأب صدع علاقتها بزوجها بمعرفتها وحنكتها.
في المرحلة الثالثة من 1932 وحتى 1959 وهي المرحلة الثالثة، التي عاد فيه الكاتب من أمريكا للاستقرار النهائي في لبنان وفي قريته بسكنتا مؤثرا عدم الزواج ومتفرغا للقراءة والكتابة والتأمل ورعاية أسرته المتكونة من والديه وبعض إخوته، ومقدما خدمة اجتماعية لأهالي بسكنتا أفاض في الحديث عنها، حيث تحول إلى كاتب عمومي باللغات الثلاث لأهالي بلدته وأبنائها المغتربين.
حياة الكاتب في بسكنتا الهادئة كانت بعد حياة طويلة في الغربة في طلب العلم وفي انتزاع اللقمة وفي إقبال أولي على متع الحياة، انتهت إلى عزلة صوفية ومتوحدة بالطبيعة، لكنها متأصلة في الكاتب، لقد اشتهر بلقب ناس الشخروب، وغدا بيته قبلة للعلماء والمفكرين والأدباء، يزورونه ليستمتعوا بلحظات في معية هذا الإنسان الكبير والمفكر والشاعر والكاتب البليغ وقد كتب غب عودته إلى بسكنتا (من زمان دفنت خمسا من شهواتي الخمس والخمسين شهوة السلطان وشهوة الغنى وشهوة النساء وشهوة الشهرة و وشهوة الخلود).
إن نعيمة الذي كتب سيرته الذاتية عام 1959 وقد بلغ السبعين مقدما شهادة على العصر، وعلى ظروف لبنان والعالم العربي التاريخية، ثم الدخول في مرحلة التحرر والاستقلال وبناء عهد جديد قائم على العلم والأدب والدين، لم يكن يدرك أن العمر سوف يمتد به طويلا حتى نهاية القرن، وأنه سيزيد هذه الحياة حبا للطبيعة والناس وللتأمل الفكري والروحي، الذي يجد ترجمته الأدبية في مؤلفاته الشعرية والنثرية «زاد المعاد» «همس الجفون» «كرم على درب»وغيرها، التي لقيت من العالم العربي إعجابا شديدا، فقد كان أدبه ذا مسحة إنسانية وتجديدية يكره التقليد والجعجعة اللفظية واحتذاء أساليب الأقدمين، فهو أدب ينفذ إلى القلب مباشرة بلا طنين، يهمس في الأذن لينفذ إلى القلب، لا يستند إلى فصاحة الخطيب وجهورية صوته وقد كان لذلك الأدب صداه الكبير في عالمنا العربي، سواء أتعلق الأمر بإبداع نعيمة وحده أم بإبداع الرابطة القلمية التي تضافرت جهودها مع أبولو والديوان على بعث الروح في أدبنا العربي الحديث وجعله نابضا بالحياة كآداب العالم.
سيرة ذاتية لا يجد فيها القارئ طغيان الأنا، ولا يجد نرجسية مبالغا فيها وتمدحا كبيرا للذات وإعجابا ببطولاتها، بقدر ما يجد تواضعا معرفيا على الرغم من استخدمه ضمير المتكلم لا لشيء إلا لاندغام السارد في متونه السردية مثلما يتوحد بالطبيعة في تأملات، فتغدو الذات والموضوع واحدا، وفي كثير من التواضع الذي يعرف به، مسلطا الضوء على مراحل حياته لينفذ منها القارئ إلى تاريخ لبنان في نهاية القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وكذا البلاد العربية، كما يجد فيها النقاد ومحبو الأدب المهجري جوانب خفية مشارا إليها وتفاصيل نشأة الرابطة القلمية وعقابيل انتشار الأدب العربي بين أبناء الجالية، بفعل تأثير الثقافة الأمريكية ومصاعب الحياة وكنهها في الغرب، فالمرء يظل يحمل لغته وهمومه وآماله الوطنية الكبيرة أينما حل وارتحل، وقد كانت تلك السيرة فعلا بقعة ضوء مسلطة على مرحلة من حياة الكاتب وتاريخ لبنان في العصر الحديث.
***
*القدس العربي 10-4-2023