جميل الدويهي: “المتقدّم في النور” وأنوار الأدب… مُفترق مهمّ في الأدب الاغترابيّ (2)

 

 

 

ينشر الأديب المهجريّ د. جميل الدويهي مقاطع من كتابه الفكريّ الثاني عشر “المتقدّم في النور” لتأكيد المؤكّد: طبيعة الأدب المهجريّ الصحيح والفاعل، الذي تثبته البراهين على الأرض. ويرجو من كلّ صاحب ضمير، ومشتغل في النقد أو في أيّ ناحية ثقافيّة أن يأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار.

 

النصّ الثالث: لم تزرع لكنّها حصدت

كان في إحدى القرى حقل فيه أثمار طيّبة، وكانت الطيور تأكل منه كلّ صباح، فتضايق صاحب الحقل، ووضع سياجاً يحمي أرضه من الطيور، كما أقام شراكاً لتقع فيها العصافير وتموت. وبعد سنة، يبس الحقل، وجفّت عروقه، وامتنع أن يعطي ثمرة واحدة، ما عدا تلك التي تهترئ على أمّاتها قبل أن تنضج…

ولكن حذار أن تقولوا إنّ الكروم كلّها تتشابه. فهي تأخذ من أيديكم التعب والعرق، وتعطيكم من تعبها وعرقها أيضاً. وإذا كانت لديكم شجرة لا تثمر، فاسألوا أنفسكم: ماذا أعطيتم لها؟ وكم ضحّيتم من أجلها؟ ولا تطلبوا بالمجانّ إلاّ إذا أعطيتم بالمجانّ. ولا تقولوا إنّ الأشجار كلّها ذات قيمة واحدة. فكيف تتساوى نبتة يابسة مع نبتة خضراء؟ وكيف يتساوى النبع الجافّ مع نبع غزير يسقي العطاش؟…

أوَما سمعتم بقصّة الصرّار والنملة؟

كان هناك صرّار يغنّي في الصيف، ولا يعمل شيئاً لكي يعيش. فشعر بجوع، ومضى إلى جارته النملة، يطلب منها طعاماً، فسألته: ماذا كنت تفعل في وقت الحرّ؟ فأجابها: كنت أغنّي. فقالت له: كنت تغنّي؟ حسناً، فارقص الآن.

“انتهت القصّة هنا، فماذا فهمتم منها؟” سأل المعلّم تلاميذه، بينما كانوا يمدّون بساطاً على الأديم الأخضر، ويحضّرون خبزاً وزيتوناً للغداء؟

أجاب تلميذ، هو الأصغر بينهم: لقد تعلّمت يا سيّدي في المدرسة هذه الأقصوصة الشعريّة التي كتبها لا فونتين في أوسط القرن السابع عشر. وفهمت منها أنّ على الإنسان الجهاد لكي يحصل على قوته. وإذا لم يفعل ذلك، تعرّض للجوع والفاقة، ووجد نفسه يطرق على أبواب الآخرين لينقذوه من محنته.

“أحسنت”، قال المعلّم. وأردف:

لو طلبتُ منك أن تضيف إلى هذه القصّة، فماذا تضيف؟

حكّ التلميذ رأسه، وفكّر بعمق، وقال:

أعتقد يا معلّمي أنّ لافونتين أخطأ عندما صوّر لنا استجابة النملة لطلب جارها… فقد كان ينبغي أن تغدق عليه، وهو لم يطلب كثيراً. والنملة لم تزرع لكنّها حصدت. وجميع ما في وكرها من الحبوب والحنطة هو أيضاً من شقاء الآخرين، فلا يجب أن تمنع القوت عن جائع ومحتاج… وإنّ روحها الشرّيرة هي التي هيمنت على روحها الخيّرة عندما سخرت من طالب المساعدة، وأرادت منه أن يرقص من الألم قبل أن يواجه الموت جوعاً.

فرح المعلّم بما سمعه من هذا الفتى الصغير، وقال مرّة أخرى:

هل ترون أنّ الصرّار والنملة في منزلة واحدة؟

أجابوا كلّهم بصوت واحد: لا. لا يمكن أن يكونا في منزلة واحدة. وشرح واحد منهم الموقف باختصار:

لقد جاهدت النملة في الحصاد وهي لم تزرع، ففضْلها في حصادها. أمّا الصرّار فلم يزرع ولم يحصد، فلا فضْل له. وسيكون من العار أن يمضي هذا التعيس إلى أهله، ويخبرهم أنّ كفاحه في الحياة كان أعظم من كفاح النملة، ويزعم أنّه يستحقّ التقدير والتمجيد، وهي تستحقّ الاحتقار. وصدقاً أقول لكم إنّ هناك زارعَين آخرَين للقمح، الله وصاحب الحقل.

نظر التلاميذ بتعجّب إلى رفيقهم، واستحسنوا قوله. أمّا الكاهن فابتسم، وربّت على كتف الشابّ، وقال بصوت خفيض:

كم من الناس في مجتمعاتنا يضحّون ويبذلون ويسهرون الليالي، ويقطف غيرهم ثمار النوم والكسل، تمجيداً وتفخيماً! إنّها سُنّة غريبة في العصر الجديد، وقمّة اللاعدالة.

***

النصّ الرابع:  الله ونحن

-هل للإله جسد أم روح؟

-لست أعرف إذا كان له جسد. وروحه ليست كأرواحنا، بل هي خالدة، لا عمر لها ولا انتهاء لأيّامها. وفي الإله أيضاً قيَم لا ندركها، كإرادة الخلق، والإبداع، والطاقة الهائلة التي كوّنت ما هو معروف لنا، وما لا ندركه. وتلك الطاقة هي التي تسيّر الوجود، ولا تخطئ.

-ولماذا لسنا ندرك؟

-لأنّ عقولنا صغيرة… وعلى الرغم من ذلك فهي تقودنا إلى مسالك الخير والشرّ، في ضوء الروح. فإذا كانت الروح شرّيرة كان الجسد شرّيراًَ، وإذا كانت خيّرة كان الجسد خيّراً… وسأعطيك مثلاً واضحاً، لكي تعرف حجم العقل الذي تتخايل به، وتعتقد أنّه وسيلة للمعرفة: كان هناك عالِم مخترع، تمكّن من اختراع آلة يرى بها الكون. وعندما شغّل الآلة، تراءت له أبعاد لا تحدّ، وأكوان كثيرة لم تكن معروفة، فكاد يطير من الفرح. آلاف الكواكب انبسطت أمامه، ومجرّات كثيرة اتّضحت له. بيد أنّ قدرة الآلة كانت لها حدود، فتوقّفت، ولم يعد ذلك العالِم يعرف ماذا بَعد البَعد. فطوّر آلته مرّة بعد مرّة، وفي كلّ مرّة كانت تَظهر له أكوان، ثمّ تتوقّف الآلة… هل فهمت ماذا أعني؟

قال التلميذ: فهمت. إذن أنحن صغار إلى هذا الحدّ؟

-نعم… نعم… إنّ الكون الذي نعرفه قد يكون بمقدار حبّة رمل بين الأكوان التي لا نعرفها، والأرض التي نتخاصم ونتشاجر عليها أقلّ بملايين المرّات عن حبّة الرمل تلك، والفرد البشريّ أصغر بملايين المرّات أيضاً عن تلك الجزيئة الحقيرة التي هي الأرض… ولكي تقتنعوا بصدق ما أقوله، فإنّ علماء الفلك اكتشفوا مؤخّراً ثقباً أسود هائلاً، يبلغ حجمه حوالي 33 مليار ضعف حجم الشمس. والشمس نفسها أكبر من الأرض بحوالي مليون وثلاثمئة ألف مرّة. وإذا اعتبرنا أنّ هناك ثقوباً سوداء أخرى كثيرة، يبلغ حجمها معاً ما بين 10 مليارات و40 مليار ضعف كتلة الشمس، يتبيّن لنا أنّ المجرّة التي نحن جزء منها لا تعادل حبّة طحين، والإنسان أصغر بمليارات المرّات عن تلك الحبّة…

لقد وصلت البشريّة إلى حدّ الجنون في تمجيدها لعظماء الحرب، وهم لا يختلفون عن باعة الحمام والصيارفة الذين طردهم السيّد المسيح من بيت أبيه. والعالم من أقصاه إلى أقصاه بيت للربّ، وقد صنعه من فكره وإرادته. والذين يقتلون الإنسان، يقتلون ما صنعه الربّ، ويعتدون على أملاكه، فكيف يعظّمهم البسطاء، ويرفعون لهم التماثيل في الساحات؟ وهل من العدل أن يتبع رجل دين قائداً محارباً، ويسير في هديه؟

لقد التبس الأمر على البشر، فخلطوا بين الأمجاد الحقيقيّة التي تكون للعلماء، والمخترعين، والمناضلين من أجل الحرّيّة وحقوق الإنسان، وبين الزعماء الذين يقودون الشعوب إلى مسالخ القتل، ويحرقون المدن والقرى، ويهدمون البنيان، وينكّلون بالأبرياء ولا يرفّ لهم جفن… ولا تعتقدوا أنّ الذي يشنّ حرباً إنّما يقتل الأعداء فقط، بل هو مسؤول أيضاً عن الأرواح التي تطيع أمره، وتموت من أجل الشعارات التي يخدّر بها الجماهير.

***

*مشروع الأديب د. جميل الدويهي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي

 النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع.

اترك رد