بدأت مقاطع من كتابي الفكريّ الثاني عشر “المتقدّم في النور”، في الظهور على صفحتي على فيسبوك، لإثبات المثبت، وهو أنّ أدبنا المهجريّ الجديد قطع مرحلة مهمّة، وتعمّد بالسهر والتضحيات الجسام، ليصل إلى ما وصل إليه من الرفعة والسموّ.
هو الكتاب الثاني عشر من أعمالي الفكريّة، منذ “في معبد الروح”، و”تأمّلات من صفاء الروح” اللذين نشرتهما بالعربيّة والانكليزيّة، من ضمن مشروعي “أفكار اغترابيّة” للأدب الراقي. وسألت نفسي وأنا أعدّ الكتاب للمطبعة: لماذا أرهق نفسي بأفكار، كان يمكن أن أغضّ الطرف عنها لصالح الشعر، ما دام هناك من يؤمنون بأنّ الشعر وحده هو الأدب، ويعوّلون عليه في إحداث الثورة المنشودة؟
لست مؤمناً بنظريّة الشعر وحده. وكان يمكنني أن أكتفي بأعمالي الشعريّة، ولا أرهق نفسي في النثر، وهو أصعب، خصوصاً إذا كان الأديب يخطّ لنفسه نهجاً مغايراً في الفكر والرواية والقصّة القصيرة، ويضيف إلى الحضارة… فالسؤال “ماذا أضيف؟” هو السؤال الذي يجب أن يطرحه على نفسه كلّ مشتغل في الأدب يسعى إلى التميّز والاختلاف.
ولو نظرنا إلى أدبنا المهجريّ نظرة متمعّنة، فلا نجد مشروعاً متكاملاً، بل محاولات فرديّة في هذا النوع من الأدب أو ذاك. وما تميّز به “أفكار اغترابيّة” أنّه احتضن الأنواع المختلفة من الأدب. ففي رحابه الشعر، والرواية، والقصّة القصيرة، والفكر، والتأريخ، والدراسة الأكاديميّة… وبعضها باللغتين العربيّة والإنكليزيّة. ويمثّل الفكر أحد الأعمدة المتينة لهذا المشروع، وما أُطلق عليه اسم النهضة الاغترابيّة الثانية، وهي نهضة أردناها أن تتخطّى الشعر إلى مجالات أبعد. وعندما نضع على الطاولة روايات وأعمالاً فكريّة وترجمات، ودراسات… نحاول أن نوجّه الأنظار إلى التعدّد، وهو من العناصر التي يختصّ بها أفكار اغترابيّة دون سواه.
وللأسف، ليس في أستراليا نقد يتناولنا، ما عدا مشاركين في جلسات حواريّة نقيمها دوريّاً. ونحن نملك الكثير من وسائل الإبداع ونعرضها كلّ يوم أمام الناس، والمقارنة التي طرحناها فيصلاً في الأدب والنقد الأدبيّ، باتت شعاراً لدى الكبير والصغير. بيد أنّها أيضاً غير مقبولة لدى شريحة من المهتمّين، لأنّها تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
وهذا الكتاب جزء من مخزوننا الحضاريّ. قد يكون لافتاً للبعض، وعاديّاً في نظر البعض الآخر. وهذا لا يهمّ بقدر ما يهمّ وصول المنجز إلى أهل الرأي الصادق، والنقد الصحيح. وهؤلاء فقط الممثّلون الشرعيّون للحكم، والمؤهّلون للدراسة. فالنقد ليس ساحة مفتوحة لمن هبّ ودبّ، بل هو علم مقدّس له أصوله ومبادئه العلميّة.
وهذا الكتاب هو تأكيد على إصراري، في رحلتي مع أفكار اغترابيّة التي بدأتها منذ العام 2014، وهي رحلة فكريّة، خرجت بالأدب في أستراليا عن مساره التقليديّ، إلى أروقة مفتوحة على الهواء والنور. وفيه فلسفتي في الحياة، ورؤيتي للخلق والعالم والإنسان الجديد. وأنا لست فيلسوفاً، كما هيغل لم يكن فيلسوفاً، والمبادئ التي أؤمن بها أساساً لحضارة ومدنيّة جديدة، هي خلاصة فلسفات وثقافات واتّجاهات متعدّدة. لكنّها فلسفة مفيدة للعالم، فلست معنيّاً بأسرار لا يمكن اكتشافها، بل بقيَم نستطيع الاعتماد عليها لإعادة تكوين المجتمع الحضاريّ، وتأسيسه على أعمدة الخير والمحبّة والحرّيّة والعدالة والتسامح. وعندي – كما قلت دائماً- أنّ الإنسان كان قبل الأديان، وقد جاءت لتنويره، أمّا الله، فكان قبل كلّ شيء، وقبل الوجود.
في هذا الكتاب صورتي الفكريّة والوجوديّة، وصورتي كناثر مهجريّ، يرى أنّ أيّ حركة أدبيّة ينبغي أن تنهض بجناحي النثر والشعر… كما صورة “أفكار اغترابيّة” الذي يبتعد في طموحه إلى الأعلى، ولا يدور في فلك ضيّق ومظلم. وأرجو أن يكون هذا السعي إلى الأمام دافعاً للدارسين، لكي ينظروا برويّة إلى منجزنا الحضاريّ الرفيع، والتوجّه إليه بالبحث والتبويب.
الغرض من نشر هذه المقاطع تأكيد المؤكّد. فنحن نضع أعمالنا على الطاولة ليراها جميع الناس، راجين أن نكون وفِّقنا في طرح أدب جديد وفاعل، وأن نكون محفّزاً لمن يعملون في حقل الإبداع، فنغتني من ثرائهم ومنجزهم النوعيّ.
ينشر الكتاب كاملاً على موقع أفكار اغترابية للأدب الراقي قريباً
www.jamildoaihi.com.au
***
النصّ الأوّل: أهل المعرفة
التفت الكاهن إلى تلاميذه، وسألهم قائلاً:
هل يعترض أحد منكم لو قلت إنّ حجم الغباء الذي فينا خطير ومدمّر؟
هزّ التلاميذ برؤوسهم، موافقين، ومتأمّلين في البعيد. كانوا صامتين، ولا يجرؤون على كلمة واحدة، في حضرة معلّمهم. لكنّ واحداً منهم رفع إصبعه، وقال للكاهن:
نحن نوهم أنفسنا بأنّنا أهل معرفة.
-صدقت. فإنّنا نعرف ولا نعرف. والحقيقة التي فهمناها منذ ولادتنا منقوصة، وبعيدة كثيراً جدّاً عن المعرفة الحقّة التي هي ملك الخالق. فلا علم، ولا تقدّم، ولا ثورة في المعلومات يمكنها أن تكشف لنا عن المخبوء في الزمان والمكان.
-يقول هيغل إنّ كلّ ما هو حقيقيّ واقعيّ، وكلّ واقعيّ حقيقيّ!
-إذا كنت مقتنعاً بما يذهب إليه هيغل، فاشرحه لي…
-لست مقتنعاً يا معلّمي، غير أنّني أحبّ تجريب كلّ شيء، وأصدّق ما أراه وألمسه.
-لا بأس. أنت عالِم. والعِلم وحده لا يكفي. فهل ما تدركه الحواسّ هو فقط الموجود؟ وهل الآلة وحدها تكفي لتصوير كلّ شيء؟ لقد وقع هيغل في المحظور وأدان نفسه بنفسه… ووصل به الأمر إلى حدّ السخرية. فالجاهل يعرف أنّ هناك موجودات لا نراها. والعلماء يتحدّثون كلّ يوم عن احتمالات يمكن اكتشاف حقيقتها في المستقبل. المقصود يا بنيّ من كلام هيغل أنّ الله غير موجود لأنّنا لا نعرفه بالبرهان في المختبر. وهذا المذهب لا قيمة له. فاللاوجود موجود أيضاً، كما يقول بارمنيدس وغيره من الفلاسفة، ونحن أيضاً الجالسين هنا. فإذا كانت لديك بحيرة فارغة، لا يعني ذلك استحالة وجود الماء فيها، فعندما تمطر السماء، تمتلئ البحيرة ماء، ففي حالة عدم وجود الماء في البحيرة، لا يمكن الجزم بأنّه غير موجود مطلقاً. ووجوده في الشتاء لا يعني أنّه كان لا موجوداً في الصيف. العيب إذن فينا وليس في الماء، لأنّنا نريد أن نخضع كلّ شيء للوعي والمحسوس.
-هل خطأ أن نكتشف؟
-لا. فالاكتشاف رغبة جامحة، وطموح إلى المجهول. والإنسان الذي لا يحاول الاكتشاف، يشبه النملة التي تكتفي من الحياة بأن تزحف على بطنها، وتحمل القوت إلى وكرها في التراب، وتتزوّج وتنجب نملاً كثيراً. فعلى الرغم من محدوديّة العقل، ليس علينا أن نرفض تشغيله من أجل الخير والفضيلة. لقد كان العالم منذ خمسين سنة غير ما هو عليه اليوم، وسيكون بعد خمسين سنة أخرى مختلفاً أيضاً. وهذا العقل الذي لا يزيد حجمه عن قبضة اليد، ويعرف قطرة واحدة من بحر المعرفة، هو جبّار فعلاً إذا اقترن بالإرادة. وعلينا أن نسعى في العِلم لأنّه ثورة على اللامعلوم، ولا نحبس أرواحنا في أقفاص، فنصبح كالطائر الجريح الذي لا يقدر على الطيران.
النصّ الثاني: وجود الله
“لقد رأينا في المدينة أناساً لا يؤمنون بأنّ الله موجود”… ارتفع صوت واحد من التلاميذ. فالفت إليه الكاهن المعلّم. وقال:
أعرف ذلك. ففي كلّ المدن والقرى أناس يدّعون المعرفة والفهم، ويتخايلون بأنّهم وصلوا إلى قمّة الجبل، وهم لم يبلغوا السفح. فمن أين جاء هؤلاء بالعِلم الذي يثبت عدم وجود الله؟ وهل يختلفون عن المؤمنين الذين لا يثبتون بالعِلم وجود الله؟ المؤمن وغير المؤمن لا يعرفان، أمّا المؤمن فيحبّ الله وهو لم يره. وغير المؤمن ينكر الله، وليس متأكّداً من عدم وجوده. ومع ذلك، لا تمعنوا في الجدال مع أحد، فقد يطول الجدال، ويتحوّل إلى مواجهة أنتم بغنى عنها. فالعنيد لا تشحذه وسيلة إقناع، ولا يغيّره منطق… لقد كان سقراط من السبّاقين إلى تقدير سبب الوجود. وتمعّن في الدوافع والـتأثيرات، واعتقد بأنّ كلّ ما نراه حولنا، أتى من مكان ما، وهو ما نعرّفه بأنّه “السبب الأوّل”، أي المصدر الذي انطلق منه كلّ شيء. وجاءت الديانات بعد عصور لتحدّد المصدر الأوّل للوجود بأنّه الله.
-البعض يقول إنّ الله قد مات…
-من أخبره بذلك؟ وهل شهد بأمّ عينه كيف تصادمت الكواكب وتحطّمت؟ وكيف توقّفت أمواج البحر عن الخفقان؟ وكيف انطفأت الشمس وحلّ ظلام على الأمم؟… لا يا بنيّ. فإنّ الحركة التي بدأت منذ الأزل لا تنفكّ تعمل بانتظام عجيب. والغيمة التي يبلغ وزنها آلاف الأطنان، لا تزال فوق الأرض، نكاد نلمسها باليد، ولو سقطت من مكانها، لدمّرت المدن وقتلت الملايين. وما دام عمل الله ماثلاً، فهو حيّ، ونحن أحياء فيه. ويحدّثكم البعض أنّ ولادة الكون كانت نتيجة المصادفة. فما رأيكم لو أخبرتكم عن مسرحيّة، فيها رجل يفقد أخته الصغرى بينما هما في السوق، ويبحث عنها، وتساعده الشرطة في ذلك… حتّى يعتقد الجميع أنّها اختفت عن وجه الأرض. وبعد سنوات، يكون الرجل في جبال الهملايا، فيعثر على أخته هناك… أفلا تقولون إنّ مؤلّف المسرحيّة فاشل، لأنّ هذه المصادفة غير ممكنة، ولا تدخل في عقل؟ فكيف بمليارات المصادفات التي تحدث في وقت واحد ولا تخطئ؟ أتلك أيضاً من نتاج مؤلّف فاشل؟
***
*جميل الدويهي: مشروع أفكار اغترابيّة للأدب الراقي
النهضة الاغترابيّة الثانية – تعدّد الأنواع