ينشر الأديب المهجريّ د. جميل الدويهي مقاطع من كتابه الفكريّ الثاني عشر “المتقدّم في النور” لتأكيد المؤكّد: طبيعة الأدب المهجريّ الصحيح والفاعل، الذي تثبته البراهين على الأرض. ويرجو من كلّ صاحب ضمير، ومشتغل في النقد أو في أيّ ناحية ثقافيّة أن يأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار.
النصّ الرابع: الفلاّح والصلاة
في تلك الساعة، مرّ فلاّح عجوز في السهل، وهو يقود دابّة حقيرة، فرأى الكاهن وجماعته، فخفّ إليهم، وقال لهم:
هل تعترضون لو ربطت هذه الدابّة إلى الشجرة التي هنا، وتوجّهت إلى المعبد القريب لكي أصلّي؟
نظر الكاهن إلى الرجل، وسأله بتعجّب:
ولماذا تريد أن تصلّي وأنت تعمل؟
قال: الصلاة فرض وواجب، والعمل ليس كذلك…
-بلى. العمل فرض وواجب، بل هو صلاة أيضاً.
“لم أفهم”، قال الفلاّح.
عند ذلك، جال الكاهن ببصره في البعيد، ثمّ التفت إلى تلاميذه القاعدين على العشب، وتأمّل الفلاّح بعمق وهو يقول:
الصلاة التي تخرج من الشفاه هي كلام باطل، والصلاة التي تخرج من الأرواح هي كلام حقّ. ومن الصمت ما يكون أعمق من الكلام. فخذوا صلاتكم إلى معابدكم كما تأخذ الوردة عطرها وتنشره في الهواء، وكما يرفع العصفور أغنيته في وجه الصباح، فيزيده نوراً على نور.
وأعظم صلاة هي محبّتكم لإخوتكم. فما أبشع الذين يصلّون وهم يكرهون، ويتضرّعون وهم يجحدون، ويبدعون في ترداد الأناشيد التي حفظوها، كما تردّد الببّغاءات أحاديث الثرثرة. ولو كنتم في معابدكم تبالغون في التعبير عن محبّتكم للإله، وفي الخارج غير المؤمن يضمّد جراح شابّ سقط عن فرسه، فقد يكون غير المؤمن أكثر إيماناً منكم.
إنّ الله يحبّ أن تصلّوا له، تعبيراً عن الشكر والامتنان لما جادت به عليكم يداه الطاهرتان وقلبه الغافر، ولكن لو اجتاح الفيضان المدينة، وكنتم في المعابد، لأرسل الله ملائكته إليكم، فيأمرونكم بالخروج من المعابد، والذهاب إلى الشوارع والساحات والبيوت لإنقاذ الغرقى، وتخفيف المعاناة عن الأرواح المتألّمة… فأيّهما أفضل، أن تكرّروا الصلاة التي تعلّمتموها، أم أن تعطوا رداء لعريان، ورغيفاً لجائع، وماء لعطشان؟ ولو اجتمعت الصلاة مع تلك القيَم النبيلة، لارتفعتم إلى العلاء بأجسادكم وأرواحكم، فوق الإنسانيّة، وصرتم من المباركين.
توقّف الكاهن عن الكلام، ليأخذ نفساً عميقاً، ثمّ خاطب الفلاّح العجوز، قائلاً: إمضِ أيّها الصّدّيق إلى المعبد، وصلّ من قلبك إلى الخالق العظيم الذي علّمك كيف تزرع وتحصد، وتجعل من الأرض جنّة تفيض بالقمح والأعناب، ولكن لا تنس إخوة لك يطلبون حبّة قمح ليأكلوا. فصلِّ من أجل هؤلاء أيضاً. وعندما تعود إلى كرومك، تذكّر دائماً أنّ عملك هو صلاة وعبادة، بل هو من أرفع الصلاة والعبادة، لأنّ فيه خيراً لك وللناس.
هزّ الفلاّح برأسه، وفرح كثيراً بما فهمه من حديث المعلّم. وبينما أدار ظهره ليغيب خلف الأشجار، قعد الجمع حول البساط، وصلّوا بحرارة إلى الله، لكي يجمعهم دائماً ولا يتفرّقوا. وكان بينهم رجل ثلاثينيّ جميل الصوت، فغنّى لهم، وظلّوا كذلك حتّى المساء.
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.