د.حسن صعب
كل مواطن لبناني، مسلماً كان أم مسيحياً، يتمنى لو يكون الاحتفال بقيامة السيد المسيح يوم الاحتفال بقيامة لبنان جديد، الإسلام كالمسيحية يكرم المسيح، وإن كرّمه رسولاً ولم يتقبله إلهاً، وإن اعتبره كلمة الله ومعجزته، ولم يعترف به ابناً لله، ” الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوة أحد” وإن برّأه من الصلب، ورفعه إلى الملكوت الأعلى، نجدة من الآثمين المتآمرين عليه. فهو مع خالقه حتى يأذن له بعودة جديدة يملأ فيها الأرض عدلاً بعد أن تكون قد ملئت جوراً وكانت معجزة المسيح الأولى، كما يعلمنا القرآن الكريم، أنه خاطب الناس (في المهد) لدى ولادته، ليقول لهم “والسلام علي يوم ولدت ويوم اموت ويوم ابعث حياً ذلك عيسى ابن مريم قول الحق”. يفتتح خطابه إلى البشر، كما يفتتح المسلم كل خطاب، بالسلام!
وذلك هو عيسى بن مريم يتحدى الوجود منذ مولده بحياة الألم!
وذلك هو عيسى بن مريم يواعدنا البعث منبثقاً من الألم، بل القيامة تقهر الموت!
فهل من رمز لقيامة لبنان وانبعاثه أصدق من هذا الرمز، الذي يتلاقى حوله مسلمو لبنان ومسيحيوه؟
مسيحيو لبنان يحتفلون بمعجزة موت المسيح وبعثه.
ومسلمو لبنان يرفضون موته ويتطلعون إلى بعثه.
فلماذا لا يعي المسلمون والمسيحيون هذا المعنى الخلودي لحياة السيد المسيح، ليكون الاحتفال به إعلاناً إسلامياً مسيحياً، إيذاناً:
بأن لبنان لن يموت.
وبأن لبنان سيبعث حياً.
وبأن أبناء لبنان لن يدعوا لبنان يموت.
وبأن أبناء لبنان سيبعثونه حياً.
إن هذا الإعلان هو انطلاق للبنان جديد.
ولا ينطلق لبنان جديد إلا بوعي جديد لمعنى وجوده الروحي الخلودي. إن هذا المعنى يعلو في نفوسنا أيّ وجود آخر لوجود لبنان.
يقول بعضنا إن لبنان هو وارث فينيقيا!
ويقول بعضنا إنه ابن العروبة البارّ!
ويقول بعضنا إنه وليد إمارتي المعنيين والشهابيين!
ويقول آباء الاستقلال إنه متوج الميثاق الوطني لعام 1943!
وكل هذه صور باهتة للبنان التطور التاريخي، الذي يتراوح بين البقاء والزوال، والذي يبدو الآن، بمنظار التاريخ العارض، أقرب إلى الزوال منه إلى البقاء!
ولا ينقذه من الزوال إلا قدرة أبنائه على تجاوز عرض وجوده إلى جوهره، والاحتفال بقيامة السيد المسيح فرصة هذا التجاوز، وفرصة وعي معنى البعث الذي يعلو عرضي الحياة والموت، وعرضي البقاء والزوال، ويزكي التوالد الخلودي!
فهل كانت قيامة المسيح، كما يحتفل بها المسيحيون؟ وهل سيكون انبعاثه كما يهفو إليه المسلمون، بقوة السيف أو بقوة الروح الإلهي؟
اليهود والرومان هم الذين أرادوا موت المسيح بقوة السيف!
والله أنقذه كما خلقه وكما يبعثه بقوة الروح وقوة الكلمة منتصرين على قوة السيف!
فإذا استخلصنا العبرة من تجربة المسيح، التي يقدسها المسلمون والمسيحيون، فهل تكون قيامة لبنان بقوة السيف أو بقوة الروح، وهل يكون انبعاثه بنار المعركة أو بنور الكلمة؟
إننا، مسلمين ومسيحيين، تعلو في اعتقادنا قوة الروح أية قوة أخرى، وتسمو قدرة الكلمة أية قدرة.
لكننا نتصرف، منذ عام 1975، كأننا روحيون بالقول وعنفيون بالفعل، وكأننا مسلمون ومسيحيون بالاسم وغابيون بالسلوك!
إننا نتنكر لمعنى وجودنا الروحي الخلودي.
فنمسخ هذا الوجود عرضاً من اعراض التاريخ الزوالي.
ونفعل كل هذا دفاعاً عن المسيحية أو الإسلام!
ونفعل كل هذا دفاعاً عن سيادة لبنان!
ونفعل كل هذا دفاعاً عن عروبة لبنان!
فأية مسيحية وأي إسلام وأية سيادة وأية عروبة للبنان يزول من الوجود؟
وهل من هوية أو سيادة لكائن محتضر إلا هوية الموت، وسيادة الفناء؟
إننا نحتفل، منذ العام 1975، بقيامة السيد المسيح، أي بانتصار الحياة على الموت، لكننا نخوض في الوقت ذاته جولة للموت بعد الأخرى. وكل جولة أسوأ من سابقتها. وكل جولة خطوة جديدة في درب الفناء.
فمتى يصبح الاحتفال بقيامة لبنان الجديد مع احتفالنا بقيامة المسيح؟
ان هذا سيكون عندما نعي جميعاً أن قوة لبنان الروحية ليست بالاسلام دون المسيحية، ولا بالمسيحية دون الإسلام، لكنها بالاسلام والمسيحية معاً، بما لهما من قيم علوية مشتركة، كالمحبة والإحسان والعدل والمساواة.
وإن هذا سيكون عندما نسلم لأنفسنا بصدق، بأن قوة وجود لبنان ليست بمسلميه دون مسيحييه، ولا بمسيحييه دون مسلميه، بل بمسلميه ومسيحييه، متلاحمين في السراء والضراء.
وإن هذا سيكون حينما نستوحي تفكيرنا وسلوكنا الروح الإسلامية الحقة والروح المسيحية الحقة لا العصبيات الطائفية والمذهبية، التي انشقت عن هذه الروح، وأصبحت نقائض لها!
إن الاحتفال بقيامة السيد المسيح يجب أن يكون احتفالاً بقيامة جديدة للروح الإسلامية الحقة وللروح المسيحية الحقة، ليصير احتفالاً بقيامة جديدة للبنان جديد!
ويبدو هذا القول أقرب الى موعظة دينية منه إلى حكمة سياسية. والموعظة الدينية هي شأن رجال الدين في الأعياد وفي أيام الجمعة والآحاد ! لكن الحقيقة هي غير ذلك. الحقيقة هي أن الموعظة الدينية هي حكمة وجودية، وأن الحكمة السياسية هي موعظة وجودية. ولبنان مدعو الآن إلى أن يتذكر في كل عيد، بل في كل يوم، بل في كل لحظة، حكمته الوجودية. لأن شعبه معرّض في كل لحظة لقذيفة إفنائية.
وقصف القذائف يقتل لبنانياً بعد الآخر، نعتبره شهيدنا، مسلماً كان أم مسيحياً. لكن هذا القصف يقتل في الآن ذاته كل لبنان، ويقتنص كل اللبنانيين، لأنه يفقدهم أملهم في مستقبل حياتهم في لبنان بل في مستقبل الحياة في لبنان. فإذا كان هناك من «مشروع» تصفية لبنان، فإن هذا المشروع يتقدم. وأياً كان واضعوه، فإن أبطال تنفيذه هم من اللبنانيين أنفسهم. لأن حياة الوطن والدولة وموتهما هما في نفوس المواطنين قبل أن يكونا على الأرض. وليهنأ الذين خططوا ولا يزالون يخططون لموت لبنان، لأنهم استطاعوا أن يجدوا أبطالاً منفذين لمخططهم من اللبنانيين.
ولا جدوى لأي مسعى عربي أو دولي لإنقاذ لبنان، إذا مات لبنان في نفوس أبنائه، وإذا كانت لجنة دفنه مؤلفة من حفنة من هؤلاء الأبناء، الذين طغت عندهم شهوة الحكم على إرادة الحياة لشعبه، وإذا لم ينتفض هذا الشعب الانتفاضة العارمة، ليعلن للعالم كله أن إرادته العامة وأن حياته العامة هما فوق كل إرادة خاصة وكل حياة خاصة!
وأي يوم أولى بمثل هذه الانتفاضة من يوم قيامة السيد المسيح؟
وأي يوم أولى بأن يصرخ فيه شعب لبنان، كل شعب لبنان، في وجه الجميع، أينما كانوا وحيثما كانوا:
أوقفوا القصف أيها الأبطال!
أوقفوا القتل أيها المنقذون!
فالقصف لا ينقذ لبنان لكنه يودي به!
والقتل لا يحرر لبنان لكنه يذهب له!
وفكروا في يوم قيام المسيح في شهداء تقاصفكم من أمهاتكم وأبناءكم!
فكروا أن كل الرئاسات لا تعادل حياة إنسان!
وفكروا أن كل المرافىء لا تساوي احتضار طفل في أوتوبيس المدرسة.
فكروا أيها المحررون في الذل الذي تجلبونه على مواطنيكم بإقفال مطار بيروت!
وتصوروا إن كنتم لا تسافرون مهانة مواطنيكم في المرافىء والمطارات التي تكرهونهم على التحول للسفر منها.
وفكروا في الطوابير المؤلفة لدى أبواب السفارات من أبنائكم الذين يطلبون تأشيرة النزوح بعدما يئسوا من الحياة في لبنان.
وتذكروا أن سفارات عربية وأجنبية تصفعنا جميعاً وهي ترفض التأشيرة لأي لبناني لأن كل لبناني أًصبح إرهابياً بفضل حروب التحرير التي تشنّون !
أتلك هي حرية لبنان التي تستعيدون ؟
أهي حرية اللبناني في أن يكون أو حرية الآخرين في اعتباره دون مستوى سائر البشر ؟
إن تذكرة قيامة المسيح هي دعوة جديدة لقيامة لبنان لا لإزالته.
وهي دعوة لجولة جديدة من التحاور لا لجولة جديدة من التقاصف بين اللبنانيين.
وهي نداء لجولة جديدة من التحاور حول لبنان لا للتقاصف فوق أنقاض لبنان.
وأي جدوى من مساعي لجنة الجامعة العربية، إذا كان أقرب عضوي الجامعة يتخذان من لبنان ساحة تنازع وتقاصف بينهما؟
اللهم اشهد أننا نشدنا ولا نزال ننشد وحدة تشمل كل العرب، وفي طليعتهم الإخوان الذين التزموا أمة واحدة ذات رسالة خالدة.
ونشدنا هذه الوحدة ذرعاً لوحدة لبنان ولعروبته ولسيادته واستقلاله.
ونشدناها تحصيناً عربياً موحداً لانتفاضة شعب فلسطين البطولية ولدولة فلسطين المستقلة.
قيامة السيد المسيح تستدعي قيامة لبنانية واحدة.
وقيامة السيد المسيح تستفز قيامة فلسطينية واحدة.
وقيامة السيد المسيح تستثير قيامة عربية واحدة.
إن قيامته هي انبعاث لروحنا الإلهية الإنسانية الواحدة.
فهل ننبعث من القبور، أو تمر بنا القيامة، ونظل مع أهل القبور ؟
***
* المفكر السياسي اللبناني الراحل الدكتور حسن صعب
المصدر: مؤسسة حسن صعب للدراسات والابحاث
المنسق الإعلامي: محمد ع. درويش